الصناعة الغذائية في قطر تواجه الحصار

منذ أن فرض جيرانها العرب الحصار عليها في جوان/يونيو 2017، جعلت قطر من تطوير قطاع الصناعات الغذائية أولوية. وشكل ذلك فرصة سانحة للعديد من شركات هذا القطاع .

يبتسم خالد سيف السويدي: “لم يكن أبي يريدني أن أنطلق في مجال العسل. لحسن الحظ، لم أصغ إليه!”

الدوحة، أغسطس/أوت 2018. تبدأ السهرة وتخرج المدينة شيئا فشيئا من سباتها الصيفي. يجلس القطري في دكانه - المقهى ويقص بهدوء كيف أصبح أول مربي نحل في البلاد. “كنت على الدوام أحب النحل”. هكذا يبدأ الكلام. “للنحل مكانة خاصة في ثقافتنا. والعسل دواء ولكنه أيضاً هدية رفيعة تقدم كرمز للصداقة”. كانت المهنة الادارية الوجهة الأولى للمزارع المولود في عام 1975، قبل أن ينطلق في عمله الخاص. في عام 2010، أعلن تأسيس شركة “مناحل ابو سيف” للعسل وهو يملك الآن ألف قفير نحل في قطر. ثم يستطرد بابتسامة راضية: “أنا أجمع وأبيع عشرة أطنان من العسل في السنة”. ثم يضيف: “ومع الحصار صار عندي نقص في المخزون! أصبح الجميع يريد عسلا من صنع قطر”.

بعد الحصار، الإنتعاش…

طريق سلوى
ـ التي تربط الدوحة بالعربية السعودية والمهجورة منذ غلق الحدود في 2017.

عودة إلى يونيو/جوان 2017، حيث أعلنت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والبحرين، تبعتها بسرعة دول شرق أوسطية أخرى، عن فرض حصار بري وبحري وجوي على قطر. وكانت إمارة قطر المعتمدة على الغاز تستورد أغلب موادها الاستهلاكية وكل موادها الغذائية تقريبا تأتي عبر الاستيراد. وفور غلق الحدود هرع القطريون نحو المحلات التجارية وارتفعت الأسعار وأصبحت الأزمة ماثلة في أذهان الجميع. كان على الدوحة التحرك على عجل وإعادة النظر في كل شراكاتها التجارية.

يشير نبيل النصري، الباحث في العلوم السياسية وأحد المختصين البارزين في شؤون قطر إلى أن “عددا من الفاعلين في الشرق الأوسط أخذوا مكان بلدان الحصار كتركيا و إيران والبلدان الاسيوية”. وفي مرحلة ثانية وبدافع ضرورة تجنب أخطاء الماضي، تم العمل على تطوير قطاع زراعي محلي. ففي حين كان الإنتاج القطري لا يغطي سوى جزء ضئيل من الطلب الداخلي قبل الحصار، يمكن للإمارة اليوم توفير نصف هذه الاحتياجات من اللحوم والأسماك ومنتجات الحليب - فالإنتاج الزراعي ازداد مرتين أو ثلاث مرات حسب المنتوجات. وتخفي شركة “بلدنا للصناعات الغذائية” الذائعة الصيت إعلاميا والتي تقدم كمثال للنجاح القطري في مجال صناعة الغذاء، العديد من المبادرات المحلية القائمة على أساليب مبتكرة غير مسبوقة.

بقرات في “مزرعة بلدنا”، أكبر منتج للحليب واللحوم

عرف خالد سيف السويدي، شأنه شأن ٱخرين، كيف يغتنم الفرصة لكي ينمو. ويشرح قائلا: “أصبحت الأمور أبسط بكثير بالنسبة لي منذ سنة”. فالطلب ازداد بسرعة هائلة ولكن مربي النحل استفاد أيضا كثيرا من مساعدة السلطات العمومية. “تم عرض منتجاتي عدة مرات في معارض قطرية مخصصة. صرت لا أستطيع الذهاب إلى مكة ولكن بصراحة لا أريد لهذا الحصار أن ينتهي”.

خالد السويدي منتج للعسل
يمتلك العديد من الخلايا بالشهانية. مدينة وسط قطر. شركة أبو سيف التي تعمل منذ 2010 أنتجت 10 أطنان من العسل في السنة الماضية.

ومثله، توجد شركات أخرى تستفيد ببراعة من هذا العزم الحكومي الجديد. ولقد زرنا الخور، على بعد 50 كلم من الدوحة، في صحراء صخرية حارقة لا ينبت فيها شيء. الأرضية جافة والمياه الجوفية عالية الملوحة حيث لا يمكن استعمالها بدون معالجة، غير أن ناصر الخلف قرر إقامة مزرعته هنا.

“إننا نتحكم في الوقت اللازم في درجة الحرارة والرطوبة داخل الدفيئات الزراعية” يقول المدير العام لشركة /أجريكو/ وهو يشير بأصبعه إلى لوحة التحكم داخل الدفيئة التي رافقناه لزيارتها.

