لسنوات، ظلت الحاجة لتخفيض عجز الموازنة لإيقاف تزايد المديونية والبدء في معالجتها الأساس الذي استندت إليه الحكومة لتمرير سلسلة من القرارات الساعية لتقليص النفقات العامة وزيادة الإيرادات، من قبيل إلغاء الدعم عن سلع أساسية، على رأسها الخبز، ورفع أسعار المحروقات والكهرباء، وإدخال سلع أساسية في ضريبة المبيعات بعد أن ظلت معفاة منها لسنوات، وصولًا إلى توسيع القاعدة الضريبية بتخفيض الإعفاءات في مشروع قانون ضريبة الدخل الحالي. وفي هذا السياق، صُورت العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد على أنها علاقة رعاية للتحولات الساعية لتصحيح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد وبخاصة في مجال الموازنة العامة.
لكن تراكم العجوزات على الرغم من السير ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي رعاه الصندوق بعدة قروض، وتعاظم المديونية تبعًا لذلك، شكّك في المنطق الحاكم لهذه العلاقة. فالسردية التي كثيرًا ما كررها رئيس الوزراء عمر الرزاز وغيره من المسؤولين والكتّاب المقربين، والقائمة على فرضية «إن تحملنا صعوبات المرحلة مؤقتًا، سنعبر إلى بر الأمان»، اهتزت بعد أن طال انتظار الشق الثاني منها طويلًا. ولعل جولات الفريق الوزاري المروّجة لمشروع قانون ضريبة الدخل في المحافظات، التي قوبلت باحتجاجات وصلت إلى حد الطرد، قدمت تعبيرات جلية على تآكل اليقين بأن هذا النهج الاقتصادي سيصل بنا إلى «بر الأمان»، بغض النظر عن مدى التحمل. «اللي عنده دونم، ببيعه [إذا سألته ليش] شو بيقوللي؟ والله عندي هالولد عمرتله وجوزته، علي شوية دين سدّيتهن (..) بعنا الأردن كلها، مش عارفين نسدّ هالمديونية؟»، يقول أحد المعترضين على المشروع خلال زيارة الوفد الحكومي إلى إربد. قد يسهل على الفريق الوزاري غض الطرف عن مثل هذه المداخلات بوصفها تعابير انفعالية لا تتطلب سوى «التفهم» -كما أكد الرزاز مرارًا بلغة الأب الحاني- لكنها تكاد تكون توصيفًا دقيقًا للحلقة المفرغة التي دخلها الأردن من ما يزيد عن عقدين.
هبوط الدَين العام وصعوده
كثيرًا ما تصور الحكومة الأردنية وصندوق النقد علاقتهما على أنها قصة نجاح ظلت تعرقل إثمارها الظروف الإقليمية. ويدللون بذلك على أن الفترات التي خلت من الطوارئ السياسية المحيطة شهدت -تحت رعاية الصندوق أو نتيجة تصحيحاته السابقة- استقرارًا ونموًا متزايدًا. ففي السنوات الأولى من علاقة الأردن مع صندوق النقد منذ أول اتفاق استعداد ائتماني عام 1989، كانت الحكومة ما تزال تحاول احتواء تبعات أزمة أواخر الثمانينيات التي سببها اللجوء إلى الاقتراض الداخلي بشكل استنزف احتياطيات العملة الأجنبية إلى حد انهيار سعر الصرف. لذا، فقد تلقت الحكومة كمًا من المنح والمساعدات الخارجية اعتمدت عليه في سد عجز الموازنة على حساب الاقتراض الداخلي، مما ساهم في تخفيض حجم الدين العام. فبعد أن كان حجم الدين العام قد نما بنسبة 248% بين عامي 1987 و1989 ليصل إلى 264% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، عاد ليتراجع تدريجيًا حتى عام 1993 . إذ بلغ مجموع المنح الخارجية في تلك السنة أكثر من خمسة أضعاف القروض الداخلية، بحسب الحساب الختامي لـ1993.
