تونس: المساواة في الميراث تثير تساؤلات

الإسلام، الإصلاح، الديمقراطية · لاقى الإعلان بمبادرة رئاسية في تونس عن مشروع قانون لإرساء مبدأ المساواة في الإرث بين المرأة والرجل إشادةً لكونه يمثل تقدماً جديداً لوضع المرأة. لكنه يطرح إشكاليتين: أيُّ مكانة للدين؟ وكيف يمكن إصلاح المجتمع في ظل نظام ديموقراطي؟

والد يحمل ابنته على كتفيه خلال مظاهرة 6 أغسطس/آب 2013

تواصل تونس فتح آفاق جديدة في العالم العربي والإسلامي: بمبادرة من رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، سيُعرض أمام البرلمان مشروع قانون يهدف إلى تنقيح مجلة الأحوال الشخصية (التي احتُفل بذكراها الثانية والستين في 13 آب/أغسطس الماضي)، قانون يهدف إلى إرساء المساواة في الإرث بين المرأة والرجل من نفس درجة القرابة. وهي خطوة تُحدث قطيعة مع نص قرآني، معمول به حتى الآن، يُعدُّ واضحاً وغير قابل للتأويل وفقاً للفقه الإسلامي، يعطي النساء نصف نصيب الرجال فقط. برغم أنّ مجلة الأحوال الشخصية تعتبر الأبعد عن المعايير الإسلامية، نسبةً لتلك التي كانت تطبق قبل تبنيها، والأكثر دعماً لحقوق المرأة في العالم العربي والإسلامي1 فإن الحبيب بورقيبة لم يشأ خرق هذه القاعدة، عام 1956، مراعاةً لمشاعر التونسيين الدينية، علماً أنّ الذين أعدوا مجلة الأحوال الشخصية لجأوا إلى الفقه الشيعي الاثنى عشري لإعطاء الأولوية لبنات المتوفى على إخوته في حال لم يكن له أبناء من الذكور، وذلك على عكس المعمول به في الفقه السني.

يريد الباجي قائد السبسي بمبادرته هذه مواصلة مشروع العلمنة الذي بدأه من يعتبره قدوةً له (أي بورقيبة)، والاستجابة لمطلب قديم من مطالب الجمعيات النسوية. لكن مراعاةً منه للمشاعر الدينية، على غرار بورقيبة، يقترح إمكانية الاستثناء عن هذه القاعدة في القانون الجديد إذا وُجِدت وصية تختار العمل بنظام المواريث السابق. وهو يعمل بتوصية لجنة الحريات الفردية والمساواة برئاسة بشرى بالحاج حميدة التي كان قد كلّفها العام الماضي بمراجعة التشريعات والقوانين لتحديد الأحكام التي تتعارض مع مبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها في دستور 2014، واقتراح تنقيحها. يتضمن التقرير مئات الاقتراحات: إلغاء عقوبة الإعدام أو تحديد حالات تطبيقها؛ إلغاء تجريم المثلية الجنسية أو حذف عقوبة السجن؛ تعريف محدد للنظام العام والأخلاق الحميدة المذكورين في المجلة الجزائية؛ منع المهر الذي أصبح رمزياً، و ألاّ يعتبر عقد الزواج لاغيا في غيابه؛ إلغاء وضع “رب الأسرة” الممنوح للزوج... وقد أحال الرئيس النظر في كل هذه الاقتراحات إلى لجنة تجتمع لاحقاً.

