تركيا والولايات المتحدة: علاقة مرهقة لكن تحتفظ بقوّتها

تمرّ العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بظرف صعب، فيما تعدّدت مواضيع التوتّر في الأشهر الأخيرة. ذلك أن المناخ القومي المتفاقم الذي ترعاه السلطة التنفيذية منذ محاولة الانقلاب في تموز/يوليو 2016، وخطاب الحصن المُحاصر الذي يستخدمه رجب طيب إردوغان لتبرير الاستراتيجيّة القامعة للحريّة التي وضعها منذ عدّة سنوات، يُبقيان على الاستقطاب في المجتمع وعلى تنامي شعور قويّ بالتحدّي تجاه العالم الغربي.

في الصورة، يظهر رجلان يتصافحان في مشهد رسمي. على اليمين، يوجد علم تركيا، وعلى اليسار يوجد علم الولايات المتحدة. يبدو أن الرجلين يتبادلان التحية، مما يشير إلى وجود تعاون أو لقاء دبلوماسي بين بلديهما.
وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس يلتقي نظيره التركي فكري إيشيق، مقر الناتو، بروكسل، في 15 فبراير/شباط 2017.
Brigitte N. Brantley/Département de la défense des États-Unis.

إلا أنّ الخلافين الرئيسيين اللذين يُعكّران صفو العلاقات بين أنقرة وواشنطن، يعودان، وفقاً للسلطات التركيّة، إلى إشكاليّة مكافحة الإرهاب. وهما مرتبطان بالملفين المتعلّقين بحزب الاتحاد الديموقراطي وبـ «منظمّة فتح الله الإرهابيّة»، وهو التعبير المستخدم حالياً للحديث عن أنصار فتح الله غولن.

التحدّي الكردي الذي تنظر إليه أنقرة على أنّه وجودي، يكمن في كون حزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني الذي تعتبره الحكومة التركيّة «العدوّ الأوّل»، قد فرض نفسه على جميع المجموعات الكرديّة السوريّة الأخرى وأعلن الإدارة المحليّة، الروجافا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2013، التي تحوّلت إلى كيان «فدرالي ديموقراطي» في آذار/مارس 2016. هكذا، وجدت أنقرة على حدودها منطقة واسعة تحت سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي الذي تصفه بالـ«الكيان الإرهابي». وتعقّدت المسألة عندما أثبت حزب الاتحاد الديموقراطي أنّ مكوّناته المسلّحة (وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة)، التي يشرف عليها حزب العمال الكردستاني، قادرة على التصدي بنجاح لتنظيم «الدولة الإسلاميّة» في معارك الميدان، ما جعله يظفر بدعم القوى الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركيّة، وبدرجة ثانويّة، روسيا. أصبحت تركيا إذاً أمام مفارقة كبرى، فالمنظمات التي تَعتبرها كأعداء رئيسيين، باتت مدعومة في نفس الوقت من قبل حلفائها.

في السياق، مثّلت عمليّة «درع الفرات» التي أُطلقت في 24 آب/أغسطس 2016، والتي كان هدفها المعلن هو استعادة مدينة جرابلس من يد تنظيم الدولة الإسلاميّة، نقطة تحوّل كبرى. أوّلاً، لأنّ من النادر أن يتدخّل الجيش التركي خارج حدوده، وثانياً لأنّ العملية تُمثِّل اختراقاً تركياً للأراضي السوريّة، وأخيراً لأنّه تبيّن من وراء المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، أنّ المعركة مع حزب الاتحاد الكردستاني هي الأساسية. أزيل أيّ غموض شاب هذه النقطة عقب إطلاق عملية «غصن الزيتون» في 20 كانون الثاني/يناير 2018 في مقاطعة عفرين، حيث يُستهدفُ حصراً حزب الاتحاد الديموقراطي.

تسليم فتح الله غولن

في الملف الثاني، يتعلقّ الأمر برهانات المعركة ضد حركة «حزمة» Hizmet [تعني “الخدمة”، وهو الاسم الذي يطلقه أنصار فتح الله غولن على حركتهم] وبتسليم فتح الله غولن، وهي لا تقلّ أهميّة بالنسبة للمسؤولين الأتراك، لأنّها تعبّر عن شرخ جذري داخل الإسلام السياسي التركي.

العلاقات بين هذين الفاعلين، تبلورت بعد الفوز الانتخابي الأوّل لحزب العدالة والتنمية عام 2002. وعلى امتداد عشر سنوات تقريباً، كان التكامل بين حركة «حزمة» Hizmet وحزب العدالة والتنميّة واضحاً: يوفّر الأوّل الكوادر السياسية التي كان الثاني بحاجتها، فيما يقوم هذا الأخير بتعيين أنصار فتح الله غولن في مواقع مسؤوليّة داخل جهاز الدولة.