جاءت تلك المساعدات في سياق رعاية الصندوق والبنك الدوليين للتحولات الهيكلية التي تبناها الأردن منذ بداية العلاقة. ويصف تقرير صادر عن الصندوق عام 1996 أداء الأردن حتى ذلك الحين بـ«المثير للإعجاب»، ويرده إلى «عملية ثابتة ومقدامة وصعبة من التصحيح والإصلاح الهيكلي بدأت عام 1989 وتكثفت عام 1992». هذه العملية «المقدامة» سعت إلى «التقليل من اختلالات الاقتصاد الكلي والبدء في إجراءات الإصلاح الهيكلي في عدة مجالات». لكن التقدم الذي أحرزه الأردن، بحسب الصندوق، قطعته حرب الخليج الثانية عام 1990، مما استدعى اتفاقًا ثانيًا للاستعداد الائتماني دعمه الصندوق والبنك الدوليين ومانحون ومقرضون آخرون عام 1992 .
لكن تعامل الصندوق (والحكومة من بعده) مع أزمات المنطقة ظل يغفل «استفادة» الأردن منها، فينسب أي مكاسب متحققة لرؤى برامجه والتزام الحكومة بها، فيما ينسب إخفاقات هذه البرامج دومًا لتقلبات المنطقة. فعلى الرغم من الضغط الذي شكلته حرب الخليج الثانية، إلا أن معدلات النمو الاقتصادي في أعقابها فاقت توقعات الصندوق، إذ وصلت 14% عام 1992 نتيجة انخفاض المستوردات، إلى جانب أن عودة الأردنيين من الخليج واستثمارهم في الأردن وقدوم بعض المستثمرين العرب كذلك أنعشا الاقتصاد نسبيًا خلال ما تبقى من التسعينيات . كما كان النمو المتحقق في النصف الثاني من التسعينيات مدفوعًا إلى حد كبير بالمساعدات التي أتت كمكافآت سياسية في أعقاب توقيع معاهدة وادي عربة مع «إسرائيل». فبين 1990 و1999 تلقى الأردن ما معدله 622 مليون دولار سنويًا.
ورغم عودة الدين العام للتراكم منذ 1994، إلا أن نسبته من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت تدريجيًا مع تعافي هذا الأخير، لتظل تنخفض بشكل شبه مستمر منذ منتصف التسعينيات لتصل أدنى مستوى لها بـ55% عام 2008، فقد كان نمو الناتج المحلي في أعلى مستوياته بين 2005 و2008، خاصة مع ارتفاع استثمارات الوافدين واللاجئين العراقيين إلى الأردن في أعقاب حرب 2003، لذا ظلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفضة نسبيًا على الرغم من استمرار تراكم الدين.
قصة نجاح وهمية
جاء ذلك النمو بعد خروج الأردن من برامج الصندوق إلى حين، بانتهاء اتفاق «تسهيل الصندوق الممدد» الرابع عام 2004. لذا قُدم الأردن في تلك الفترة على أنه نموذج الدولة المصلحة التي أخذ الصندوق والبنك الدوليين بيدها والتزمت بدورها بوصفاتهما الاقتصادية الصعبة، بما شملته من خصخصة وتحرير للاقتصاد و(محاولات) تخفيض للنفقات العامة، لتصبح قادرة بعد ذلك على المضي قدمًا وحدها، وتحقيق معدلات نمو متزايدة، وتخفيض مديونيتها. أما ما حدث بعد ذلك، بحسب هذه السردية، فكان ركودًا مؤقتًا نتيجة الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم «أزمة» إقليمية أخرى مثّلها الربيع العربي عام 2011، وما تبعه من توافد للاجئين السوريين وكساد في قطاع السياحة. فعادت العجوزات للتراكم، ولجأت الحكومة إلى بنوك الداخل للاقتراض، وتصاعدت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي من 80% عام 2012، إلى 93.4% عام 2015، وصولًا إلى 96.1% اليوم، بدين بلغ أكثر من 27.9 مليار دينار (39.3 مليار دولار).