عودة الاستقطاب على الهوية

رحب الإعلام الغربي بجرأة الإعلان، إذ أنّه يغذي النظرة إلى دولة تونسية لا تنفك تبتعد عن الدين، وقد أغبط الأمر كذلك جزءاً من الرأي العام التونسي، لكنّه أجج مناخاً كان في الأصل متوتراً. فمنذ نشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، في 12 حزيران/جوان الماضي، أعاد النقاش العام التونسي الى الواجهة الانفعالات حول الهوية وحدّة الجدالات التي كانت في عامي 2012 و2013 حين كان حزب النهضة الإسلامي في السلطة وكانت المعارضة في هلع من أن ترى تونس تنزلق نحو ثيوقراطية إسلامية. فبعد أكثر من أربعة أعوام من الهدوء، عادت المواقف إلى الاستقطاب بين حداثوية علمانية وتجذر في الهوية الإسلامية. التخوف من رؤية “الإسلام يُقتلع من المجتمع التونسي على يد نخبة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الغربية”، يُقابِلُه التخوف من رؤية “الإسلامويين يتغلغلون في الدولة لإخضاع البلاد للشريعة”. حتى في صلوات يوم الجمعة، ينشر عدد من الأئمة شائعات غير واقعيةً حول نوايا “اللجنة”: منع ختان (الذكور) تحت طائلة عقوبة السجن 12 عاماً، تشريع زواج المثليين، حذف كل مرجعية إلى الإسلام في الدستور، إلخ. شتائم وتهديدات تنهال على أعضاء “اللجنة”، وعلى رئيستها بشكل خاص.

إن شاهدنا هذا الهيجان في الانفعالات من جديد، فذلك لأن الإعلان عن إصلاح في الإرث بمبادرة من رئيس الجمهورية يأتي ليثير سؤالين أساسيين لم يستقر الحل بشأنهما في تونس. بدايةً، ما هي المكانة التي يمكن الاعتراف بها للمرجعية الدينية في القانون الوضعي في وقت من المستحيل فيه نكران أهميتها داخل المجتمع؟ ثمّ، كيف تقام إصلاحات مجتمعية في نظام أصبح ديموقراطياً، حيث لا يمكن تصوّر الإصلاح من دون الشعب، أو ضدّه. برغم محدوديته، فإنّ مقترح إصلاح الإرث يلامس مسائل خلافية كبرى فيما يتعلق بالرموز التي توحّد المجتمع وأسلوب الحكم.

انفصام قضائي

لا يمكن لأحد تجاهل المكانة التي يحتلها الإسلام في المجتمع التونسي. “تبقى الثقافة الإسلامية مهمة بشكل خاص في مسألة الحريات الفردية والعلاقات بين الجنسين”، كما يعتبر صلاح الدين الجورشي، عضو “اللجنة” ويمثّل داخلها توجهاً إسلامياً تقدمياً.

“لا يجوز تبسيط الصورة ووصف مجتمع يتجذّر فيه الإسلام، يوضح وحيد فرشيشي، رئيس جمعية الدفاع عن الحريات الفردية ومتحدث باسم تحالف منظمات تجندت لصالح توصيات اللجنة. صحيح أن الذهنية السائدة دينية، لكن للأفراد علاقات شديدة التنوّع مع الدين، وفي كلّ مرحلة من مراحل بناء الدولة الحديثة، كان القانون التونسي يتحرر من الإطار الإسلامي”. “لقد تطلب خلق مساحة بين الدين والدولة وإنشاء بنية جديدة حديثة للمجتمع الوقت الطويل والكثير من التوترات والمواجهات الثقافية، يرى بدوره صلاح الدين الجورشي. لكن في كل مرّة نتقدم في هذا التنظيم، يُطرح السؤال نفسه: أي دور يجب أن يكون للدين؟ في هذا الصدد، إنّ قانون الإرث هو من آخر المجالات التي مازالت محكومة بالتقليد الإسلامي، ما يجعل منه علامة للهوية”. وقلعة لا بد أن يجري فتحها. عبر إخراج الأحوال الشخصية من سطوة القانون الإسلامي وإيداعها عند الدولة، كان حبيب بورقيبة قد قفز قفزةً نوعيةً عام 1956 نحو علمنة القانون التونسي. لكنّه لم يرغب في إجراء قطيعة مع الإطار المرجعي الديني. على العكس من ذلك، آثر “ازدواجية معيارية” .