بعد الهجمة القضائيّة التي تمّ شنّها ضدّ المؤسسة العسكريّة منذ عامي 2007-2008، قامت جماعة غولن ببلورة مشروع تأمين السيطرة على قوّات الأمن. عندها، أُطلِق الإنذار في محيط إردوغان، واستقرّ انعدام الثقة تدريجاً. حاول «الغولنيون» الإطاحة بمن كان رئيساً للوزراء في حينه، من خلال الضغط عليه عبر عمليّة لمكافحة الفساد في كانون الأوّل/ديسمبر 2013. إلا أنّ ذلك مثّل بداية معركة سياسيّة وقضائيّة قادها إردوغان بفاعليّة عالية، بخاصة عبر إجراء مئات التغييرات ضمن الشرطة والجهاز القضائي. ومنذ ذلك الحين، لم تخف حدّة الردّ. الإدانة المستمرّة لـ«منظمة فتح الله غولن الإرهابيّة» والإجراءات المتكرّرة المسلّطة ضدّ أملاكه الاقتصادية والماليّة، والمحاكمات ضدّ المجموعات الإعلاميّة المرتبطة به، تدلُّ على أنّ للأمر أهميّة وجوديّة بالنسبة لإردوغان، وقد كان التطهير الذي تبع تاريخ 15 تموز/يوليو 2016، تفاقماً لهذا التطوّر. لكنّ ذروة المعركة التي ربحها بحكم الأمر الواقع، ستكون بالوصول إلى تسليم فتح الله غولن الذي يعيش في المنفى في الولايات المتحدة منذ عام 1999.

وهكذا، فإنّ الجمع بين هذين الملفين هو الذي يُخلِّفُ، في تركيا، تحدياً كبيراً تجاه الولايات المتّحدة، إذ إنّها تُعتبرُ حليفاً غير مخلص عندما تكون مصالح تركيا - المصوّرة على أنّها حيويّة - في الميزان.

لعبة مزدوجة

باتت العلاقة الثنائيّة مشدودة جدّاً، بما يعكس مصالح متباعدةً وسوء فهمٍ. في ما يخصّ حزب العمّال الكردستاني ــ حزب الاتحاد الديموقراطي، ترفض الولايات المتّحدة الخلط الذي تقوم به تركيا بين المنظمتين: وهي لَئِن قبلت تعريف حزب العمّال الكردستاني بالإرهابي، فإنّها ترفض ذلك بالنسبة لحزب الاتحاد الديموقراطي. إنّه نقاش مشوّه، يحيلُ إلى عجز ما يُسمّى بالمجتمع الدولي عن الوصول إلى تعريف مشترك للإرهاب. برغم ذلك، تبدو الولايات المتّحدة نفسها في وضع غامض، يعكس إدارتها غير الواضحة للأزمة السوريّة.

وهكذا، فإنّ صوراً نُشرت نهاية شهر أيار/مايو 2016، تظهر فيها قوات خاصّة أميركيّة تحمل شارات وحدات حماية الشعب على بدلاتها، لم تترك مجالاً للشكّ بشأن المساعدة الفعليّة المقدّمة للمقاتلين الأكراد في حزب الاتحاد الديموقراطي. وهذا لم يمنع جو بايدن الذي كان في زيارة رسميّة إلى أنقرة في يوم بداية عمليّة «درع الفرات» - في تزامن مربك - من إعلان دعمه الواضح للعمليّة التركيّة. وأيضاً، الاستخدام الكثيف لقاعدة إنجيرليك العسكرية (في تركيا) من قبل الولايات المتّحدة لتنظيم قصف مواقع تنظيم «الدولة الإسلاميّة».

بالنسبة لتركيا، يبقى الهدف الأساسي في منع حزب الاتحاد الديموقراطي من الوصل بين الكانتونات الكرديّة في كوباني والجزيرة، في الشمال الشرقي لسوريا، وبين عفرين الواقعة في الشمال الغربي. من جهتها، فإنّ مواربات واشنطن كانت كبيرة إلى درجة جعلت الإدارات الأميركيّة تأسف مراراً لنقص الالتزام التركي إلى جانب تحالفها الذي شكّلته والذي اعتمدت في معاركه الميدانية ضد تنظيم «الدولة الإسلاميّة» على الميليشيات الكرديّة، لعدم وجود بديل. لذلك، ورغم ضغوطات رجب طيب إردوغان وتصريحاته القوية، فمن المستبعد أن توقف الولايات المتّحدة دعمها للأكراد من حزب الاتحاد الديموقراطي ببساطة إذ إنّهم يُشكّلون أداة إعادة تموقع في الميدان الديبلوماسي في إطار البحث عن حلّ للأزمة السوريّة. هذا مع العلم أنّ أنقرة تبقى ذات أهميّة إستراتيجيّة أكبر، بالنسبة لواشنطن، من إربيل أو القامشلي.