بالتالي، فعودة الدين العام للتعاظم ما بعد 2011، في نظر الصندوق والبنك الدوليين، هي قصة أحداث إقليمية مؤسفة وانزلاق حكومي عن خطة الإصلاح الاقتصادي المرسومة. إلا أن النظر في طبيعة النمو في تلك الفترة يوفر أساسًا للاعتقاد بأن الصورة البراقة التي كان الصندوق يعكسها عن النمو المتحقق في الألفينات ليست مدفوعة بصلابة «الإصلاح» المتحقق بقدر ما هي مدفوعة برغبة في تقديم الأردن كنموذج نجاح لبرامج التصحيح الهيكلي والعولمة، لتبرير استمرار تدفق المساعدات في وقت بات فيه الأردن أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. فالنمو المتحقق لم يكن من النوع المعتمد بكثافة على التصدير، كما يُتوقع عادة في البلدان التي تمر ببرامج تصحيح هيكلي «ناجحة»، بل تركز النمو في القطاعات المالية، لا التجارية. كما أن السنوات الأخيرة قبل 2004، لم تخلو من «الانزلاقات» في التطبيق. فعلى الرغم من أن الصندوق والبنك استمرا في امتداح سلوك الأردن الاقتصادي علنًا، إلا أن الكثير من تقاريرهما في تلك الفترة اعتبرت التقدم المتحقق «متواضعًا»، واعترفت بأن «تساهل» الصندوق في تطبيق بعض البنود خاصة المتعلقة بتقليص النفقات العامة قد خلق «انطباعًا مضللًا بنجاح الإصلاح الهيكلي». بالتالي، على الرغم من أن مؤشرات الألفينات الاقتصادية تتفوق على الحالية، إلا أن الأردن لم يكن يومًا نموذج النجاح الذي صوره الصندوق والبنك، ليتحسرا على أفوله وسط بحر من المتغيرات الإقليمية.
من جهة ثانية، فإن هذه السردية تغفل الأسباب الأخرى التي فتحت الباب للدين العام (الداخلي خاصة) ليعاود التزايد (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) بعد عام 2008. فالأزمة المالية العالمية جعلت البنوك (الأمريكية تحديدًا) بحاجة يائسة للإقراض لإعادة بناء الثقة بها، ما دفعها لتقديم قروض بأسعار فائدة زهيدة. استغلت البنوك المحلية هذه الفرصة بالاقتراض من الخارج ومن ثم إقراض الحكومة التي عادت عجوزاتها للتراكم، لكن بأسعار فائدة عالية. لذا، حين لجأت الحكومة للبنوك المحلية لسد عجوزات الموازنة، عادت المديونية للتراكم بتسارع أكبر. فقد تجاوز حجم الدين الداخلي الدين الخارجي عام 2008، وظل أعلى منه حتى اليوم، مشكلًا ما نسبته 51.6% من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من 2018، مقابل 39.8% للدين الخارجي . سبق ذلك أيضًا تعديل قانون الدين العام لعام 2001، والذي رفع الحد الأقصى المسموح به لرصيد الدين العام الإجمالي إلى 80%، والدين العام الداخلي إلى 60%، كنسب من الناتج المحلي الإجمالي.
الحلقة المفرغة للضبط المالي
اليوم، يعود الصندوق للإيمان الحذر بنموذجه الأردني. ففي 2016، وافق مجلسه التنفيذي على اتفاق «تسهيل الصندوق الممدد» الأخير، الذي يمتد بين 2016 و2019 ويقضي بمنح الأردن قرضًا بقيمة 723 مليون دولار، بهدف «إعطاء دفعة لعملية الضبط المالي للوصول بالتدريج إلى خفض الدين العام وإجراء إصلاحات هيكلية واسعة النطاق»، بحسب بيان صادر عن الصندوق. وعبر نائب رئيس المجلس التنفيذي للصندوق، ميتسوهيرو فوروساوا، عن هذا التفاؤل المحدود بالقول: «كان أداء الاقتصاد الأردني إيجابيًا في ظل البيئة الخارجية الصعبة (..) غير أن انخفاض النمو الاقتصادي الممكن وارتفاع البطالة وصعوبة الأوضاع الاجتماعية تجعل المثابرة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة عاملًا ضروريًا للحفاظ على هذه الإنجازات».
