مرعب..هي الكلمة التي تخطر ببالي حين أريد أن ألخص الوضع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. جراح تفتح جراحا، ما تزال تنزف، ولجوء يحدق بالفراغ وسط المتاهة، ومتاهات أخرى للاجئين لجأوا مجددا لمخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان، قادمين من مخيمات اللجوء في سوريا: من مخيم اليرموك أو النيرب أو حندرات وحمص وانضم إليهم لاجئون سوريون من مختلف مناطق الصراع الدائر في سوريا. لا سيما مخيمات بيروت التي تحولت إلى ملاذ للمهمشين أيا كانت جنسيتهم ومن أي مكان قدموا: لاجئون سوريون، لاجئون فلسطينيون من سوريا، لبنانيون معدمون، خادمات من كافة الجنسيات...
تقول مريم وهي لاجئة فلسطينية من مخيم النيرب في حلب: “حاصرونا سنة كاملة لأننا رفضنا أن يعبروا من مخيم النيرب الى المطار العسكري. لعام كامل تغذينا على الهندباء والخس والخبيزة التي تنبت في البساتين المجاورة للمخيم. كل ما أراده أهل مخيم النيرب هو” أن نحيد أنفسنا عن الحرب الدائرة. كانوا مثلهم مثل شبيحة النظام. يحاصروننا ويسرقون ممتلكاتنا إن خرجنا من داخل الحصار، ولا يتورعون حتى عن ضرب النساء“. أسألها من هم هؤلاء؟ تتردد بالتسمية لكنها ما تلبث بعد حين أن تقول هامسة:”النصرة والجيش السوري الحر“.وكأني بها تستبق النتائج التي قد تؤول إليها الحرب لتحمي نفسها من غضب المنتصر لاحقا. مريم أرسلت ابنها (12عاما) مع شقيقها وشقيقتها إلى السويد عبر الأراضي التركية. ركب قاربا مطاطيا من شواطئ تركيا إلى اليونان”وكاد يغرق لو لم تتدخل البحرية اليونانية لإنقاذهم. أرسلته كي يرسل في طلبنا لنلحق به الى السويد ضمن برنامج لم الشمل. وجئنا إلى لبنان لإجراء مقابلة في السفارة السويدية ويفترض أن نسافر إليه خلال شهرين كما قيل لنا بالسفارة حين تنتهي الإجراءات المعتادة“. مريم باعت ذهبها كي تدفع كلفة السمسار الذي ساعد ابنها على رحلة التيه والهجرة وليس لشراء”بندقية" كما فعلت جدتها في 1948. بالنسبة لنزار من مخيم برج البراجنة فقد كلفته رحلة اللجوء إلى برلين حوالي خمسة آلاف دولار لكنه لم يركب البحر بل سافر على متن طائرة الى تركيا وحمل معه كرت الإعاشة،1 ظنا منه أنه يساعده أكثر في الحصول على اللجوء في بلد أوروبي كونه فلسطيني له أسبقية اللجوء على اللاجئين السوريين. كانت وجهته ألمانيا لأن لديه أقارب سبقوه إليها واستقروا. ومنذ أن بدأت حمى اللجوء السوري تتصاعد شكلت عائقا في وجه محاولات الفلسطينيين الدؤوبة في الهجرة واللجوء للمنافي البعيدة.“اليوم الأولوية للاجئين السوريين بسبب العنف الوحشي والمجازر التي يتعرضون لها على مدى سنوات وهذا قلص من فرص اللاجئين الفلسطينيين في الحصول على فرص اللجوء في الدول الأوروبية. أيضا التقديمات التي تمنحها هذه الدول تقلصت بسبب الأعداد الهائلة للاجئين السوريين”. يقول نزار شارحا ظروف اللجوء السيئة التي عاشها في برلين.“الأولوية صارت للاجيء السوري”. فقد تصدر السوريون مشهد اللجوء وتجاوزت كارثتهم النكبة الفلسطينية المتجددة والمتواصلة. ورغم التصفيات المتعاقبة التي شهدتها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في خضم الحرب الاهلية اللبنانية وما تلاها من حرب المخيمات والتي دمرت بيوت وحيوات أسسوها على مدى ستة عقود ونيف لينهضوا من جحيم النكبة. عاودت حرب المخيمات لتطال اليوم فلسطينيي سوريا. لا يهم تحت أية ذريعة تم تدمير ذاك المخيم في حندرات أو حمص أو اليرموك. لا يهم على يد من تم التدمير: على يد النظام كجزء من تدمير مناطق حواضن المعارضة أوعلى يد المنظمات الإرهابية الإسلامية المتطرفة. أو جاء التدمير على يد جبهة النصرة (كما في مخيم حندرات في حلب) بذريعة أنه موقع عسكري مهم بوجه قوات النظام (وكان قد تم نهب ممتلكات أهالي المخيم على يد “النصرة” كما تقول “مريم”) وتعمد أيضا ما يسمى “مجموعات التعفيش بنهب ما تبقى من ممتلكات أهالي مخيم اليرموك بعد أن تم تسويته بالأرض على يد النظام”.
