مصر : قانون للإجهاز على الصحافة

أصدرت السلطات المصرية قانوناً جديداً في مجال وسائل الإعلام يهدف الى إلغاء حرية الإعلام تماماً، علماً أن الإجراءات التي نص عليه القانون كانت أساساً قيد التطبيق قبل صدوره

القاهرة 26 أبريل/ نيسان 2016. مظاهرة أمام مقر نقابة الصحفيين
neweurope.eu

اجتاحت يوم الجمعة 13 يوليو المنصرم وسائل التواصل الاجتماعي في مصر أنباء وصور عن وقوع انفجار ضخم قرب مطار القاهرة، وبدأت وسائل إعلام عربية ودولية بالفعل في نقل الخبر دون تفاصيل، ومع ذلك لم يظهر الخبر على وسائل الإعلام المصرية إلا بعد صدور تصريحات من مسؤولين في الدولة حول الانفجار.

اتضح لاحقا أن الانفجار كان في أحد مخازن مصنع للكيماويات، ولكنه كشف بوضوح أن الأولوية في معالجة وسائل الإعلام المصرية ليست مواكبة الأحداث بقدر ما هي الالتزام بما تقدمه المصادر الرسمية.

هذا الالتزام الصارم قد تفسره واقعة أخرى سابقة. فخلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر صدرت إحدى الصحف الخاصة اليومية بعنوان يشير إلى جهد الدولة في حشد الناخبين للتصويت في الانتخابات. وعلى الرغم من أن الدولة كانت تبذل بالفعل وبشكل معلن وغير خفي على أي مراقب جهودا كبيرة لحشد الناخبين وزيادة نسبة التصويت، إلا أن العنوان كان كافيا لاستبدال رئيس تحرير تلك الصحيفة بأحد الكتاب من إحدى المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة.

عرقلة عمل الصحفيين

هاتان الواقعتان كانتا قبل صدور قانون تنظيم الصحافة بأسابيع، والذي وافق البرلمان المصري على إصداره 16 يوليو الجاري. ويمكن أن يوضحا الأجواء التي صدر فيها هذا القانون. القانون الذي أطلق عليه معارضوه “قانون إعدام الصحافة” تضمن عددا من المواد التي تضع قيودا على العمل الصحفي، مثل المادة 12 والتي تنص على أن

“للصحفي أو الإعلامي في سبيل تأدية عمله الحق في حضور المؤتمرات والاجتماعات العامة، وإجراء اللقاءات مع المواطنين، والتصوير في الأماكن غير المحظور تصويرها، وذلك كله بعد الحصول على التصاريح اللازمة في الأحوال التي تتطلب ذلك”،

وأن الصحفي يتوجب عليه الحصول على تصريح للقيام بعمله في كل مرة، ولا تعد الهوية الصحفية في حد ذاتها تصريحاً بمزاولة العمل الصحفي، وبذلك يصبح متابعة حدث طارئ غير محدد موعده سلفا أمرا مستحيلا على أي صحفي.

وفضلا عن القيود التي يضعها القانون على عمل الصحفي، فإنه ينزع عنه الحماية ضد الحبس، فتضع المادة 29 من القانون الصحفي تحت طائلة الحبس بسبب عمله، في “الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد” وهي تعبيرات بطبيعتها مطاطة ومرنة وقابلة للتأويل.

القيد الأبرز الذي وضعه القانون على الصحافة هي الصلاحيات شبه المطلقة التي منحها القانون للمجلس الأعلى للإعلام، والذي تتحكم الدولة في تسمية أغلبية أعضائه، إذ تنص الفقرة الثانية من المادة الرابعة من القانون على التالي:

“وللمجلس الأعلى، للاعتبارات التي يقتضيها الأمن القومي، أن يمنع مطبوعات، أو صحف، أو مواد إعلامية، أو إعلانية، صدرت أو جرى بثها من الخارج، من الدخول إلى مصر أو التداول أو العرض، وعلى المجلس أن يمنع تداول المطبوعات أو المواد الإباحية، أو التي تتعرض للأديان والمذاهب الدينية تعرضا من شأنه تكدير السلم العام، أو التي تحض على التمييز أو العنصرية أو الكراهية أو التعصب”.

المجلس الأعلى للإعلام نفسه هو صاحب السلطة في منح تراخيص إصدار الصحف والمطبوعات والمواقع الإلكترونية، كما أنه صاحب السلطة في المنع والمصادرة والحجب وفرض الرقابة وفقا لما ينص عليه القانون. واللافت أن مبررات الحجب والمصادرة والمنع جاءت أيضا في ألفاظ مرنة ومطاطة يسهل تأويلها.

