منذ بداية شهر سبتمبر أيلول شكّك خبراء السياسة الشرق أوسطية في روسيا في احتمال شن عملية استعادة إدلب رغم أن العديد من المراقبين كان يتنبأ بذلك. فاللقاء الثلاثي في طهران في 7 سبتمبر / أيلول مع تركيا وإيران لم يؤت ثماره. وكان من الواضح تماماً عندها أن معركة إدلب ليست قريبة فلقد تم تأجيلها ثلاثة أو أربعة أشهر، هذا إن حصلت أصلاً. فمن شأن مثل هذه الحملة العسكرية أن تؤدي الى سَيْل من اللاجئين والى أزمة إنسانية خطيرة. ولا تريد روسيا أن تجد نفسها في وضع يضطرها للتعامل معها. كما أن الأوروبيين يمارسون ضغوطاً كبيرة في هذا الاتجاه. هذا ما وضحه نيقولاي كوجانوف من جامعة سان بطرسبورغ الأوروبية. واعتبر بعض الخبراء أن وزارة الدفاع الروسية نفسها لم تكن متحمسة بشأن فكرة خوض هذه المعركة، حيث قد تنطوي المواجهة على مخاطر جمة بوجود 60.000 مقاتل (ممن لم يعُد الدبلوماسيون الروس يصفونهم “بالإرهابيين” في غالبيتهم بل “بالمقاومة المسلحة”) وكذلك وجود ثلاثة ملايين من المدنيين في المنطقة.
وبالفعل أكد الخبير في العلاقات الدولية الروسية فلاديمير فرولوف بدوره أن “إدلب تمثل رهانات كبرى لأن المسألة في الواقع هي مسألة جيوسياسية عالمية. عندما أتت أنجيلا ميركيل الى موسكو هذا الصيف كانت شديدة الوضوح بشأن موقف ألمانيا. فالمساندة الألمانية لإعادة إعمار سوريا لا بد أن تمر عبر حل سياسي1. وبالتالي فلقد استُبعد الهجوم المتهور على إدلب، وحمام الدم الذي قد ينتج عنه. وتحدثت ميركيل مع بوتين إثر ذلك عن أنبوب الغاز”نورد ستريم 2“، ووعد بوتين بتمويل الأنبوب بنسبة 100% في حال احتاج لتمويل بديل بسبب فرض واشنطن عقوبات على الشركات الأوروبية التي ستساهم في تشييده. وأكدت ميركيل كذلك على ضرورة أن يمر الغاز الروسي عبر أوكرانيا. كما تحدث المسؤولان عن منطقة دونباس وعن اتفاقات مينسك وعن السياسة الأوكرانية.” وأنبوب نورد ستريم 2 طاقته 55 مليار متر مكعب سنوياً وسيضاف الى أنبوب نورد ستريم1 وهو المشروع الحيوي بالنسبة للكرملين. حيث يمثل مصدر تمويل مرتفع كما يعتبر ضمانة جيوسياسية تجاه ألمانيا والأوروبيين لعدة عقود قادمة.
إجبار الغرب على التفاوض
كل ذلك يؤكد ما ورد على لسان العديد ممن كانت لنا اتصالات بهم في موسكو والذين ما انفكوا منذ ثلاثة أعوام يكررون، وبشيء من التخوف بالنسبة لبعضهم، أن موسكو تدخلت في الملف السوري والى حد ما في قضايا بلدان أخرى من المنطقة كليبيا أو اليمن بهدف إعادة الاتصال مجدداً بالغرب لا غير وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية ومن أجل تبوأ مركز مرموق يحسب حسابه على الساحة الدولية. وهو الأمر الذي جعل بعض الأصوات بين المستشرقين الروس ينتقدون روسيا ويشيرون الى أن هذا التدخل ربما قد ساهم مؤقتاً في التخفيف من حدة النزاع، إلا أنه من المرجح أن ينتهي بحلول ليست حقيقية في الميدان لأن موسكو لم تتدخل بهدف حل مشاكل السوريين.