ما يهم هنا بالنسبة لنزار وللاجئين الفلسطينيين الذين قابلتهم (وبعد 70 عاما على نكبة 48) هو الخلاص. والخلاص بالنسبة لهم هو الهجرة من دول جوار فلسطين (تحديدا لبنان والذي لجأ إليه في السبع سنوات الأخيرة اللاجئون الفلسطينيون في سوريا). يشرح راغب من مخيم البراجنة تسلسل الأحداث على أنه“اتفاق من تحت الطاولة بين الجميع وفي كل دول جوار فلسطين”. ويضيف:“ولو فتحت أبواب الحصار سنجد أيضا آلاف الغزيون يركبون أمواج البحر هربا من جحيم النكبة التي لم تتوقف على مدى 70 عاما”.
تحول “اللجوء” للمنافي البعيدة إلى حلم لا يتورع بسببه بعض الآباء “كما فعل أبو خالد ثم تبعه أبو علي وآخرون في مخيم برج البراجنة عن”تطليق زوجاتهم شكليا“وشراء إقامات عمل دائمة في السويد ل”هؤلاء الزوجات“وأطفالهم كي يبعدوهم عن جحيم الحياة في المخيم (صاراكثر من 45% من سكانه2 خادمات بنغاليات أو أثيوبيات ومعدومون لبنانيون، وأيضا لاجئون فلسطينيون من سورية ولاجئون سوريون وجدوا في المخيم الفلسطيني ملاذا آمنا و غير مكلف وأقرب وأكثر تفهما واستيعابا لمعاناتهم).” لكنهم يبقون غرباء عن بيئتنا.لا نعرف من هم حقا وليس هنالك تواصل جيرة كما بين أهالي المخيم الذين يعرفون بعضهم ومن أين أتى كل منهم أو عائلته. بمعنى أنه ساهم في تفكيك عرى النسيج الاجتماعي للمخيم كونه إطار لتجمعنا وعاجلا أم آجلا سيلجأون لنزع صفة “الفلسطيني” عن المخيم بوصفه الشاهد الحي على نكبة الفلسطينيين. لا ذنب لهؤلاء المساكين الذين تعاطفنا معهم واستقبلناهم في المخيم. ومع أن وجودهم بيننا هو من تداعيات نكبتنا أساسا، ولكن نكبتهم الآن توظف ضمنا لمحو نكبتنا من الذاكرة بنكبة أكثر وحشية“. ثم يضيف أبو علي هامسا:” أرسلت أولادي إلى السويد بعد أن صعدت إلى السطح مظاهر سلبية شوهت بيئة المخيم التي نعرفها كأوكار الدعارة وانتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب الفلسطيني داخل العديد من المخيمات إسوة لانتشارها أيضا بين الشباب اللبناني ولا سيما في الأحياء الفقيرة والجامعات والمدارس الثانوية.3
محرّمات مهنية
تتزايد ظاهرة المخدرات في المخيمات الفلسطينية بين الشبان بسبب الفراغ الذي تتسب به البطالة نتيجة لقانون منع الفلسطينيين من العمل في أكثر من 77 مهنة (بمن فيهم الأطباء والمهندسين وحملة أعلى الشهادات الجامعية ومن أرقى الجامعات) يضاف إلى ذلك التأزم الاقتصادي والسياسي الذي يشهده لبنان، يضاف إليه تدفق لجوء سوري كثيف ورخيص يغزوأسواق العمل الأمرالذي أثر سلبا على اللبنانيين وأكثر على الفلسطينيين الذين يعملون في مهن تعتبر دنيا يبتعد عنها اللبنانيون عادة: كأعمال السمكرة وصيانة الأجهزة الكهربائية والإلكترونية وأعمال البناء بكل تفرعاتها. المزاحمة في سوق العمل هذه