أي حساب على الإنترنت له 5000 متابع

لم يتوقف القانون عند تقييد الصحف والمطبوعات والمواقع الإليكترونية، بل امتد أثره لمواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الشخصية، فمنح للمجلس الأعلى للإعلام صلاحية حجب وإغلاق الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، بحسب المادة 19 من القانون والتي تنص

“يحظر على الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإليكتروني، نشر أو بث أخبار كاذبة أو ما يدعو أو يحرض على مخالفة القانون أو إلى العنف أو الكراهية، وينطوي على تمييز بين المواطنين، أو ما يدعو إلى العنصرية أو التعصب أو يتضمن طعنا في أعراض الأفراد أو سبا أو قذفا لهم أو امتهانا للأديان السماوية أو للعقائد الدينية”،

وتضيف المادة في فقرتها الثانية “يلتزم بأحكام هذه المادة كل موقع إلكتروني شخصي أو مدونة إلكترونية شخصية، أو حساب شخصي يبلغ عدد متابعيه خمسة ألاف متابع أو أكثر”، ويمنح القانون المجلس الأعلى صلاحية حجب أو منع تلك المدونات أو الحسابات الشخصية، في الحالات المشار إليها، وهي أيضا تتسم بدرجة عالية من الغموض والمرونة.

إرحل يا سيسي

يتماشى هذا النص بالتأكيد مع ما أعلنه السيسي، خلال مؤتمر الشباب الذي عقد في 28 يوليو المنصرم، من انزعاجه من هاشتاج “إرحل_يا سيسي” والذي اجتاح وسائل التواصل الاجتماعي قبل أسابيع.

القيود التي يضعها القانون على الصحافة والإعلام موجودة بالفعل ومطبقة على نطاق واسع. فبحسب تقرير لمركز حرية الفكر والتعبير، تم بالفعل حجب أكثر من 500 موقع إليكتروني. حجب تلك المواقع منذ أكثر من عام تم تنفيذه دون صدور قرار قضائي وقبل وجود نص قانوني. وعلى صعيد حبس الصحفيين، يفيد تقرير لمنظمة “مراسلون من غير حدود” أن عدد الصحفيين المحبوسين في مصر بلغ 32 صحفياً، وهو نفسه الرقم الذي تؤكده جبهة الدفاع عن الصحفيين المُشَكّلة من عدد من الصحفيين، بينما يرصد تقرير اللجنة الدولية لحماية الصحفيين حبس 20 صحفياً. ورغم تباين الأرقام إلا أن جميعها تؤكد أن حبس الصحفيين لم يكن بانتظار مواد قانون تنظيم الصحافة.

حتى على صعيد صفحات التواصل الاجتماعي، تزايدت ملاحقة نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي قبل إصدار القانون، وألقي القبض على نشطاء بتهمة التدوين على مواقع التواصل الاجتماعي والتدوين، آخرهم ربما كان الناشطان اليساريان جمال عبد الفتاح وحسن حسين، واللذان اتهما بإدارة صفحة على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تدعو لمقاطعة الانتخابات الرئاسية، كذلك القبض على المدون وائل عباس.

أكثر ما يلفت الانتباه بالفعل في القانون أنه جرى تطبيقه بالفعل قبل صدوره بوقت طويل، فمع تعبير السيسي صراحة عن رغبته في الحصول على مناخ إعلامي شبيه بإعلام عبد الناصر بقوله “يا بخت عبد الناصر بإعلامه”، كان المشهد الإعلامي يستجيب سريعا للرئيس. ولم يكن استثنائا أن تظهر صحف الصباح، سواء المملوكة للدولة أو الخاصة بعنوان موحد مثل “مصر تستيقظ” وهو العنوان الذي تصدَّر كل الصحف تقريبا في اليوم التالي على انعقاد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في 2015، كما لو كان صادرا من جهة واحدة، وهي الظاهرة التي تكررت فيما بعد في مناسبات عدة.

الواضح أن هناك أوضاعاً تم صياغتها وتفعيلها في المشهد الإعلامي المصري على مدار السنوات الخمس الماضية، بحيث أصبح المشهد الإعلامي يعبر بوضوح عن توجهات السلطة ومواقفها، وربما ظهر ذلك بوضوح قبل أن تبدأ الدولة في تطبيق زيادة أسعار الوقود، فظهر تقرير موحد في وسائل الإعلام المختلفة يوضح الأعباء التي تتكبدها الموازنة العامة للدولة نتيجة دعم الوقود، وما ينجم عن ذلك من عجز في الموازنة. ما يسعى إليه القانون بالفعل هو ترسيخ الأوضاع القائمة بالفعل في المشهد الإعلامي، ومنحها صفة الدوام، بدلا من الاكتفاء بالسيطرة العملية على المشهد الإعلامي عبر ملكية رجال أعمال تابعين للدولة لوسائل الإعلام، أو عبر شركات تتبع أجهزة الدولة، كما حدث على مدار السنوات الخمس الماضية.