والى حد ما لقد نجح بوتين في لعبته هذه. فالموقع الذي احتلته موسكو في النزاع السوري يضطر جميع الأطراف، بدءاً بالقوى الإقليمية وحتى القوى العظمى، الدخول في مفاوضات معها. باريس مثلاً كما شرح لنا أحد الدبلوماسيين الفرنسيين تحاول العودة الى حلبة الشرق الأوسط، ممسكة بأوراق ضعيفة في يدها، حيث وافقت هذا الصيف على توفير المساعدة الغذائية عبر وسائل التسليم الروسية في الميدان، وذلك مقابل دعوتها للمشاركة بالمفاوضات حول “مستقبل سوريا”. ويضيف الدبلوماسي: “وهو ليس بالمكسب الكبير، بل هو إنجاز مُبْهَم، ولكنه لفتة لا بأس بها لأنه من الحيوي بالنسبة لفرنسا أن تعود الى اللعبة وتقول كلمتها فيما ستؤول إليه المنطقة.”
حذر “العرابين” وترقبهم
ويلفت فرولوف الانتباه الى أن “ما يرتسم خلف إدلب، هو الرهان على إمكانية اتفاق شامل”. بمعنى آخر فأن سمعة روسيا كصانعة للسلام ودولة مسؤولة تستحق حضورها بين كبار اللاعبين المؤثرين في العالم هي المسألة التي على المحك“. وهنا تكتسي العلاقة الروسية التركية دوراً حاسماً في هذه المرحلة من”اللعبة الكبرى" الجارية حالياً. ولقد نجح بوتين وأردوغان في الاتفاق على عدة نقاط ليست بالهينة لتثبيت الوضع في إدلب خلال لقائهما في سوتشي في 17 سبتمبر/أيلول. وقد استمر النقاش مطولاً إذ كان كل طرف يحاول تعديل النص لمصلحته. ولقد اضطر الأتراك الى قبول فكرة أن يتخلى المتمردون وحدهم عن الأسلحة الثقيلة. ومن المرجح أنهم وافقوا على ذلك لمنع موسكو من فرض مزيد من التعديلات الإضافية كمسألة نشر دوريات روسية في هذه المنطقة. فأنقرة تسعى لإنشاء محمية في إدلب كما فعلت في شمال حلب بعد عمليتَيْ درع الفرات وغصن الزيتون. أما موسكو فتعطي الأولوية للرؤيا الموحدة للدولة السورية. هذا ما يلاحظه كيريل سيمونوف مدير مركز الأبحاث حول الإسلام التابع لمعهد تطوير الإبداع والتحديث في موسكو.
ما زلنا على الأرجح بعيدين عن اتفاق بين “عرّابي” الأطراف المتنازعة، روسيا وتركيا وإيران. أما إيران فهي بدورها لا ترغب في خوض معركة إدلب إذ اعتبرت العملية باهظة الثمن وفي نهاية المطاف غير حاسمة بالنسبة لمصالحها. وهو الأمر الذي جعل موسكو تتنفس الصعداء فكما يلاحظ فلاديمير فرولوف “الروس لا يتحكمون تماماً ببشار الأسد إذ أن للإيرانيين تأثير أكبر بكثير عليه وعلى محيطه”. كما ولا يمكن إغفال ضرورة إشراك الغرب في أي حل مستقبلي، حتى لو كان خارج اللعبة حالياً. ويهمس البعض في موسكو بشيء من الأسى“أن الحل ما زال بعيد المنال”. فواشنطن باتت سياستها في الشرق الأوسط غير واضحة المعالم يصعب التكهن بها.