لم تخفف فعليا من معاناة اللاجئين السوريين الا في حدود دنيا سواء في سوق العمل اللبناني أم في مواجهة عنصرية لبنانية تعلق أزماتها الاقتصادية على شماعة اللاجئين السوريين. “نحن نهرب لأوروبا من الظلم ومن منعنا من العمل” قال نزار الذي عاد إلى المخيم بعد ستة أشهر من هجرته لألمانيا بطلب من والده إمام الجامع في المخيم. والده أصر على عودته بعد أن وصلته أخبار تورط ابنه في برلين بتعاطي المخدرات. المسكين لا يعرف أن ابنه كان تورط بالمخدرات قبل مغادرته وهنا في المخيم“. لكن نزار يفصح عن سبب رغبته بالهجرة قائلا:”كنت أعمل في سوبرماركت في بيروت لكن تم استبدالي بعامل سوري“قال نزار.” قبل اللجوء السوري كنا الأرخص أجرة ومع أن نكبتهم أشد ربما من نكبتنا لكن مع فارق زمني عمره أكثر من ستين عاما".
منع الفلسطينيين من العمل في أكثر من 77 مهنة في لبنان وأيضا منعهم من التملك هي من أكثر الأسباب التي تدفع الفلسطينيين في لبنان بعد سلسلة المجازر التي ألمت بهم4 ودفعتهم للبحث عن بلدان لجوء جديدة سيما إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 وخاصة في أعقاب مجزرة صبرا وشاتيلا تبعها موجة أخرى أثناء حرب المخيمات وبعدها5 وفتح أبواب الهجرة لهم إلى السويد وألمانيا والدانمارك خصوصا.
“فقدنا الأمل”
على تخوم كل هذه الأزمات وتداخلها مع اللجوء السوري والفلسطيني السوري في لبنان فضلا عن انسداد الأفق الإنساني والسياسي في وجه الفلسطينيين بكل تجمعاتهم في الوطن (غزة/القطاع/أراضي 48) وبلدان اللجوء العربية نشأ حراك شبابي منذ العام 2014 في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يطالب السفارات الأوروبية والكندية والأسترالية بفتح أبواب الهجرة أمامهم، أوما فضلوا تسميته لاحقا “اللجوء الإنساني”.“رفعنا أعلام هذه الدول وتظاهرنا أكثر من مرة. كان آخرها في أيلول2017”. يقول ماهر أحد قيادات الحراك الشبابي من مخيم نهر البارد. “فقدنا الأمل بأن يتم إنصافنا إنسانيا في لبنان”، يوضح راغب من مخيم برج البراجنة، بينما تضيف مريم من قادة الحراك الشبابي في مخيم عين الحلوة “عارضت حراكنا الفصائل”.“تلقينا من بعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة في عين الحلوة تهديدات بالقتل إن واصلنا تظاهراتنا من أجل اللجوء” يضيف ناشط آخر في“الهيئة الشبابية للجوء الإنساني” في مخيم عين الحلوة رفض ذكر اسمه. فيما يعقّب راغب “عضو الهيئة الشبابية للجوء الإنساني”في مخيم برج البراجنة في ما بعد ساخرا “أحد مسؤولي الفصائل الذي تولى مناقشتنا لثنينا عن التظاهر هاجر منذ أشهر إلى السويد”. طلب راغب ألا يذكر اسم هذا المسؤول لأنه ما زال يتلقى راتبا شهريا هو وابنه من التنظيم ولا يريد أن يقطع برزقه“فبالمحصلة كلنا مساكين”.