وجعل من نفسه مجتهداً، عاكفاً على التفسير، لتبرير تحديث قانون الأحوال الشخصية. “كان بورقيبة يُدرك أنّ العلمنة لا يمكن أن تكون إلا جزئية، خاصة في مجال حساس مثل الأسرة، حيث تبنى وتتثبت الهوية الدينية”، وفق قراءة سابقة لفايزة طوبيش2 . هذا الأمر لم يجنّبه الانتقادات الحادة من قبل السلطات الإسلامية التونسية والدولية، وحتى إعلانه مرتداً من قبل الشيخ المصري القرضاوي (الذي أصبح فيما بعد الواعظ النجم في قناة الجزيرة).

أورث قانون الأحوال الشخصية المجتمع التونسي “انفصاماً قضائياً، مولّداً لاضطرابات تحديد الهوية”، وفق فايزة طوبيش. منذ أكثر من عشرين عاماً، تدعو منظمات الحركة الحداثية إلى الخروج من هذه الازدواجية وتأسيس قانون الأسرة والحقوق استناداً إلى القيم الكونية لحقوق الإنسان، التي أصبحت الآن مكرسة بفعل دستور عام 2014. ولئن أشارت لجنة الحريات الفردية والمساواة إلى مقاصد الإسلام، فإنّ أعمالها تندرج ضمن هذه الروحية. وبخلاف بورقيبة، لم يسعَ الباجي قائد السبسي في إعلانه في 13 آب/أغسطس لبناء قراره على تأويل للنصوص الإسلامية، وأشار بإصرار إلى الطابع المدني للدولة كما هو منصوص عليه في الفصل الثاني من الدستور. في الآن نفسه، حشر السبسي حزب النهضة الإسلاموي المحافظ في زاوية، ضاغطاً عليه لإثبات اعتناقه مبدأ مدنية الدولة.

النهضة أمام امتحان

إذا كانت الدولة المدنية تحتكر فعلياً سن القوانبن، فإنّ لا شيء يمنعها من الغرف من التقليد الإسلامي كمصدر إلهام، وفقاً لقراءة النهضة. كما أنّ الدستور الذي يجعل من الدولة “راعيةً للدين” (الفصل 6) جرى الاستشهاد به من قبل معارضي تقرير “اللجنة” بغية الحفاظ على تعريف الحريات والمساواة في إطار المرجعية الإسلامية، حتى ولو أعيد تأويلها. الأمثل بالنسبة للنهضة، كان في السير نحو المساواة في الإرث انطلاقاً من تفسير (ديني) جديد، حتى ولو لم يكن هناك أي ضمانة ألاّ ينظر حماة العقيدة والهوية المتشددين الى مثل هذا التأويل على أنه مجرد تسوية سياسية.

“إن ضعف القطاع الديني مسؤول الى حد بعيد عن التشنّج حول الهوية، يشير صلاح الدين الجورشي. المدارس الدينية في العالم السنّي تمرّ بأزمة بنيوية، وخلخلة المؤسسات الدينية في تونس بعد الاستقلال فاقمت الأزمة. قلّة من العلماء لديهم الجرأة لمراجعة القراءات القديمة والقدرة على تطوير خطاب مبني على كيفية أن تكون مسلماً في القرن الحادي والعشرين”.

