في أيلول الماضي، أعلنت إدارة ترامب بلسان جون بولتون، مستشار الرئيس للأمن القومي، أن الولايات المتحدة الأميركية ستحافظ على تواجد قواتها في سوريا (طالما ظلت إيران هناك). ولئن اندرجت هذه السياسة في سياق استراتيجية احتواء النفوذ الإيراني التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية، فالتصريح يأتي أيضاً رداً على حدث جيوسياسي من الدرجة الأولى:ألا وهو عودة إيران الى سواحل البحر الأبيض المتوسط. ويعتبر التدخل الإيراني مصدر قلق وتساؤلات لا سيما أن الإيرانيين لم يعد لهم حضور في هذه المنطقة منذ الحملة العربية على بلاد فارس. ولا بد من الاطلاع على تاريخ إيران والبحر الأبيض المتوسط لإدراك ما لهذا الحضور الاستثنائي من مغزى والى أي مدى يتجاوب مع المنطق الملازم لطبيعة الجمهورية الإسلامية.
تاريخ حضور عابر
لقد كان الاتصال الأول مع البحر الأبيض المتوسط للإمبراطورية الأخمينية، التي تعتبر الكيان السياسي “الإيراني” الأول من نوعه، وذلك خلال غزو مؤسس السلالة سايروس الأعظم ( 600-530 قبل الميلاد) لمنطقة بابل وآسيا الصغرى.
ولكن المؤرخ هيرودوت يجعل من خلفه قمبيز الثاني (توفي في 522 قبل الميلاد) “فاتح البحار” الفعلي، ناسباً إليه القسط الأكبر من الممتلكات الفارسية التي تحيط بالبحر المتوسط. وإن كان من الصعب تأكيد هذه المقولة إلا أنها تشي بما يمثله هذا البحر في استراتيجية الأخمينيين. فالسيطرة عليه تهدف الى ضمان الهيمنة الفارسية على الشرق الأوسط. وبالفعل كما يشرح لنا بيار بريان في كتابه تاريخ الإمبراطورية الفارسية (من منشورات فايار 1996) لم يكن بإمكان الأخمينيين أن يرضوا بأن تبسط قوة كمصر نفوذها على البحر الأبيض خوفاً من تهديد سلطتها في بابل وآسيا الصغرى. وهكذا في القرن الخامس قبل الميلاد، فرضت الإمبراطورية الأخمينية نفسها كقوة بحرية كبرى، تتحكم بشرق البحر الأبيض. إلا أن السيطرة الأخمينية لم تدم طويلاً. فلقد ألحق بها الأسطول اليوناني التابع لأثينا هزيمة في معركة سلاميس البحرية في 480 ق. م أوقف غزو الفرس لليونان في الحرب الفارسية اليونانية الثانية (دارت رحى هذه الحروب بين القرن السادس والخامس ق.م). وكان ساحل المتوسط يشهد حالات متكررة من التمرد (راجع الكتاب المذكور أعلاه، تاريخ الإمبراطورية الفارسية لمؤلفه بيار بريان). لا بد لنا مع ذلك من التوضيح أن الإمبراطورية الفارسية لم تجعل من التحكم بالبحر الأبيض المتوسط مسألة ذات أولوية. وبما أن غالبية التجارة البحرية كانت تمر عبر الخليج، فلقد كان البحر الأبيض المتوسط مسرحاً ثانوياً للأسطول الفارسي، بغض النظر عن فترات الحملات العسكرية. أما فتوحات الإسكندر الأكبر في القرن الرابع ق.م. فلقد وضعت حداً للسيطرة الفارسية وقوتها البحرية التي حققتها السلالة الأشكانية (247 ق.