يعاني الفلسطينيون اليوم من مشكلات عديدة مركبة داخل لبنان، في فلسطين التاريخية والشتات، يشتركون في بعضها لكن تتغير من مخيم إلى آخر ومن تجمع فلسطيني إلى آخر تبعا لعوامل متنوعة. إذ تشهد مخيمات بيروت نزوحا كثيفا إلى الجوار القريب (55%) ممن لم يتمكنوا من الهجرة. فقد سبب اللجوء السوري إلى لبنان فرصة لهم للخروج بتأجير بيوتهم للاجئين سوريين يبحثون عن مساكن أقل كلفة. أدى ذلك كنتيجة طبيعية إلى مزاحمة بعض أهالي المخيمات الفلسطينية على لقمة عيشهم بفتح دكاكين ومحال تزاحم مثيلتها لسكان مخيمات لبنان، إذ كانت العديد من الأسر تعتاش منها، وليس فقط على مزاحمتهم على المهن الحرة التي يمكن للفلسطينيين ممارستها بعيدا عن قيود العمل.
الميليشيات، فرص عمل
كما أن تضاؤل رواتب الفصائل التي تعاني ميزانياتها من انخفاض هائل جعل من هذه الفصائل مجرد قطاع توظيفي لحمل سلاح لا يفيد بشيء ولم يكن أصلا يفيدهم بأكثر من كونه مظهرا للقوة والنفوذ ومصدرا للرزق بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية عام 1982 من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي وبات بالنسبة للكثير منهم عبئا أيضا لا معنى له بغياب أي ممارسة فعلية للكفاح المسلح ضد إسرائيل. “تحول السلاح في المخيمات إلى عبء”يقول أسمر الذي يسمي نفسه “ناشط إنساني” في مخيم البداوي ويعمل في محل بقالة لوالده. هنا يتدخل علاء والذي يسمي نفسه ناشطا إعلاميا ليشرح: “هنالك خوف من السلاح داخل المخيمات. هنا في البداوي يمتنع الناس عن التجول طوعا بعد الساعة الخامسة بعد الظهر خشية أن يقع اشتباك” وحين أسأل :اشتباك؟ بين من ومن؟“يجيب”لا أعرف“وبالأحرى لا يرغب بالدخول في تصريحات قد تكلفه حياته. لكنه استطرد ليخبرني بفرح مشوب بالتباهي”نحن شكلنا لجنة أمنية –أنا عضو فيها - لحماية أهالي المخيم من أية اشتباكات محتملة ومنذ أسبوعين لم يقع أي اشتباك!“وقد فهمت لاحقا من”همس تردد في أكثر من مخيم“يلمح فيه الناس لعصابات تقوم بترويج المخدرات بين شباب المخيمات وتتنافس في ما بينها على مناطق نفوذ تسهل لها الترويج.” هناك مسؤولون من بعض الفصائل متورطون ونشعر بذلك من الثروات التي لا يعرف أحد مصدرها ولديهم شركاء من الجوار اللبناني" يهمس علاء لاحقا.. علاء يسكن حاليا في مخيم البداوي كلاجيء من مخيم نهر البارد بعد تدمير هذا الأخير من قبل الجيش اللبناني في أحداث 2007 للقضاء على جماعة فتح الإسلام المتطرفة.
الأونروا بعيون أمريكية
“يبقى أن الضغط المتزايد من عوامل أخرى من مثل خفض خدمات الأونروا وتدني نوعية هذه الخدمات أكثر فأكثر حد إلغاء العديد منها بعد قرار ترامب الأخير بخفض المنحة التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية للأونروا إلى حدود النصف. وقد بدأت فعلا بإقفال بعض العيادات الصحية في مخيم البداوي مثلا وإقفال بعض المدارس التي حولت فتراتها المسائية لتعليم أبناء اللاجئين الفلسطينيين من سوريا وايضا من أبناء اللاجئين السوريين عموما إسوة بالمدارس الحكومية اللبنانية لخفض نسبة المتسربين بسبب الحرب في سورية”. يقول أسمر الناشط الإنساني من مخيم البداوي ثم لا يلبث أن يتصل هاتفيا بعد يومين من مقابلتي له ليخبرني أن الحديث يدور رسميا في الأونروا بحصرالمدارس بمدرسة واحدة في مخيم واحد من مخيمي نهر البارد والبداوي وإلغاء بقية المدارس، رغم تدني جودة التعليم الذي تقدمه أصلا" فضلا عن الخوف الشديد من أنباء من قيامها بإلغاء نسبة الاستشفاء التي كانت تقدمها للاجئين الفلسطينيين (بحسب ماهر أحد قيادات الحراك الشبابي من مخيم نهر البارد) .