علاوة على ذلك، فإنّ حركة النهضة هي بالطبع في أوج تحوّلات عقائدية تماشي تحوّلها إلى حزب في الحكم، لكنّ ارتكازها الى رهانات جديدة، لا سيما اقتصادية واجتماعية، لا يزال بعيداً ولا يسمح لها بترك تجذّرها التاريخي في المسألة الثقافية والسير بعكس تيار قاعدتها والنواة الصلبة لناخبيها. ولأنّ الحركة متأكدة من ارتباط غالبية كبيرة من التونسيين بالإطار المرجعي الديني، فإنّها تدرك أنّه بإمكانها كنز أصوات عدة تُعارض علمنة جذرية. إلا أنّ الوقوف ضدّ مبادرة الباجي قائد السبسي من شأنه إضعاف مكتسبات اندماجها في المؤسسات و تقديرها دولياً. هل يمكن لـ“خيار الوصية” الذي عرضه الباجي قائد السبسي أن يُمثّل خشبة خلاص بالنسبة لها؟ “ضمان المسارين: القانون من ناحية والوصية من الناحية الأخرى، مقبول تماماً دينياً”، تقر محرزية العبيدي، النائب عن حركة النهضة وعضو لجنة الحقوق والحريات. لكن ما الذي يجب أن يكون المبدأ وما الذي يجب أن يكون الاستثناء: الإطار المرجعي الديني أو الإطار المرجعي المُعَلمَن؟ في هذا “التفصيل” يتركز جوهر الخيار حول الهوية بالنسبة لتونس. طرح السؤال بطريقة جذرية إلى هذا الحد، يعني أن تلقى على عاتق الأسرة المسؤولية الجسيمة في وضع تصور إيديولوجي لهذه المسألة. لكن هذا المسؤولية الرمزية تحجب واقع الاختلاف والتباين الكبير في الممارسات الفعلية، التي تحكم علاقات الأسر والديناميكيات المتناقضة التي تعتمل داخلها.

الأسرة، مكان متاخم لهذا وذاك في الوقت الذي يمر فيه مجتمعنا بتقلبات عميقة، وتهتز الأوضاع الاجتماعية وتصبح معرضة للفقر، تبقى الأسرة مرجعاً رمزياً، بل وإطاراً مهماً للتضامن. يجب إذاً التعاطي معها بحذر“، تقول محرزية العبيدي.”الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، وعلى الدولة حمايتها“، كما ينص الفصل السابع من الدستور الجديد. وحتى إذا بقيت فضاءً للنظام الأبوي بامتياز، فإنها عبرت بتطورات عصرها: انخفاض الخصوبة؛”العدد المتنامي للنساء المتعلمات والحاصلات على شهادات في سوق العمل، والذي يعيد النظر بالنظام الأبوي التقليدي (...) المستند الى المؤسسات الدينية“، تعتبر كريمة ديراش. تتغير النماذج الأسرية ودور النساء في الاقتصادر الأسري، لكنّ العقليات والممارسات تقاوم. هذا ما خلصت إليه شهادة جمعتها الباحثة في علم الاجتماع إلهام مرزوقي في دراسة مخصصة للتطلعات الذاتية للنساء:”نواجه عدم الاعتراف بما أصبحنا عليه، أكان ذلك في الإطار الأسري أم من قبل الأزواج“3.

ومن عناصر المقاومة الملموسة أكثر من غيرها نجد على وجه الخصوص مسألتي الارث والحصول على الملكية: تتنازل نساء عديدات عن نصيبهن في الإرث لفائدة إخوانهن، لاسيما في المناطق الريفية حيث الأرض هي الموضوع. “اليوم، 3.2% فقط من النساء الريفيات يملكن الأرض التي يشتغلن فيها أو المكان الذي يقطننه، تقول بشرى بلحاج حميدة باستياء. نساء عديدات لديهن مشاريع للأراضي التي يشتغلن فيها لكن ليس بإمكانهن الحصول على قروض لأنهن لا يحصلن على شهادة ملكية”.