م الى 224 بعد الميلاد). وبالرغم من النزاعات المتكررة مع “خلفاء الطوائف” (أي الممالك الصغرى التي نشأت من تفتت إمبراطورية الإسكندر) ثم مع الإمبراطورية الرومانية، لم يستطع الأشكانيون إعادة السيطرة على الساحل المتوسطي. ولا بد من انتظار الفترة الأخيرة من السيطرة الساسانية وهي السلالة الإيرانية التي خلفت الأسكانيين بين 224 و651) لنشهد إيران تستعيد مؤقتاً منفذاً الى البحر الأبيض المتوسط عام 620. إلا أن هذه الغزوات أضعفت الإمبراطورية، التي أنهكتها وأفقرتها سنوات من الحرب مع الإمبراطورية البيزنطية، فتداعت تحت ضربات القبائل التي وحدها النبي محمد (637). هكذا قضى الفتح العربي على الوجود الإيراني في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وبمعنى آخر لم يكن لإيران واجهة بحرية على المتوسط إلا خلال الإمبراطورية الأخمينية. واستعادة هذا المنفذ لم تكن من صمن أولويات من خلفهم من الفرس، الذي ركزوا جهودهم حول بلاد ما بين النهرين وأرمينيا، وهي أراضي تنتمي الى “منطقة النفوذ” الخاصة بهم. وعندما قام الصفويون (1501-1736) الذين نجحوا في إحياء القوة الإيرانية بمجابهة الإمبراطورية العثمانية، بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، فلقد كانت الصراعات تدور حول امتلاك بلادك تبين النهرين (العراق الحالي) والقوقاز. أما البحر الأبيض المتوسط فكان على مسافة بعيدة من فارس ولم يكن موضع الرهان في النزاع بينهما. وفِي الواقع، فإن عودة الحضور الإيراني على السواحل المتوسطية لا يعزى الى أي نزعة قومية لضم الأراضي موروثة من التاريخ الإيراني بل الى إرادة مرتبطة بمصالح الجمهورية الإسلامية.
ما بين الخطاب الثوري والسياسة الواقعية
انطلاقاً من القرن الثامن عشر بدأت القوة الإيرانية تتآكل في حضور روسيا ووصول البريطانيين الى الشرق الأوسط. ولم تستعد إيران قوتها الإقليمية إلا بعد الحرب العالمية الثانية في ظل محمد رضا پهلوي (1919-1980). أصبحت حينها استعادة القوة الإيرانية أولوية. واستندت هذه السياسية الى مشتريات مكثفة من الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية التي جعلت من الشاه حليفها الرئيسي في الشرق الأوسط. ورغم طموحات العاهل الإيراني بأن يصبح “شرطي”المنطقة إلا أن اهتمام إيران بالبحر الأبيض المتوسط ظل ضعيفاً. إذ أن اهتمام الشاه كان منصباً على الخليج العربي الفارسي حيث تدخلت إيران لمساندة السلالة الحاكمة في عمان عام 1971. ومع سقوط التام الملكي عام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية فلقد أعيد بناء السياسة الخارجية تماماً.
وبالنسبة للرجل القوي الجديد في طهران، آية الله الخميني فإن الثورة الإسلامية لا يتوجب النظر إليها كحركة وطنية أو شيعية فحسب بل كحركة عالمية من المفترض بها أنتقلب الأوضاع السائدة في كل البلدان الإسلامية.
ولقد اعتبر النظام الحديد بالفعل أن من واجبه تصدير الثورة الإسلامية وأن ذلك يمر عبر مساندة الجماعات المتمردة في الخارج. من هذا المنظور يمكن فهم المساندة الممنوحة لحزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين. ولقد جرى تبرير التدخلات الإيرانية في البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط بإرادة تصدير الثورة. وإن كانت هذه التدخلات قد اقتصرت على نهاية القرن العشرين، إلا أنها أصبحت ملحوظة على نحو أكبر بعد التدخل الأميركي في العراق عام 2003.