ويبقى الخوف من توقف أعمال ما تبقى من خطة إعمار مخيم نهر البارد مسيطر على العديد من العائلات التي ما زالت تعيش في الكرافانات منذ 11 عاما هو عمر نكبة مخيم نهر البارد بانتظار إعادة إعمار بيوتها لا بانتظار العودة فقط، وضمن سلسلة من الانتظارات الصغيرة على طريق الانتظار الطويل. كرافانات قدمتها الأونروا على عجل إثر تدمير مخيم نهر البارد 2007 بعدما تسللت إليه جماعة“فتح الإسلام” تحت غطاء“فتح الانتفاضة” (المدعومة من النظام السوري)، وبدأ سكان المخيم يكتشفون بعد بضعة أشهر حقيقة أمرهم لتتحول هذه الجماعة إلى كابوس أدى إلى تدمير المخيم بالكامل، وتشريد أهله في العراء. يتذكر وليد لاجئ من مخيم نهر البارد إلى مخيم البداوي تلك الأيام جيدا. هومتزوج من لاجئة من مخيم تل الزعتر يقيم أهلها في حي المهجرين بالبداوي، حين انقطعت بعائلتها السبل في إيجاد مكان يأويهم بعد تدمير مخيمهم تل الزعتر في بداية الحرب الأهلية اللبنانية وارتكاب مجزرة جماعية بحقهم. يتذكر وليد “التاريخ الذي أعلنت فيه”جماعة فتح الانتفاضة“تسمية نفسها”فتح الإسلام“. فقد كان يوم عرسه” وصار يوما أسود - بحسب تعبيره. “أختي هي من اكتشفت أنهم ليسوا كما يدعون. فقد سمعتهم صدفة يتحدثون بلغة أجنبية في ما بينهم هي ليست الانجليزية أو الفرنسية. لغة غريبة تماما، وكان سكان المخيم أصلا يستغربون أن لغتهم العربية فيها لكنة غريبة. كانوا يبعثرون الأموال في الدكاكين ويشترون المأكولات بكميات كبيرة ويوزعونها على الناس مستغلين فقرهم ليرغب الناس بوجودهم. ثم فجأة تسللوا إلى حاجز الجيش اللبناني وطعنوا كل من فيه. لكن بالنهاية نحن من عوقبنا وتم تدمير مخيمنا بالكامل. كان عددهم لا يتجاوز الخمسماية. تخلصوا منهم لكن لم نفهم لم تم تدمير المخيم؟؟ ومنذ ذلك الحين لجأت عائلتي لمخيم البداوي وما نزال ننتظر إعادة إعمار بيتنا في نهر البارد”. كنا نتقاضى من الأنروا إيجار منزل لكن الأونروا توقفت عن صرفه. قالوا لوالدي أن هذا الإيجار يصرف فقط إلى حين يجد أحد أفراد العائلة المهجرة عملا يعتاشون منه. يعمل وليد في أعمال الديكور المنزلي والجبس ولا يكفي ما يدخله من عمله المياوم المتقطع إعالة أسرته أساسا وليس لاستئجار منزل متواضع يكلفه شهريا خمسمائة دولار ولكننا بكل الأحوال لا نستطيع العيش بالكرافانات فهي أشبه بسكن للكلاب".