يعكس هذا التصريح المنطق الدائري الذي وصل إليه الأردن في علاقته مع الصندوق. إذ باتت عمليات الضبط المالي لتخفيض الدين هدفًا مفصولًا عن السعي نحو النمو وتخفيض البطالة والتخفيف من الصعوبات الاجتماعية، بل أصبح كل ذلك مجرد عقبة يجب تجاهلها بالمثابرة في تنفيذ الإصلاحات الساعية لتخفيض الدين. وفي هذا الإطار، عبّرت الحكومة للصندوق عن التزامها بالبرنامج بشكل متكرر، بحيث يستطيع بثقة أن يتحدث عن استمرار «إلغاء الإعفاءات من الضريبة العامة على المبيعات والرسوم الجمركية على مدار فترة البرنامج».
لكن الحكومة تكمل النصف الثاني لهذه الحلقة المفرغة. ففي معرض دفاعه عن مشروع قانون ضريبة الدخل الحالي، قال الرزاز إن صندوق النقد شدد على ضرورة تعديل القانون لإدخال شرائح أكبر في القاعدة الضريبية بتخفيض الإعفاءات، رغم أن الحكومة كانت ترى أنه من الممكن تحقيق الإيرادات نفسها بالبدء بمكافحة التهرب الضريبي. السبب وراء قبول الحكومة بهذا الاشتراط، بحسب الرزاز، هو أن أي علامة سؤال حول استقرار الأردن المالي كانت ستُترجم إلى تخفيض تصنيف الأردن الائتماني، وبالتالي ستحد من قدرته على الاقتراض الخارجي في المستقبل. بالتالي، باتت القدرة على الاقتراض أيضًا هدفًا بحد ذاته؛ هدفًا يتزامن مع هدف تخفيض الدين العام دون التفات للمفارقة. ومن أجل هذا الهدف أيضًا، تُتخذ سياسات تلقى معارضة واسعة.
تدابير منافية للديمقراطية ومرفوضة من الشعب
بالطبع، كل ما سبق من مساءلة للمنطق الاقتصادي وراء تعامل الأردن مع مسألة الدين في سياق برامج الصندوق والبنك الدوليين لا يجيب عن السؤال الديمقراطي في تبني هذه السياسات. ففضلًا عن الشرخ الأساسي والمستمر في العملية الديمقراطية المفترضة، المتمثل في كون رئيس الحكومة معينًا من الملك دون الرجوع للبرلمان، فإن العديد من «الإصلاحات» سابقة الذكر حدثت خلال فراغ تشريعي لمدة عامين عقب حل الملك لمجلس النواب عام 2001. ففي تلك الفترة، أصدرت الحكومة 211 قانونًا مؤقتًا سرت بمصادقة من الملك دون نقاش برلماني، تناولت الخصخصة، وضرائب الدخل والمبيعات، والجمارك، وتشجيع الاستثمار، لترسم عمليًا ملامح مرحلة «الإصلاح» دون أي سلطة تشريعية، أي بشكل غير ديمقراطي.
تهميش السؤال الديمقراطي ليس حكرًا على السلطات الأردنية. ففي تصريح أثار جدلًا واسعًا، نقل نائب رئيس الوزراء، رجائي المعشر، جانبًا من الحوار بين الحكومة وصندوق النقد بشأن مشروع ضريبة الدخل الأخير، بالقول: «لما وصلنا لبعض القناعات المشتركة بيننا وبينهم حول قانون ضريبة الدخل، طلبوا أن نضمن إنه هذا يكون قرار مجلس النواب». يكمل المعشر بأن الحكومة رفضت هذا الشرط على اعتبار أنها لا تستطيع ضمانه، وبأنها أرسلت للصندوق فيديوهات تعرض الاحتجاج الذي واجهته الحكومة في جولاتها في المحافظات، للتدليل على أنه «إقناع» الناس بالقانون ليس بالسهولة التي يتخيلها الصندوق. مثل هذه التصريحات تعكس مدى عدم اكتراث الصندوق بأي عملية ديمقراطية أمام تمسكه بسير برامجه «الإصلاحية»، التي تستمر الحكومة بالانصياع لها. لذا، وبالمحصلة، فإن الحلقة المفرغة المتعلقة بالدين العام التي أدخلت برامج الصندوق الأردن فيها، تظل عصية ليس فقط أمام الإشارات إلى اختلال منطقها، بل أمام أي مساءلة شعبية كذلك.