القانون أيضاً يُبقي الأسرة ضمن النموذج الأبوي: الزوج هو “رب العائلة” وعليه واجب تلبية حاجاتها، في حين أنّ الزوجات، وعلى نحو متزايد، أصبح لديهن مداخيل يستخدمنها للمساهمة في أعباء المنزل أو لتلبية حاجات أسرهن، ولكن من دون التمتع بالوضع المناسب لدورهن. ويعدّ هذا التصادم للنماذج الأسرية مصدر توتر. لذا فإنّ إدخال المساواة في الإرث، الذي يعني تعزيز الفردانية والطابع النووي للعائلة، من دون تعديل بقية أحكام مجلة الأحوال الشخصية التي تحافظ على عدم المساواة بين الزوجين وتلحقهما بنمط الأسرة التقليدية، مثلما اقترحت “اللجنة”، يُخاطر بزيادة التوترات والفجوة بين القانون والممارسة.

الثقافة، الدين، الاقتصاد، السياسة، الأسرة هي فضاء متاخم للجميع. وأن يمس القانون الذي يحكمها، وبالأخص في بعده الاقتصادي، هو عمل دقيق للغاية ويتطلب التعامل مع مستويات زمنية متفاوتة: الزمن الطويل لتطور العقليات والتعليم الذَين لا يستطيع القانون فعل شيئ مباشر حيالهما؛ الزمن الأزلي للعقيدة الدينية، تغيّر الأدوار الاقتصادية المتقدمة على القانون؛ الزمن القصير للسياسة ذات الإيقاع المحدد بتقلّب موازين القوى السياسية والتي تفتح أبواب الفرص أو تغلقها، والمحدد أيضاً بالاستحقاقات الانتخابية التي تؤجج النوايا المبيتة، وفي الوقت الحالي مع الأفق القصير لرئيس في نهاية ولايته. فلا معنى فعلي إذاً لفكرة التعامل مع إيقاع المجتمع وحده. لا توجد أوقات جيّدة للتغيير، بل ثمة آليات جيّدة.

مساءلة المعتقدات الحداثوية مجدداً

في هذا المجال، لا تزال الديموقراطية التونسية تبحث عن منهجها. لا مرجعية لديها، سوى “التدرج” على الطريقة البورقيبية: الإصلاح بمراحل ووفق ما يظهر ممكناً بالنظر إلى حال المجتمع وموازين القوى السياسية. رغم توخيها للواقعية، فإنّ هذه المنهجية تعود إلى سلطة مركّزة بيد زعيم يوازن بين حصة الجرأة والكبح، أي في هذه الحالة بين العلماني والديني، ويعتمد على نخبة ضيقة ولكنّها “مستنيرة”. “منذ منتصف القرن التاسع عشر، على الأقل، كانت الإصلاحات تأتي عبر أوساط يُنظر إليها على أنّها من خارج البلاد: مماليك تمت تنشأتهم في القصور العثمانية قبل الحماية (عام 1881)، نخبة فرنكوفونية مكوّنة في كبرى المدارس الأوروبية بعد الاستقلال. وحتى لو وَجدَت النخبة المحافظة دوراً لها من جديد ضمن النقاش، فإنّ مبادرة اللجنة تبدو بدورها آتية من فوق”، يرى وحيد فرشيشي.