رغم ما يقوله وليد ما زالت الكثير من الأسر (وبعد 70 عاما على النكبة) تعيش في كرفانات جدرانها من تنك محشوة بالفلين وأرضيات خشبية تقضمها الجرذان ليلا وتسبب ضجيجا هائلا يرعب الأطفال، هذا إن لم تعمد لعضهم كبارا وصغارا. يضاف إلى ذلك رطوبة تتسبب ليس بالصدأ وحده، بل بانتشار ظاهرة الربو لدى الأطفال وهم في أرحام أمهاتهم.تقول أم فضل إنها خسرت أحد توأميها.“ولدا مصابان بالربو وتوفي أحدهما بعد ثمانية أشهر فيما الآخر ما يزال يعاني ولا نعرف إن سيمكنه العيش”. بجوارها تعيش “عسلة” من صفصاف في الجليل الأعلى. تقول عسلة“صفصاف” ربما كي تذكرنا بأن لها بيتا هناك وكي تخفف وطأة الذل الذي تشعره في هذا الكرفان المطلي بلون الصدأ وتضيف“حولونا يا ابنتي إلى عالة على الجميع..بيروح العاشق وبييجي المشتاق (وهو مثل شامي أرادت عسلة أن تستخدمه لتوضح كيف يتم التناوب عليهم منذ 70 عاما يتلقون الصفعات من كل حدب وصوب وليس من إسرائيل وحدها) تنظر عسلة إلى صورة ابنها الشهيد المعلقة على الحائط, والذي قضى في الحصار الذي فرضه الجيش السوري وقوات فتح الانتفاضة العام 1983 على ياسر عرفات لطرده من طرابلس، و بعد أن تم طرده من بيروت العام 1982على يد الجيش الإسرائيلي. كان ابنها في 16 من عمره. ألم فقدان الابن أوقع عسلة (50 عاما) أسيرة لأمراض عديدة كالسكري والاكتئاب والروماتيزم والضغط والأملاح التي تتسبب لها بسمنة مرضية تمنعها من الخروج من باب الكارافان. جارها أبو محمد ليس بأفضل حال منها، إذ يعيش وحيدا بانتظار أن يعيدوا إعمار بيته في المخيم القديم، لكنه لا يعلم إن كان هنالك ما يكفي من عمره ليس لانتظار العودة إلى فلسطين بل إلى البيت الذي دمر في 2007 في مخيم نهر البارد وما يزال ينتظر إعادة إعماره.”أنا مصاب بالسرطان. أعيش وحيدا بعد وفاة زوجتي وعلى نفقة أهل الخير".
“لقد نسيَنا العالم”
يقف ماهر بجانبي وسط ممر معتم تتوزع على ضفتيه أكواخ الصدأ والتي يتم منح بعضها حاليا من قبل الأونروا للاجئين السوريين، حين يتم انتقال أسرة فلسطينية ما إلى منزلها في المخيم الذي أعيد إعماره. “الأولوية الآن في الإغاثة يحوز عليها اللاجئون السوريون. الآن هم في وضع أفضل منا وتنهال عليهم المساعدات على تواضعها”، وأيضا ما يزال لديهم وطن يعودون إليه في نهاية مطاف هذه الأزمة. “تتقاضى كل عائلة منهم 200 دولار شهريا من الأمم المتحدة و50 دولار أخرى عن كل فرد فيها هذا غير المعونات الغذائية ومواد التنظيف و1000دولار سنويا بدل تدفئة ومعونات من منظمات المجتمع المدني اللبنانية وهي مبالغ ضئيلة جدا لكن حتى هذه المبالغ الضئيلة لا شيء منها يخصص لنا مع أن أوضاعنا أكثر مأساوية مما كانت عليه في السنوات الأولى من النكبة. كان حينها التعاطف معنا كبيرا ماديا ومعنويا ومن اللبنانيين والأمم المتحدة لكن يبدو أن العالم نسينا تماما في غمرة انشغاله بالأزمات العربية في سوريا واليمن وليبيا والعراق (لا شيئ من هذا التعاطف أو حتى الدعم المادي بات موجودا كما السابق على الأقل. ودول الخليج نفسها باتت لا تقيم وزنا لقضيتنا ولا تمدنا بالمساعدات لأنها مشغولة بالإنفاق على حرب اليمن وليبيا وسوريا طبعا). الأونروا التي أنشئت العام 1948 بعد النكبة لإغاثة وتشغيل اللاجئين تخلت عن الكثير من التزاماتها تجاهنا، ويتم نقض الاتفاقية التي تأسست وفقها.6 ينصت عزيز الذي كان من أنصار حماس والذي فقد حماسه لها ولأي شيء، ورغم قدرته على العيش بشكل”مستور“من عمله في تعهدات تمديد الكهرباء لبيوتات وأبنية سكان طرابلس ليخبرني بعد صمت أنه قرر الهجرة إلى أي أرض تطأها قدماه خارج المنطقة العربية التي تعيش في المجهول ولا تبشر بأي حل يعيده إلى أرض أجداده” بعدما تواطأ الجميع علينا. “أعتقد أنهم يسعون لإفراغ المخيمات من ساكنيها بل يجري طردنا ضمن مخطط إبادة جماعية يقذفنا خارج بلدان اللجوء المتاخمة لفلسطين يتم تنفيذه منذ سنوات طوال، هو عمر النكبة. فالكل يتلاعب بوجودنا من تحت الطاولة: الكل متفق على إبادتنا” جسديا وجغرافيا“، والفساد السياسي والمالي الذي تمارسه سلطتي الضفة وغزة أصبحت رائحته تزكم أرواحنا وليس أنوفنا فقط”.