عندما أطاح الأمريكان بنظام صدام حسين فلقد إطاحوا بالخصم الرئيسي لإيران وأتاح لها أن تتدخل بالشؤون الداخلية للعراق. وبالفعل استطاعت بالجمهورية الإسلامية أن تكثف علاقاتها مع حلفائها “المتوسطيين” أي حزب الله ونظام بشار الأسد، واستخدموا العراق جسراً ما بينهم والبحر المتوسط. لكن حقيقة هذا النفوذ مرتبطة بشؤون السياسة الواقعية فإيران تسعى قبل أي شيء آخر الى إنشاء أدوات ضغط إقليمية من شأنها ضمان أمنها في مواجهة خصميها الأمريكي والإسرائيلي. وبالتالي فلقد نظرت الى الثورة السورية كعامل تهديد لها من حيث تخشى خسارة أحد حلفائها النادرين في المنطقة ( علينا أن نتذكر أن سوريا كانت البلد العربي الوحيد الذي ساند إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية).ولا يقتصر التدخل الإيراني في سوريا على منطق الحرب المذهبية بين الشيعة والسنة بل تجد مبررها بشكل أساسي في مصالح الجمهورية السياسية الجيوسياسية. ولقد وفرت إيران مساعدة لا غنى عنها لحليفها السوري، بنشرها حوالي 10.000 جندي، حسب التقديرات. وحسب أحد الدبلوماسيين الغربيين، فلقد كلفت هذه المساندة إيران 10 مليار دولار. زد الى ذلك أن الجمهورية الإسلامية تنظر حالياً بإنشاء طريق تستخدمه معبراً لها الى البحر الأبيض المتوسط وتدرج عملها في سوريا في منطق جيو سياسي أكثر منه أيدولوجي.
علاوة على ذلك ينسب الى النظام إرادة إنشاء قواعد عسكرية على الأراضي السورية، مما تسبب بتوترات مع إسرائيل وحليفها الأمريكي. وهذا التواجد الذي بقي حتى الآن محصوراً بالشؤون العسكرية بات يتوسع ليصبح حضوراً اقتصادياً، حيث يسعى الإيرانيون للفوز بعقود لإعادة الإعمار أو امتيازات لاستثمار الموارد في سوريا ما بعد الحرب. فالجمهورية الإسلامية عازمة على جني الثمار من تدخلها في سوريا الذي كلفها الكثير.
يدل التذكير بتاريخ العلاقات بين إيران والبحر الأبيض المتوسط على أن الديناميكيات الجيوسياسية لا تجعل من هذا البحر البعيد قضية ذات أولوية من الدرجة الأولى. وبما أن سواحل المتوسط هي من وجهة النظر التاريخية خارج منطقة النفوذ الإيراني، فإن تدخلات الجمهورية الإسلامية في لبنان وسوريا يمكن أن تثير الدهشة والقلق. ويرى بعض الخبراء الأمريكان في ذلك محاولة لإعادة تشييد الإمبراطورية الفارسية. ومع ذلك يمكن النظر الى التدخل الإيراني في هذه المنطقة من العالم من منظور أيديولوجي على أنه ناجم من العقيدة التي حملها الخميني ولكن أيضاً وبشكل أكبر من منظور جيوسياسي على أنه نابع من ضرورة ضمان الجمهورية الإسلامية لأمنها.
فإن هاجس بقاء النظام هو ما يبدو في قلب السياسة الإقليمية التي ينتهجها متخذو القرار في الجمهورية الإسلامية، الذين عايشوا جميعاً عذاب الحرب العراقية الإيرانية. وبالفعل يندرج الحضور الإيراني على سواحل المتوسط في سياق استراتيجية “تحصين” الأراضي الوطنية1، وليس في إمبريالية فارسية تهدف لإعادة رسم حدود الإمبراطورية القديمة.
1لمزيد من المعلومات حول السياسية الأمنية للنظام الإيراني راجع أريان طبطبائي وآني تريسي سامويل في كتابهما الصادر بالإنكليزية “ما تبوح لنا به الحرب العراقية الإيرانية عن مستقبل الصفقة النووية الإيرانية” في “إنترناشيونال سيكيورتي”، المجلد 42، العدد 1، صيف 2017; ص 152-185.