انقسمت إدارة أوباما حيال الأحداث المثيرة التي راحت تهدد بشكل مفاجئ النظام الإقليمي القديم ابتداءً من شتاء 2011-2012. وكانت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ممن يودون مساندة الرئيس مبارك حتى النهاية، في حين كان الرئيس أوباما، وعلى خلاف غالبية أعضاء حكومته، يرى العكس. وكما شرح أحد كبار الموظفين في وزارة الخارجية:“كنا ميالين الى عملية انتقال يقودها مبارك. وعندما رأينا أن الفكرة لم تمر، قلنا عمر سليمان وعندما استبعدت الفكرة، قلنا : طيب...على الأقل لنتعاون مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة”. والهدف هو الحفاظ على اتصال مع السلطات ولا سيما مع الجيش المصري، وهو الضامن للسلام مع إسرائيل
وماذا كان موقف الحكومة الأميركية من الإخوان المسلمين؟ في ربيع 2011 لم تكن وزارة الخارجية تعرف أحداً ممن سيشكلون فيما بعد الكتلة السياسية المصرية الأكثر نفوذاً. وكما يروي لمؤلف الكتاب أحد أعضاء مجلس الأمن القومي: “لم نكن نعلم شيئاً في البداية. لقد كتب مستشارو السيدة كلينتون في وزارة الخارجية والمسؤولون عن الملف المصري في المجلس القومي برقية تطلب من السفارة الأميركية في القاهرة عقد اتصالات مع الإخوان المسلمين.” ولكن المسألة أخذت شهراً إضافياً حتى رضخ موظفو السفارة للأمر"
رهان واشنطن المزدوج
ولم تكن هذه الاتصالات الأولى مثمرة فعلاً وكان عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين والتابعين للمخابرات يخشون انتخاب محمد مرسي. ثم كانت الدورة الثانية من انتخابات شهر يونيو حزيران قد شهدت جدالاً داخلياً حادا في واشنطن، ولا سيما أن شبكة العلاقات السعودية والإماراتية المؤثرة جداً في العاصمة الأمريكية كانت تؤيد خصمه أحمد شفيق. ويقول كيركباتريك : “العديد من أعضاء الجيش والمخابرات كانوا متخوفين فعلاً من وصول أحد الإسلامويين الى سدة الرئاسة في مصر” ويذكّرنا بما قاله بن رودز أحد المستشارين المقربين من الرئيس أوباما بعد حضوره اجتماعاً لمجلس الأمن القومي:"كان بإمكاننا أن نلاحظ ميل العديد من المتواجدين في القاعة لصالح أحمد شفيق. ولكن حتى هؤلاء لم يكونوا يقبلون بأن نتحرك ضد الشخص الآخر (أي مرسي) الذي كسب الانتخابات الحرة.
والرهان المزدوج الذي قامت به واشنطن، أو لنقل البيت الأبيض، كان أن يقوم اولاً الإخوان المسلمون، الحزب الأقوى والأفضل تنظيماً في مصر، بالإصلاحات الضرورية لإعادة الاستقرار. وثانياً أن يكون دعم مرسي للاتفاقات بين مصر وإسرائيل داعماً لنفوذ أمريكا. ولئن صح الرهان الثاني فالرهان الأول لم يكن مجزياً.
ولقد حصل اختبار فعلي بعد هجوم إسرائيل على غزة وحركة “حماس” في نوفمبر 2012, فاتصل أوباما شخصياً بمرسي ووعده هذا الأخير بأن يجلب حركة “حماس” الى طاولة المفاوضات. بن رودز يتذكر تماماً :“كانت المباحثات في طريق مسدود قبل وصول مرسي الى الحكم...ولقد أوفى بوعده...احترم جانبه من الصفقة...بل أنه فاجأ المشككين”. ويتذكر ستيفن سيمون عضو مجلس الأمن القومي من ناحيته :“كان ذلك امتحان مصيري بالنسبة لمرسي ولقد نجح فيه نجاحاً كبيراً وكان ذلك أمراً حيوياً”. ولم تتأخر المكافأة، فقامت هيلاري كلينتون نفسها بزيارة للقاهرة في 21 نوفمبر تشرين الثاني لإعلان وقف إطلاق النار وتوجيه الشكر الى مرسي “على اضطلاعه بالزعامة المصرية التقليدية التي جعلت منذ زمن طويل من هذا البلد حجر الزاوية في الاستقرار والسلام في المنطقة”. وعندما توجه عصام الحداد مستشار مرسي للسياسة الخارجية بعدها بأسابيع الى واشنطن فوجئ بترتيب مقابلة شخصية له مع الرئيس أوباما. هذه الأحداث كان لها نتيجة مزدوجة: تغذية حملة في مصر حول الدعم المزعوم من أوباما للإخوان المسلمين وإقناع مرسي بأنه قد حصل على دعم من الإدارة الأميركية يحميه من أي تدخل للجيش المصري ضده. إلا أن الأحداث كانت ستثبت له العكس.