ابراهيم الذي يقف بجوار عزيز والذي يستعد لمغادرة الكرافانان الذين منحته إياهما الأونروا إثر تدمير مخيم نهر البارد كون عائلته مؤلفة من ثمانية أشخاص فهو لا يستعجل الانتقال لأن البيت الذي تمت إعادة إعماره ما يزال بدون ماء أو كهرباء. المياه الوحيدة الممكنة يتم جرها من آبار مالحة لقربها من شاطئ البحر. هذا عدا عن أن المفروشات التي تمنح عادة لمن يتم إعمار بيته توقف منحها منذ زمن بعيد بحجة تناقص الدعم الآتي من الدول المانحة وهو لا يملك المال لأنه توقف عن العمل كسائق تاكسي بعد أن أصيب بمرض أعصاب في دماغه. نسأله ماذا يعني بهذا المرض. يسكت ويقول“لا أعلم! لكن لم أعد أتمكن من العمل بطلب من الطبيب ,لكنه يعزو مرضه للعيش في كارافان منذ 11 عاما بانتظار إعادة إعمار بيته بعد أن بات حلم العودة شيء أشبه إليه بالسراب”.
كرافان تبلغ مساحته 18 مترا مربعا (6 أمتار طول و3 أمتار عرض فقط) بما فيها مرحاض للتريض والاستحمام معا وركن صغير للطبخ وجدران يكسوها الصدأ يعمد سكانها لطلائها بالأحمر كي يموهوها بلون الصدأ.. الكرافانات التي قدمت ليسكنها الناس بشكل مؤقت إلى حين يعاد إعمار المخيم تحولت ككل شيء في حياة الفلسطينيين من“المؤقت” إلى “دائم” بحيث يصبح العيش في الانتظار“موت بطيء وحياة لا حياة فيها” لا يعرف متى ينتهي أو متى يبدأ انتظار آخر في نكبة طال أمدها وتبدو اليوم أشد قسوة ومستقبل أكثر غموضا، ينظر الفلسطينيون فيه إلى حالهم بعد 70 عاما على بدء نكبة لم تنته، بل تتعاقب عليهم نكبات في متوالية تسير نحو قاع الهاوية لا يعرف إن كان ثمة قاع آخر أو حضيض جديد. يعشش في قلوبهم حزن دائم يشلهم ويلقي بهم على حواف اليأس وداخل سؤال يبحث في هواجسهم عن طرف خيط يمسكون به كي لا يفقدوا الأمل الذي يعاندون به ..برد الانتظار.
1بطاقة تصدرها وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين الأونروا يستفيد بموجبها الفلسطينيون من خدماتها وهي وثيقة أيضا يعتبرها الفلسطينيون دلالة على نسبتهم إلى الفلسطينيين الذين تم طردهم من فلسطين العام 1948 وأيضا بعد احتلال ما تبقى منها من قبل إسرائيل العام 1967.
2دراسة إحصائية صادرة عن مركز الإحصاء المركزي اللبناني لعام 2017.
3بحسب الدكتور محمود العلي منسق مركز حقوق اللاجئين عائدون.
4بحسب المرجع السابق تناقص عدد فلسطينيي لبنان إلى 174,422 نسمة بعد أن كان حوالي 500,000
5بحسب الدكتور محمود العلي عضو لجنة الحوار الفلسطيني اللبناني.
6بحسب اتفاقية الأمم المتحدة العام 1951 المتعلقة بحماية اللاجئين.