لا يتسّم مطلب تسليم فتح الله غولن بذات الأهميّة الوجوديّة، ولكنّه يبقى نقطة تركيز كبيرة في تركيا. وإذا ما استمعنا إلى تأكيدات السلطات التركيّة التي تعتبر «منظمة فتح الله الإرهابية» خطراً أسوأ من خطر القوميين الأكراد،1 نفهم الأهميّة التي توليها للاستجابة إلى مطلبها. وهنا تُطرح مسألتان. الأولى هي تحديد درجة مسؤوليّة أعضاء «حزمة» Hizmet في الانقلاب المُجهض في 15 تموز/يوليو 2016، ما يعني الحذر من الاستنتاجات المتسرّعة والقبول بوجود عدّة نقاط غير واضحة. والثانية هي الربط المُقام، بنوع من الاستخفاف، بين مصطلحي «انقلابيين» و«إرهابيين». وفي ما يخصّ طلب التسليم، تترك السلطات في واشنطن، الحكم للقضاء، وهو أمر شرعي، ما يعني أنّ النظر في ملفات الاتّهام الكبيرة المقدّمة من قبل أنقرة قد يأخذ بعض الوقت. من وجهة النظر هذه، فإنّ الارتياح الذي عبّر عنه رجب طيب إردوغان لانتخاب دونالد ترامب سرعان ما خاب.

المسألة الحقيقية التي تُطرح إذاً هي العلاقة الإستراتيجيّة الممكنة بين البلدين على المدى المتوسّط.

الحفاظ على العلاقات مع القوى الغربيّة

 من الضروري التخلّص من الصيغ الجاهزة التي تُصوِّرُ تدهور العلاقات مع الولايات المتّحدة على أنّه واقع يؤطر مجمل الصورة. في الواقع، إنّ الإرادة المؤكّدة لتركيا في إعادة صياغة علاقاتها مع العالم الخارجي، هي التي تبدو مهمّة. بمعزل عن نقاط التوتّر الحقيقيّة المذكورة سابقاً، وإذا ما اقتصرنا على الفترة الحاليّة، يمكننا أنّ نذكّر بالأحداث الثلاثة الآتية:

 قبول أنقرة بوضع رادار الإنذار المبكّر للدرع الصاروخي للناتو على أراضيها والذي أُقرّ في قمّة لشبونة في تشرين الثاني/نوفمبر 2010 ونُفّذ في أيلول/سبتمبر 2011؛
 نشر الناتو، بطلب من أنقرة، صواريخ باتريوت على الحدود التركيّة السوريّة في كانون الثاني/يناير 2013؛
 واقع أنّ تركيا، وبعد دقائق من إسقاط سلاح جوّها لطائرة حربيّة روسيّة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، طلبت اجتماعاً للناتو، على مستوى السفراء، وهو ما استجابت له المنظّمة الأطلسيّة على الفور.

هذا التذكير، البعيد عن أن يكون شاملاً، يُبيِّنُ جيّداً أنّه لا نيّة لتركيا في القطع مع نظام تحالفاتها. ولكنها الآن، بوعيها بإمكاناتها، تريد إبراز مصالحها بقوّة، علماً أنّها تعتبر دوماً أنّ روابطها مع واشنطن وبروكسل، أهمّ من علاقاتها مع بغداد وطهران وإربيل، وحتى مع موسكو. وإذا ما كان التوظيف القومي للخلافات مع الولايات المتّحدة، يُحفِّزُ التباعد، فإنّ هذا الأخير يبقى محدوداً زمنياً. تمثّل تركيا ثاني الجيوش أهميّة في الناتو من حيث عدد جنودها، وهي تضع تحت تصرّفه قاعدة إنجرليك حيث يتمّ تخزين الأسلحة النوويّة. كما أنّها تواصل السيطرة على المضائق، ولا تزال الدولة الوحيدة ذات الثقافة المسلمة، العضو في الناتو. أمّا من وجهة نظر المصالح الغربيّة، فإنّ دور تركيا المحوري، بحكم الأمر الواقع، يجب أن يتمّ الحفاظ عليه. لاشكّ أنّ الثقة قد مُسّت، ولكن علينا أن نضع هذه العلاقات في نصابها.

