رغم العقوبات، التجارة القطرية مستمرة

فرص الهند وباكستان · سمحت أزمة الخليج، التي ما فتئت تتعمق شهرا بعد آخر، لقطر بإرساء علاقات اقتصادية جديدة أو تمتين علاقات كانت قائمة مع شركاء تاريخيين. ذلك هو الحال مع الهند وباكستان اللتان تمكنتا عبر علاقات تجارية عائلية قديمة من زيادة صادراتهما من المواد الغذائية نحو قطر مع الاحتفاظ بالحياد السياسي.

بضائع مستوردة في هايبر ماركت لولو، بالمسيلة، الدوحة
© Sebastian Castelier, octobre 2017.

يأمر سعيد بادشاه نجله بإحضار الشاي والمرطبات القادمة من باكستان. يرتدي الرجل ذو اللحية الطويلة قميص الشالوار الأبيض التقليدي، كما تشير ساعة ذهبية إلى ثراء رجل الأعمال الباكستاني ذي الخمسين سنة. هو يستقبل هذه الصبيحة في مكتبه المتواجد في الوسط الغربي من الدوحة بصحبة زميلين باكستانيين هما أيضا مستوردان للخضر والفواكه. أتى أحدهما من مسقط أما الآخر فجاء مباشرة من باكستان.

فبعد فترة وجيزة من بداية الحصار الذي فُرض على قطر في الخامس حزيران/ يونيو الماضي سهلت الحكومة القطرية شروط دخول المواطنين الباكستانيين، بإلغائها إلزامية وجود الكفيل أو الطلب المعقد المقدّم مسبقا للتأشيرة حيث صارت تسلم مباشرة بمطار الدوحة. وأقر أحد ضيفي سعيد وهو خالد محمود من خلف نظاراته الصغيرة المستطيلة ولحيته الطويلة بأن هذا الإجراء هو ما جعله يأتي إلى قطر لغرض الأعمال. وأضاف: “وصلت البارحة، وأنا أعمل أساسا في استيراد فاكهة المانجا الباكستانية”. يؤكد سعيد أنه منذ بداية الحصار وتطبيق إجراءات الدخول الجديدة أصبح يستقبل يوميا بين “5 و6” مقاولين يأتون من بلده الأصلي أو من الهند من أجل مناقشة أعمال تجارية. وهو يستورد كل أسبوع آلاف الأطنان من الفواكه والخضر ليبيعها إلى السلاسل التجارية الكبرى “كارفور أو لولو” بقيمة 600 ألف ريال قطري (132 ألف يورو) يوميا.

بحثا عن شركاء تجاريين جدد

غير أنه منذ بداية الأزمة أجرى تغييرا كبيرا على عمله بعد غلق الحدود البرية مع العربية السعودية وإنهاء النشاط الذي كان يتم عبر ميناء جبل علي الإماراتي. أما زبائنه الذين كان معظمهم سابقا من السعوديين والأردنيين والمصريين أو اللبنانيين فلم يعد ممكنا مواصلة عمليات الاستيراد معهم بسبب الوضع السياسي أو بسبب غلق الحدود البرية الوحيدة. ويتذكر سعيد في حضور ضيفيه اللذين كانا يتابعان باهتمام ذلك اليوم المشهود بدقة: “كانت لي شاحنتان قادمتان من الأردن وشاحنتان قادمتان من دبي واثنتان أخريان من العربية السعودية. وقد تم توقيفها جميعا في الصباح عند الحدود. انتظر السائقون أربعة أيام، وفي اليوم الخامس غادروا. خسرت سبعين ألف دولار في يوم واحد”.