الهاجس الكردي
أما تركيا، فهي مهووسة من ناحيتها بالقضية الكردية، شغلها الشاغل، والأمر ينعكس على إدلب، حيث أن المنطقة مأهولة بتجمعات كردية عدّة. وتسعى أنقرة الى جعل المقاتلين الأكراد بعيدين عن حدودها، بما لديهم من مساندة أمريكية. ويرى الخبير الروسي بالشؤون التركية في معهد الدراسات الشرقية في موسكو أمور غادجييف أن “العلاقات بين روسيا وتركيا تستوجب النظر إليها من زوايا ثلاث: أولاً على الصعيد الثنائي، ولا سيما بسبب أهمية العلاقة التجارية مع تركيا سواءً أتعلق الأمر بالسياحة أم بالغاز أم بالعمار أم بالسلع التجارية العادية أم بالمنتجات الزراعية... ثم هناك الصعيد الإقليمي حيث لروسيا دور إقليمي تلعبه كوسيط بين تركيا وإيران، وأخيراً الصعيد العالمي بما أن العلاقة بين موسكو وأنقرة لها تأثير على ولادة عالم متعدد الأقطاب يسعى كل من الطرفين الى قيامه. وهذا أمر مهم، نلمسه على سبيل المثال عبر الفتور المتزايد في علاقة تركيا بحلف شمال الأطلسي”. ولقد لعبت القضية الكردية دوراً رئيسياً في ابتعاد أنقرة عن حلفائها الغربيين وأثّرت بالتالي على التوازن الأمني العالمي، ليس إلا. والدليل على ذلك، من ضمن دلائل أخرى، شراء تركيا لصواريخ دفاع روسية س-400 وقد أصبحت بذلك أول عضو في حلف شمال الأطلسي يشتري عتاداً عسكرياً من موسكو.
في انتظار الحل السياسي
ويشكل تاريخ 10 و 15 أكتوبر امتحاناً للعلاقة الروسية التركية. بالفعل، حسب اتفاق سوتشي فمن المتوقع أن ينتهي بهذا الموعد سحب المتمردين لأسلحتهم الثقيلة من منطقة وقف التصعيد في مرحلة أولى. وبعدها بخمسة أيام من المتوقع أن تُخلي الجماعات التي يعتبرها كلا الطرفين إرهابية “المنطقة المنزوعة السلاح”. ولقد تعهد رجب طيب أردوغان أمام نظيره الروسي بإقناع الجماعات المقربة من أنقرة باحترام الالتزامات التي اتخذت على شاطئ البحر الأسود. وحسب كيريل سيمنوف: “صحيح أنه في ال15 من أكتوبر مساءً لم يلاحَظ أي تحرك لقوى هيئة تحرير الشام2، لكنها قامت بتصريح عشية ذلك الموعد، سعت من خلاله لكسب الوقت، بما معناه أنها تتصرف بمنطق المباحثات. وبمعنى آخر بالنسبة لبوتين فأن أردوغان فعل ما بوسعه لاحترام تعهده”. وفي لحظة كتابة هذه السطور (أي 23 أكتوبر) فإن مصير هيئة تحرير الشام (المنقسمة فيما بينها حول الاتفاقات التركية-الروسية) ما زال غير معروف، شأنه في ذلك شأن اتفاقات سوتشي نفسها، بالتالي.
من سيخرج هذه الجماعات من المكان؟ أهي قوات دمشق؟ لا شك أن بشار الأسد يحلم بذلك، ليظهر بمظهر الفائز المنتصر، حتى لو اقتصر نصره على المعركة الأخيرة، يحلم وليحقق هدفه ببسط سيطرة دمشق على كامل التراب الوطني، حتى لو بات هذا التراب صحراءً بشرية. أم أن الأتراك بالتعاون مع المعارضة المقربة منهم، كجبهة التحرير الوطنية، هم الذين سيضطلعون بالمهمة؟ يوضح لنا سيمنوف “أن الطريقة التي سيساهم أردوغان بها في حل هذه المسألة الحساسة ستؤثر حتماً على مستقبل العلاقةمع روسيا. أنقرة تراهن على إدلب الى حين اتخاذ قرار سياسي بشأن مستقبل سوريا يأخذ بعين الاعتبار مصالحها، وبمعنى آخر يمكن للأمور أن تستمر وقتاً طويلاً مما قد يجعل من إدلب محميةً تركية بكل معنى الكلمة”. فالرهان من الأهمية لمكان بالنسبة لتركيا ما جعلها تزود المقاتلين بالأسلحة ثم ترسل قواتها الذاتية للحيلولة دون تدخل أي طرف آخر. وهو الأمر الذي يؤكده أمور غادجييف قائلاً: “صحيح أن الوضع شديد التوتر إلا أن كل من روسيا وتركيا يبديان رغبة واضحة بإيجاد حل سياسي في سوريا، ويتجنبان أي خلاف بينهما، لأن كلاهما بحاجة للطرف الآخر، لأسباب سياسية عليا”.