ملف صواريخ «اس-400» الروسيّة المُوجّهة إلى تركيا، والتي بيعت في 29 كانون الأول/ديسمبر 2017، يُظهر هذا التعاطي غير المستقر بين أنقرة والغرب. ورغم ذلك، لا أحد يتخيّل بأنّ تركيا تفكّر بمنطق القطيعة. فالضمانات الأمنية التي يوفّرها انتماؤها للناتو محدِّدة، كما أنّ أنقرة واعية تماماً أنّه لا يوجد بلد، أو مجموعة بلدان، يمكنها أن توفّر لها ما يُماثل ذلك. وهكذا، فإنّ التوقيع في باريس، في 5 كانون الثاني/يناير 2018، على عقد دراسة تعريفيّة تهدف إلى تطوير نظام صاروخي مضادّ للصواريخ بين المؤسستين التركيتين Aselsan و Roketsan والاتحاد الفرنسي الإيطالي Eurosam، يُمثِّلُ مؤشراً على رغبة تركيا في عدم قطع أيّ جسر مع حلفائها.

توترات ظرفية... أم لا؟

يجب الأخذ بالاعتبار الاتهامات المتكرّرة الموجهة إلى الولايات المتحدة من قبل الرئيس التركي، على أنّها أحد عناصر العلاقة مع هذا البلد، دون الغرق في سيناريو كارثي مُعطِّل.

من جهة، تندرج تطوّرات السياسة الخارجية التركية ضمن بحث طويل عن هويّة واضحة المعالم منذ خمسة عقود، ولكنها باتت تندرج مؤخراً أيضاً ضمن سياق قلب المفاهيم المرجعية (براديغم) التي تُهيكل العلاقات الدوليّة حول محاور جديدة. للمرّة الأولى في تاريخ البشريّة، تكون جميع شعوب الأرض فاعلة سياسياً.2 والآن، لم تعد القيم التي لا تزال القوى الغربية تعدّها عالميّة، قادرة على فرض نفسها عسكريّاً، ولا سياسياً، ولا ثقافياً.

تركيا مثالٌ على «انقلاب العالم» هذا. ولقد رأينا ذلك على سبيل المثال في ربيع عام 2010، عند توقيع الاتفاق الثلاثي مع البرازيل وإيران، الذي جاء يطرح بديلاً عن مجموعة العقوبات الجديدة التي كان مجلس الأمن يتهيّئ للتصويت عليها ضدّ طهران. لم يكن هذا يعني بداية قطيعة لأنقرة مع حلفائها الغربيين، وإنّما إرادة لدعم نظام دولي مغاير. والرفض الذي قوبلت به هذه المبادرة، قاد إردوغان إلى التعبير، أكثر من مرة، عن رفضه لنظام دولي تحكمه قوى مجلس الأمن الخمس.3

أتت الصدمة العميقة التي يعيشها العالم العربي منذ نهاية عام 2010 لتذكّر ببعض البديهيات: تلاشى وهم أنقرة في أن تفرض نفسها كزعيم إقليمي، بخاصة أنّ الدعوات المتكرّرة للرئيس التركي من أجل وحدة العالم الإسلامي ليست سوى مواقف وأوهام لا يجب أن تترك تأثيراً. فلا وجود لسياسة خارجيّة إسلاميّة مشتركة، ولا تزال المصالح الوطنيّة هي الغالبة.

إذا كانت السياسة الخارجيّة التركية تشهد تطوّراً لا جدال فيه، فإنّ هذه التطورات لا تُمثِّلُ قطيعة محقّقة. يجب على الحلفاء التقليديين لتركيا تتبع ذلك باهتمام، ولكن عليهم في الوقت نفسه معرفة الفرق بين ما يمثّل موقفاً ظرفياً - غالباً ما يُستخدم بإفراط لأسباب تهمّ السياسة الداخليّة - وبين ما يمكن أن يُصبح مؤطِّراً للعلاقات في السنوات الآتية.

1وهذا ما يظهر، للمفاجأة، من مقابلات أجراها الكاتب مع دبلوماسيين أتراك رفيعي المستوى

2انظر في هذا الشأن Hubert Védrine, Continuer l’Histoire, Fayard, 2007

3في21 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، في جلسة اختتام الجلسة العامة الـ62 الجمعية البرلمانيّة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في إسطنبول: «أصرّ على تكرار هذا، يجب إدخال إصلاحات على مجلس الأمن بهدف تمثيل العالم بشكل أفضل. هذا ما أريد قوله حين أشرح بأنّ العالم أكبر من خمسة». وكالة الأناضول، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2016.