سعيد بادشاه يستند إلى أكياس البصل التي استوردها عبر ميناء حمد

كما يملك سعيد أيضا شركة للتعليب في العربية السعودية توظف عشرين عاملا. وكانت تتم هناك عملية تعليب الفواكه والخضر التي يستوردها من المملكة قبل أن تصل إلى مخازنه بالدوحة.“لم يبق شيء هناك، خسرت في الإجمال 115 ألف دولار”. أما اليوم فقد اتجه رجل الأعمال الباكستاني، المقيم في قطر منذ 45 سنة، نحو بلدان منتجة أخرى. “لقد عززت ورفعت وارداتي من الهند وباكستان. كما توجهت أيضا نحو تركيا وإيران”. وهو تحد هام حيث كان يتعين وفي غضون أيام قليلة إقامة علاقات جديدة مع شركاء موثوقين قصد تجديد المخزون بسرعة . “كنت أجلب من العربية السعودية 20 شاحنة يوميا، ومن 15 إلى 18 من دبي ومن 10 إلى 15 من الأردن ومن 2 إلى 3 شاحنات من مصر وقليلا من لبنان. وكان من الضروري إيجاد بديل لكل ذلك”.

من جانبه يؤكد محمد بن أحمد بن طوار الكواري، نائب رئيس غرفة التجارة والصناعة بقطر: “بدأت قطر علاقات أعمالها الأولى مع الهند كما هو الحال بالنسبة للخليج ككل. إنهم زبائن مثاليون وشركاء تاريخيون”. ووفقا لدراسة أعدّتها المخابرات الأمريكية سنة 2008يتشكل التعداد السكاني لدولة الغاز الصغيرة قطر من 18%من الهنود و18% من الباكستانيين. ويرى نبيل النصري، الدكتور في العلوم السياسية ومدير “مرصد قطر” بأن العلاقات بين الدول الثلاثة تعود إلى زمن بعيد. “ففي استراتيجية الإمبراطورية البريطانية كانت قطر تشكل عقدة مركزية لتأمين طريق الهند. وكان يتعين تأمين طرق السلع والتموين بشتى المواد القادمة من امبراطورية الهند. فشكلت قطر آنذاك محطة خليجية مهمة بالنسبة للجيش البريطاني. ونتيجة للأسفار والرحلات وعمليات النقل البحري الدولي للإنجليز نحو الهند حدثت حركة ذهاب وإياب في التجارة والسكان مما عمّق التدفقات التجارية بين إمارات الخليج والهند على الخصوص”.

خطان ملاحيان جديدان

تصل اليوم أسبوعيا عبر السفن، إلى ميناء حمد عبر خطوط الملاحة السريعة “باكستان قطر إكسبرس وانديان قطر إكسبرس” التي أنشأتها شركة “الملاحة” للخدمات اللوجستية البحرية، ثلاثون حاوية مليئة بالبصل والبطاطس (24 حاوية) والرمان (حاوية واحدة) والطماطم والفلفل (5 حاويات). ويؤكد بادشاه أن “الأعمال بين البلدين أصبحت أسهل وازدادت احتياجاتنا. فمنذ الأزمة أصبحت أستورد 5 حاويات إضافية أسبوعيا وستزداد سعة بواخرنا نحو الهند وباكستان من 200 إلى 500 حاوية قابلة للنقل”. وهو يرى بأن الهند وباكستان هما الرابحتان من الحصار. “كانت الأسابيع الأولى للأزمة صعبة على أعمالي ولكن اليوم كل شيء على ما يرام”.

حاويات في ميناء حمد الجديد- الميناء الذي تم افتتاحه في سبتمبر 2017 بمدينة مسيعيد، يتسع لاستقبال 7,5 ملايين حاوية بحرية سنويا

بمكتبه بالضاحية البعيدة والحارَّة للعاصمة القطرية يستقبل الدانماركي يان مورتينسن نائب رئيس قسم نقل الحاويات ضيوفه مرتديا قميصه الأزرق ذو المربعات بالمقر الاجتماعي لشركة الملاحة. فهو وفريقه من تكفل بعد الحصار بإنشاء خطي الملاحة السريعين الهندي والباكستاني. ويعترف قائلا بأن “الأسابيع الأولى للحصار كانت شديدة الصعوبة ولكن رد فعلنا كان سريعا”. وكانت الصعوبة الكبرى تكمن في تطوير خطوط نقل بحرية جديدة. قبل ذلك كان أغلبها يمر عبر ميناء جبل علي الإماراتي. “من 7 إلى 9 حزيران/يونيو كانت لدينا فقط 72 ساعة لتحويل كل نشاطاتنا إلى عُمان، بموانئ صحار وصلالة. وفي الأسابيع التي تلت ربطنا التواصل مع الهند ثم باكستان”.