نقابة منزوعة المقاومة

لم تشهد عملية إصدار القانون مقاومة تذكر، رغم المواقف المعلنة من صحفيين رفضوا القانون وكشفوا مساوئه، وربما يرجع الأمر لسببين رئيسيين، أولهما هو ما ذكرناه، من أن ما جرى .تطبيقه قبل صدور القانون لا يختلف في جوهره ولا حتى في كثافته عما ينص عليه القانون

والسبب الثاني، هو أن أجهزة الدولة نجحت بالفعل في إضعاف مقاومة الصحفيين، عبر السيطرة على النقابة في الانتخابات التي جرت في العام الماضي، والتي سبقها اقتحام الأمن للنقابة والقبض على صحفيين منها في الواقعة الشهيرة مطلع مايو 2016، فضلا عما يعانيه الصحفيون بالفعل في علاقات العمل حاليا، نتيجة انكماش الصحف والفضائيات والمواقع الإلكترونية، وهو ما أدى لتسريح أعداد كبيرة من الصحفيين، وانخفاض مستويات الأجور في الإعلام.

رغم أن السلطة نجحت بالفعل في السيطرة شبه الكاملة على المشهد الإعلامي في مصر، إلا أن المتابع لتطور الأحداث في مصر منذ مطلع الألفية سيدرك أن هناك ما يقلق السلطة رغم سيطرتها.

منذ مطلع الألفية بدا واضحا أن الواقع المصري شديد الحساسية لكل تطور يطرأ على وسائل الإعلام، كما ظهر أن تأثر الواقع المصري بتطور وسائل الإعلام حصل بشكل سريع نسبيا. لقد كانت بداية تطور وسائل الإعلام مع ظهور القنوات الفضائية في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، كانت تلك هي المرة الأولى التي لا تتحكم فيها الدولة المصرية فيما يظهر على شاشات التليفزيون في المنازل، ولم يستغرق الأمر كثيرا، فمع انطلاق انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 وانتشار صورة الطفل الشهيد محمد الدرة تحرك الشارع المصري في رد فعل سريع وقوي، رغم استمرار حالة الركود السياسي لسنوات قبل ذلك.

خوف النظام من الشارع

ومع استمرار التطور في المشهد الإعلامي استمر التطور في حركة الشارع، فتأثير الفضائيات الذي استمر حتى غزو العراق في 2003، أضيف له ظهور الصحافة المستقلة والتي انطلقت في عام 2005 محدثة تأثيرا ملحوظا في حركة التغيير الديموقراطي التي بدأت في التبلور عقب مظاهرات غزو العراق، وصاحب تأثير الصحف المستقلة تأثير المدونات والتي فتحت مساحات حرة غير خاضعة لا للدولة ولا للإمكانيات المالية. كانت التطورات سريعة ودرامية، ففي العام 2008 لم يكن مر على إطلاق موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” سوى أربع سنوات، ومع ذلك كان لإطلاق دعوة منه للإضراب العام في 6 أبريل 2008 دورا هاما في إطلاق انتفاضة المحلة والتي سبقت ثورة يناير، وكانت إحدى إرهاصاتها، وأحد عوامل تعبئتها . ثورة يناير نفسها لعبت فيها وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والاتصال الحديثة دورا هاما وأساسيا. سرعة تأثر الواقع المصري بالتغيرات في الإعلام، ومواكبة أحداث كبيرة لتطور وسائل الإعلام والاتصال، خلق هاجسا لدى السلطة في مصر تجاه الإعلام، وجعل مسألة سيطرة الدولة على وسائل الإعلام أمرا يتصل باستقرار النظام نفسه وبقائه، هكذا يمكن فهم أهمية إصدار قانون تنظيم الصحافة في هذه المرحلة، على الرغم من نجاح الدولة في السيطرة الفعلية على الإعلام، فالقانون قد لا يعني تغيرا هاما في المشهد الحالي، ولكنه قد يكون ضروريا لحماية المشهد الإعلامي من أي تغيرات محتملة. ولكن السؤال الذي لا يجيب عليه القانون هو، هل يمكن لأدوات السيطرة التي أممت المشهد الإعلامي في ستينات القرن الماضي، وأحكمت قبضة الدولة على كل ما يتلقاه المواطنون، أن تقوم بالدور نفسه بعد أن شهدت وسائل الإعلام ثورات متتابعة، جعلت تدفق الأخبار يأتي من مئات أو آلاف القنوات التي يصعب السيطرة عليها جميعها داخل البلاد وخارجها؟