تنتج أكبر مزرعة عضوية لقطر، التي تشتغل 12 شهرا في السنة والتي تسيرها أجريكو، ما معدله 5 أطنان من الخضروات الطازجة والعضوية يوميا. وقد ضاعفت الشركة مساحة الإنتاج خلال سنة. يواصل ناصر، المدير: “ليس الأوروبيون فقط من يتفاجؤون، فالقطريون أنفسهم يصعب عليهم التصديق بأننا يمكن أن نزرع أي شيء هنا”.

طماطم تم زرعها مع احترام معايير الزراعة المائية
تحت دفيئات زراعية لأجريكو

وبات يُضرب المثل اليوم بالتقنية الحديثة التي تم التوصل إليها بعد سنوات عديدة من الاختبار وسمحت للشركة بالزراعة في بيئة عدائية شديدة. فقد صممت دفيئات زراعية فريدة من نوعها في العالم تستعمل حدا أدنى من الموارد. ويسمح اللجوء إلى استخدام الزراعة المائية وإلى أنظمة استشعار متقدمة بمردودية قصوى مع ضمان نمو النباتات في ظروف مثلى. يقول المدير العام: “بدأنا ببيع تقنيتنا حتى تتمكن المزارع القطرية من تحسين مردوديتها. نحن نتولّى عملية التأسيس والمناولة اليدوية وتركز المزارع على الإنتاج”.

تفضيل الاستهلاك من الصناعة المحلية

إنها نعمة بالنسبة لشركة أجريكو التي يمكن أن تركب موجة السياسة المحفزة لتنمية الزراعة المحلية. فبينما توجد في قطر 1400 مزرعة، إلا أن ثلثيها ليست لها غاية تجارية وتستغل فقط في تلبية احتياجات عائلات أصحابها. الإمكانات متوفرة فعلا، خاصة وأن الحصار قد خلط الأوراق بالنسبة للسوق القطرية التي كانت الواردات تهيمن عليها حتى ذلك الحين. ويشير فالح بن ناصر آل ثاني أحد المسؤولين في وزارة الزراعة القطرية: “25% من المستثمرات القطرية هي ملك لمزارعين، أما الباقي فتعود إلى مقاولين قرروا الإستثمار”.

هناك حماس نسبي (حيث لم يستثمر الجميع هذه السنة) ولكنه حقيقي تجاه المنتجات القطرية والذي ينعكس حتى في متاجر العلامة التجارية / الميرة / أكبر شبكة للتوزيع في قطر. “هناك فترة ما قبل الحصار وفترة ما بعده” يقول مسؤول في منتصف العمر الذي ينسق عمل عشرة متاجر كبرى. “الآن أصبح المستهلكون يدققون في مصدر المنتجات”.

منتجات غذائية قطرية الصنع تباع في سوبرماركت بالدوحة.

هذا الحماس ليس بالمفاجأة حيث أن الدولة شنت عبر آليات مختلفة حملة لصالح المنتجات الوطنية منذ عدة أشهر. “ساعدت وزارة الزراعة بشكل كبير المقاولين المحليين خلال الشهرين الذين تبعا بداية الحصار”. هذا ما يذكره فالح بن ناصر آل ثاني الذي يشير مثلا إلى قروض بأسعار فائدة منخفضة (1% في السنة) مقدمة للمزارعين. ويضيف بأنه “من الآن حتى نهاية السنة نخطط لتسليم 100 هكتار من الأراضي الزراعية إلى مزارعين قطريين”. كما تلعب غرفة التجارة والصناعة لقطر دورا أساسيا في تثمين الزراعة المحلية. ويقول صالح بن حمد الشرقي مدير الغرفة: “بصفتنا ممثلين للقطاع الخاص القطري فإن إحدى أهم وظائفنا تتمثل في تنمية وترقية الصناعة المحلية عموما وصناعة الأغذية على الخصوص”. وتقوم الغرفة بمضاعفة الإجراءات لدعم المنتجات القطرية. كما يضيف :“لقد سبق وأن أقمنا 5 معارض”صنع في قطر“حتى يتمكن المصنعون والمنتجون المحليون من تقديم منتجاتهم وتبادل مهاراتهم ومعلوماتهم”. هناك وظيفة أخرى بنفس الأهمية تقوم بها الغرفة : “تنسيق وترشيد إنشاء شركات جديدة في هذا القطاع الحيوي”.

منشآت شركة أغريكو
الإنتاج بمعدل خمسة أطنان من الفواكه والخضار العضوية يومياً

يلخص نبيل النصري: “أصبحت مسألة”صنع في قطر“هاجسا لأن قطر لا تريد أن توضع مرة أخرى في موقف حرج”. وهو يركز في نفس الوقت على الرمز السياسي الذي أصبحت تمثله الزراعة المحلية. بعد أن كانت قد تحدثت مطولاً عن الاكتفاء الذاتي راجعت الإمارة أهدافها بشيء من الواقعية. يقول فالح بن ناصر آل ثاني: “تأمل قطر في التمكن من إنتاج 60% من احتياجاتها من الخضر خلال ثلاث سنوات” . وهو هدف أقل مما كنا نتصور في البداية ولكنه ما زال طموحا للغاية. ويواصل المسؤول: “لقد ازدادت مردوديتنا بصفة واسعة”. يتجه 70% من المزارعين القطريين عبر تركيزهم على الخضروات الأقل استهلاكا للماء (الخيار مثلا) نحو منتجات عالية الجودة وعضوية في الغالب.