ويؤكد يان وهو يقف في زاوية شاي الكرك، بأن 100 % من الواردات البرية توقفت فجأة وقد فرض البلدان الآسيويان نفسيهما كأسواق مهمة وقريبة. “كان من الطبيعي إنشاء هذه الخطوط لأننا كنا موجودين حينها في السوق الهندية وكانت لنا قاعدة صلبة من الزبائن وعلاقات طيبة مع الموانئ. ونركز على الخصوص على هذين السوقين أيضا بسبب وجود روابط تاريخية مع قطر وأيضا كون البلد يحتضن عددا كبيرا من العمالة القادمة من هذين البلدين.”

فضلا عن الروابط التاريخية والتجارية بين البلدان الثلاثة، جاء الخطان البحريان السريعان حسب يان “جوابا مباشرا للحصار”. فأصبحت البواخر اليوم تغادر ميناء حمد حتى ميناء ماندرا بالهند. تبحر بعد ذلك باخرة نحو كراتشي بباكستان لتعود إلى قطر محملة بالحاويات. وتتوجه باخرة أخرى إلى ميناء هندي ثان “نافا شيفا” ثم تعود إلى قطر. وتملك شركة الملاحة عقودا مع شركتين قطريتين في البتروكيماويات، فالشركة تصدر أيضا نحو هذين البلدين بحيث لا تغادر سفنها خاوية في ذهابها، ويؤكد نفس المتحدث بأن “تبادلاتنا متوازنة”. وتتمثل واردات شركة الملاحة عبر هذين الخطين السريعين في أكياس الأرز والخردوات والسلع المصنعة وبعض الألبسة وعلى الخصوص المواد الغذائية الطازجة سريعة التلف.

تبادلات تجارية في انتعاش

ويؤكد مورتينسن: “أصبحت الهند وباكستان أسواقا مهمة نجلب منها مواد غذائية طازجة، وقد ازدادت تبادلاتنا في هذا الصدد بشكل ملحوظ، حيث كانت العربية السعودية قبل الحصار تساهم كثيرا في استيراد الخضر، في حين كانت الفواكه تأتي من الأردن”. وأصبحت باكستان على سبيل المثال الممون الرئيسي بأعلاف الماشية، وهو أمر لا يستهان به عندما نعرف بأن قطر بدأت تدريجيا في إنتاج لحومها وحليبها محليا.

في السوق المركزي بالدوحة

وعلى الرغم من أن إيران وتركيا قد فرضتا نفسيهما كشريكين بديلين جديدين ازدادت صادرات الهند وباكستان. “بالنسبة لباكستان والهند سمعت بأن الصادرات نحو قطر ازدادت ب25%”. ويؤكد بن طوار الكواري: “تتزايد تبادلاتنا مع الهند وباكستان، وقد استقبلنا في تشرين أول/ أكتوبر الماضي وفدا من رجال الأعمال الهنود والباكستانيين. لهذه الأزمة فوائد حيث جعلتنا نعثر على شركاء جدد وننشئ خطوطا مباشرة من شأنها تنشيط اقتصادنا”.