فلقد كان حكم مرسي، علاوة على افتقاده للكفاءة وأخطائه وضيق نظرته الفئوية، يواجه حملةً إقليمية منظمة تروِّج لها أيضاً أوساط متنفّذة داخل الإدارة الأميركية. يقول كيركباتريك “في أبريل 2013، راحت شبكة القنوات الفضائية التي مقرها في الإمارات سكاي نيوز العربية، وقناة العربية في السعودية ووسائل إعلام مصرية مرتبطة بالإمارات تندد كلها بمؤامرة مزعومة، وعلى رأسها السفيرة باترسون، حملت الإخوان المسلمين الى الحكم.... وكانت الاتهامات مليئة بعبارات مثل”خدام الإخوان“و”الساحرة الشمطاء“أو”الغول“... وكانت تؤكد أن السفيرة قد مارست ضغطاً على الحكومة المصرية لتزوير الانتخابات الرئاسية”, وكان كل ذلك نتيجة “المؤامرة الكبرى” لصالح....إسرائيل ! وكما يذكر رودز في حديثه مع المؤلف :“لقد موّلت البلدان الحليفة للولايات المتحدة الأميركية حملة شعواء ضد سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في بلد من أكثر المستفيدين من مساعدة الولايات المتحدة الأميركية وذلك بهدف قلب الحكم المنتخب ديمقراطياً في ذلك البلد”.
الخلط بين القاعدة والإخوان المسلمين
ولَم يكن لهذه الحملة أن تنجح أصلاً لو لا هؤلاء الأعوان المتنفذين في واشنطن وتغذية سفارتي السعودية والإمارات العربية المتحدة لها بالأنشطة المختلفة. العديد من العاملين في وزارة الدفاع البنتاغون لم يكونوا يخفون عداءهم لكل ما له علاقة بالإسلام. وكان الجنرال ماتيس، قائد القيادة المركزية والمسؤول عن كل عمليات الشرق الأوسط في آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا (وسيصبح لاحقاً وزير دفاع دونالد ترامب) يعتقد أن الإخوان المسلمين والقاعدة ينتميان تقريباً الى التيار نفسه. وكان مايكل فلين مدير مركز المخابرات في مجال الدفاع يصف الإسلام بال“سرطان” وكان قد عقد علاقات وثيقة مع الجنرال عبد الفتاح السيسي. ثم سرّحه بعد ذلك أوباما من عمله في آب/ أغسطس وأصبح مستشاراً للأمن القومي لدى ترامب لفترة وجيزة.
وكما يلاحظ المؤلف“باتت الانقسامات داخل الحكومة الأميركية واضحة تماماً بالنسبة للدبلوماسيين والعسكريين في المنطقة. فأوباما وجزء من البيت الأبيض كانا يأملان أن ينجح مرسي. وبالمقابل كان الكثير في وزارة الدفاع، من أمثال ماتيس وفلين يتفقون مع نظرائهم في مصر والإمارات على أن محمد مرسي يشكل خطراً. ولقد بلغ هذا الانفصام في الموقف الأميركي حداً جعل الجنرالات المصريين يتذمرون منه في حديثهم مع كل من يتصلون به في البنتاغون.” كما أدركوا أن بإمكانهم التحرك ضد الحكم المنتخب في مصر دون عمليات انتقامية أمريكية ضدهم. في يناير 2013 عين أوباما شاك هيغل، وهو من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، وزيراً للدفاع. وكان قد كلفه بالذهاب الى مصر لينذر السيسي بأن أي انقلاب عسكري من شأنه أن يؤدي الى وقف المساعدة العسكرية الأميركية. ولكن الوزير بحكم قناعاته السياسية الشخصية والضغوط السعودية والإماراتية والإسرائيلية، امتنع عن توجيه هذا الإنذار للسيسي، حسبما يقول كيركباتريك. ومنذ مطلع الربيع في 2013 أخطرت كل وكالات المخابرات واشنطن بأن انقلاباً قيد الإعداد “ولكن أحداً في في البنتاغون أو في وزارة الخارجية لم يطالب السيسي بالتوقف ولا شرح لمرسي أن موقف السيسي قد تحول ضده” (والغريب في الأمر أن مرسي ظل حتى النهاية يضع كامل ثقته في وزير الدفاع لديه).