قد يفترض العهد الديموقراطي نماذج أخرى: وفق مقاربة يمكن أن نصنفها بـ“التسريعية”4

، تطبيق المبادئ الكونية والعلمانية التي يحيل الدستور إليها، ومن دون انتظار. وفق هذا المنظور، يُعتبر الحديث عن الواقع المعقّد نوع من الأفكار المسبقة عن طبيعة الثقافات ومسايرة “استشراقية” لنماذج قديمة بالية. لكن محرزية العبيدي وبشرى بالحاج حميدة تتفقان على التقدير، ووفق عبارات متشابهة تقريبا، بأنّه “في مرحلة ترسيخ الحريات، فإنّ استفزاز الشعور الديني يخاطر بتوتير الرأي العام وبتعريض مجمل المسار للخطر”. أما صلاح الدين الجورشي، فيخشى من أنّ يفتح التشنج الحالي “في ظرف أزمة اقتصادية، وغياب اليقين السياسي وانعدام الثقة تجاه النخبة، للدعوة السلفية طريقاً واسعاً معبداً لزيادة نفوذها”. فتح المجال للتعبير يمنح المجتمع المدني إمكانية تحدي المحظورات، من أجل تحريك الخطوط وفرض النظر في المسائل على السياسيين. لكن هذا الأمر لا يرفع عن السياسيين مسؤولية وضع نقاشات جدّية معمقة، وتحديد الأولويات والمخاطر بما يسمح بتسيير الأمور بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى شرح القانون بأسلوب تربوي يستبعد استغلال الموضوع أيديولوجياً. والعمل على ألا يبقى مشروع التحديث نخبوياً يقدم لشعب متروك على الهامش، وإنّما أن يكون تعبيراً عن حاجات الناس ورغباتهم، فهذا هو بالضبط جوهر المشروع الديموقراطي. هذه المتطلبات الجديدة تدعو العائلة الحداثوية إلى مساءلة معتقداتها حول قدرة القانون على تحويل المجتمع. في دراستها5 ، تشير إلهام مرزوقي إلى حدود “شعار (...) الثورة عبر القانون المكرّس كرافعة وحيدة للتغيير (...) والى عقيدة”التقدّم“على المجتمع”. طبعاً ثمّة تغييرات حدثت في المجتمع، ولكنّها ليست “تغييرات تسمح بخطابات رنانة حول استثنائية الحالة التونسية، وإنّما هي تحولات بطيئة، دفينة وشبه خفية”. لطالما اعتز رجال القانون بقدرتهم على صنع تاريخ تونس، لكن من المستحسن أن يلجؤوا أيضاً الى معارف علماء الاجتماع كي لا يكرروا أخطاء الماضي. حالياً، لا يظهر الإصلاح الذي أعلن عنه الباجي قائد السبسي في 13 آب/أوت الماضي سوى إصلاح مجتزأ، بلا غالبية برلمانية مكتسبة، وهو مطروح في جوّ ملبّد بالانفعالات، ملوّث بالنوايا السياسية المبيتة، مشحون بمقترحات حول مواضيع حساسة لا إرادة سياسية جلية لترجمتها الى واقع. أما فيما يتعلق بتحسين وضع المرأة فعلاً في الأسرة، فهذه مهمة ما زالت في معظمها تنتظر التحقيق.

1على الأقل إلى حين تبني “المدونة” قانون الأسرة المغربي، عام 2004، وهو لصالح المرأة بشكل أكثر في بعض الجوانب.

2فايزة طوبيش، مجلة الأحوال الشخصية التونسية: خيار الازدواجية المعيارية. من: الأحوال الشخصية في البلدان العربية: من الانفجار إلى التجانس. ايكس اون بروفونس 2008.

Faïza Tobich. Le code du statut personnel tunisien : Le choix de l’ambivalence normative. in : Les statuts personnels dans les pays arabes : De l’éclatement à l’harmonisation. Aix-en-Provence : Presses universitaires d’Aix-Marseille, 2008. https://books.openedition.org/puam/1012?lang=fr

3كريمة ديراش-سليماني،”مقدمة" القانون في المنطقة المغاربية. مجلة

L’Année du Maghreb Karima Dirèche-Slimani, « Introduction », L’Année du Maghreb, II | 2007, 5-9. Femmes, famille etc. Droit au Maghreb. http://journals.openedition.org/anneemaghreb/72

4(6) إلهام مرزوقي “كيف تصبح الأمور عادية، من خلال مجلة الأحوال الشخصية التونسية”، مجلة

L’Année du Maghreb. Ilhem Marzouki, « La conquête de la banalisation par le Code tunisien du statut personnel », L’Année du Maghreb, II | 2007, 71-95. http://journals.openedition.org/anneemaghreb/91

5لنستخدم، في سياق مختلف، مصطلح نيك سرنسيك و آليكس ويليامز، البيان التسريعي.

Multitude n°56, Automne 2014. http://www.multitudes.net/manifeste-accelerationniste/