لاشيء مفقود اليوم في المساحات التجارية الكبرى، غير أن الأسعار ارتفعت بشكل ملحوظ بسبب كم يومي من استيراد سلع محددة تأتي عبر الشحن الجوي من تركيا أو من جهات أخرى. لم يعد في مؤسسة “لولو”، وهي سلسلة من المساحات التجارية أنشأها رجل أعمال هندي انطلق من الصفر وهو يوسف علي م.أ، جناح الفواكه والخضر يحمل راية السعودية ونادرا راية الأردن ومصر أو لبنان. فالكيلوغرام من البصل القادم من الهند يُشترى ب3 ريالات قطرية (0,66 يورو) وكيلوغرام المانجو القادمة من باكستان يباع ب 10,50 ريالات قطرية (2,32 يورو) وهي أسعار معقولة عندما يتم استيرادها من هذين البلدين الآسيوين. وذلك على عكس الكزبرة القادمة عبر الشحن الجوي من جورجيا التي تباع ب33,75 ريال قطري (7,5 يورو للربطة). ويرى سعيد أن كيلوغراما من البضائع المنقولة بالطائرة يكلف 3 ريالات مقابل 0,5 ريال للمنقول عبر البواخر. ويرى العديد من الخواص والموزعين الكبار بأن الشحن البري عبر تركيا (ثم إيران فالهند وباكستان) أكثر نجاعة وديمومة.

هايبر ماركت اللولو، المسيلة، الدوحة

يستقبل شانافاس ب. أم، رئيس فرع لولو بقطر ضيوفه بالمقر الرئيسي للشركة حيث تبدو صورة يوسف علي مبتسما خلفه على الجدار. ويشرف هذا الرجل ابن منطقة كيرالا على تسيير 7 متاجر عبر البلاد ويعترف أنه في اليوم الأول تم استنفاد مخزون مستودعه الذي يحتل 50 ألف متر مربع، حيث تخزن شركة لولو احتياطاتها، نتيجة “ذعر” المستهلكين بعد الإعلان عن الحصار. ويتذكر بأن “الناس كانوا يتهافتون على جمع أكبر قدر من المؤونة. قبل أن تعود الأمور إلى طبيعتها في اليوم الثاني. وبالطبع بالنسبة للمواد التي كانت تأتي من البلدان المجاورة توقف استيرادها بعد الحصار وقد استلزم الأمر بعض الوقت للتغلب على هذه الصعوبة”.

قدمت شركة الشحن الجوي التابعة “للقطرية” طائرات للاستيراد العاجل لمواد غذائية من تركيا وإيران والهند. “ولما كان رئيسنا من الهند، فضلنا هذا البلد، وقد خصصنا طائرات مستأجرة من الهند و استوردنا 60 ألف كيلوغرام من الخضر”. كما يكشف شاناباز، الذي يدعي أن شركته تستقبل 50 ألف زبون يوميا: “أما الآن فلم تعد لولو تستعمل الطائرات إلا بشكل ظرفي، فهي تفضل الشحن البحري عبر الخطوط البحرية السريعة الهندية والباكستانية. كانت وارداتنا من الهند قبل الحصار قوية. وبعده قمنا بزيادة وارداتنا من الهند بنسبة 35%”.

علاقات طبيعية في ظروف سانحة

Deونأت كل من الهند وباكستان اللتين أصبحتا شريكين اقتصاديين موثوقين بنفسيهما عن أزمة الخليج. وقد تحدثت وزيرة الخارجية الهندية، سوشما سواراج، بعد الإعلان عن الحصار بأنها "مسألة داخلية تخص بلدان مجلس التعاون الخليجي". وقد أشارت إلى أن الاهتمام الوحيد لنيودلهي يتعلق بمواطنيها الذين تقطعت بهم السبل بين هاته البلدان. وبالنسبة لباكستان فيقال إن الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود قد سأل رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف صراحة خلال زيارة في شهر حزيران/ يونيو الماضي: "هل أنت معنا أم مع قطر؟" وذلك وفقا لمصدر دبلوماسي ذكر في جريدة إكسبرس تريبيون وهي نسخة باكستانية لنيويورك تايمز. ومع ذلك بقيت باكستان محايدة في الصراع.

ويحلل نبيل النصري: “من المهم بالنسبة لبلدان الخليج أن تكون باكستان إلى جانبها نظرا لجيشها القوي وحيازتها للسلاح النووي. أما مع الهند فالأمر يتعلق أكثر بعلاقات اقتصادية أو مرتبطة بالطاقة. فالهند تشهد نموا سريعا ويمكن تصور حاجتها الهائلة للبترول والغاز مستقبلا”. إنها علاقة ثلاثية في ظرف سانح.