إسرائيل الى جانب الإنقلابيين
في 3 يوليو/تموز كان السيسي قد حزم أمره وأقدم على الانقلاب ووضع مرسي تحت الحراسة. غداة ذلك الْيَوْم دعا أوباما الى اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومي. وفاجأ مستشاريه برفضه وصف تحرك السيسي “بالانقلاب”، مما كان يفترض حكماً وقف المساعدة العسكرية. وكان وزير الخارجية جون كيري على نفس الخط تماماً إذ شرح هذا الموقف لاحقاً لمؤلف الكتاب قائلاً :“لقد رضخ السيسي وقتها لإرادة الشعب وكان يسعى لإنقاذ مصر. وكان الجنرالات في الجيش يؤكدون إن تنحية مرسي تهدف لتفادي انفجار داخلي ولاستعادة هيبة القانون وليس طمعاً في الحكم. وكانوا يزعمون أن العسكر على وشك تبني خارطة طريق تفضي الى انتخابات”. ولقد لعبت اسرائيل دوراً لا يستهان به في هذا الحدث كما يشرح ذلك هيغل لكيركباتريك:“كانوا (الإسرائيليون) يقولون :المسألة تمس أمننا و لقد كان هو (أي السيسي) الضمانة الأفضل على الإطلاق للعلاقات مع المصريين. ولذا فلقد تدخلوا لصالحه في الكونغريس”. وكان راند بول العضو في مجلس الشيوخ قد قدم مشروع قانون يهدف الى وقف المساعدة العسكرية الأميركية لمصر بسبب الانقلاب. لكن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المعروفة بالاحرف المختصرة ب “أيباك” بعثت برسالة الى كل أعضاء مجلس الشيوخ قائلة إن أي انخفاض للمساعدة قد يؤدي الى تقويض إضافي للاستقرار في مصر وللمصالح الأمريكية فيها كما وله دون شك تأثير سلبي على “حليفنا الإسرائيلي”. ولقد صوت مجلس الشيوخ ب86 صوتاً لصالح الاستمرار في المساعدة بينما صوت 13 فقط لوقفها.
وكانت هذه المساندة من طرف إسرائيل واللوبي الإسرائيلي للنظام المصري تؤكد ضعف وتبعية السيسي رغم مزاعمه المغالية في الوطنية وتقلل من وزن مصر في أي مساع لإيجاد حل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، كما يشير مؤلف الكتاب:“في 21 فبراير /شباط دعا وزير الخارجية الأمريكي الى قمة سرية في العقبة في الأردن مع السيسي والملك عبد الله ورئيس الوزراء بنيامين نتانياهو”كان جدول الأعمال في قسم منه يتعلق باتفاق إقليمي يهدف الى ضمان مصر لأمن إسرائيل في حال قيام دولة فلسطينية. ولقد سخر نتانياهو من الاقتراح. وقد تساءل عضوان من الوفد الأمريكي المشارك في المحادثات : وهل بإمكان السيسي أن يقدم أي شيء لإسرائيل ؟ فالسيسي أساساً بحاجة لإسرائيل ليحمي سيطرته على أراضيه، ليضمن بقاءه هو بنفسه. السيسي كان بحاجة لنتانياهو. لم يكن نتانياهو بحاجة للسيسي.“كان نتانياهو يعلم أن انقلاب 3 يوليو تموز لم يأت بحل لل”إرهاب" بل أثار عصياناً في سيناء، (تحت راية مجموعة انضمت لاحقاً الى منظمة الدولة الإسلامية (داعش) عام 2015); وكان الجيش المصري غير قادر إطلاقاً على احتوائه واضطرت إسرائيل للتدخل العسكري في مناسبات عدة عسكرياً لمساعدة العسكر المصريين. وما أبعدنا فعلاً عن تباهي القاهرة بالوطنية !
ولم تتحرك الإدارة الأمريكية إلا بعد مجزرة “رابعة” أودت بقرابة ألف ضحية من المدنيين في شهر أغسطس/ آب 2013. وجاء الرد الأولي بتأجيل المناورات العسكرية المشتركة الأمريكية المصرية وبعد ذلك، في شهر أكتوبر، بتعليق المساعدة العسكرية الأمريكية بمبلغ 1,3 مليار دولار. ولكن الرد جاء متأخراً، بعد فوات الأوان، ولا سيما أن قوى جسيمة في واشنطن باتت تعبر عن معارضتها لهذا التوجه بوقف المساعدة. ولَم تعد وزارة الدفاع في البنتاغون تشير الى مستشاري الرئيس إلا بعبارة “الجهاديين في البيت الأبيض” أو “تجمع أنصار الإخوان”. واستأنف أوباما بسرعة المساعدة العسكرية. هكذا تخلت واشنطن عن الديمقراطية في مصر.
ويتكون لدى قارئ الكتاب بشكل عام انطباع سلبي عن الرئيس أوباما، كشخص ضعيف الإرادة، غير قادر على فرض خياراته على إدارته، لا تمثل بالنسبة له قضية الديمقراطية بعداً أساسياً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. ولذلك تبعات خطيرة. وكما يوضح محمد سلطان، وهو أميركي من أصل مصري وعضو في الأخوان المسلمين، رماه العسكر في السجن قبل ترحيله الى أمريكا فيقول :“الشيء الوحيد الذي يجمع كل من صادفته في السجن : سواءً أكانوا من أتباع داعش أم من أنصار الإخوان المسلمين أم من الليبراليين، أم من حراس السجن أم من الضباط أنهم جميعاً... يمقتون أمريكا”...
وقد يتسائل المرء : لماذا يا ترى...