في أمنية عزيزة قال شاعر الشعب السوداني محجوب شريف وهو في طريقه الى المعتقل مطلع السبعينات :
“متين تصفا سما الخرطوم حبيبتنا ، ومتين جرح البلد يشفى” .
اليوم وبعد سنوات من تلك القصيدة الأمنية يبدو أنها تتجه الى التحقق . فالخرطوم صباح اليوم الخامس والعشرين من ديسمبر كانت تصحو على وقع أقدام مختلف القوى التي شاركت في أهم واضخم تجمع معارض على الاطلاق منذ انقلاب الحركة الاسلامية عام 1989 واستيلائها على السلطة في السودان . الدعوة التي بدأها تجمع المهنيين السودانيين والذي يضم النقابات المهنية الكبرى من أطباء ومهندسين ومحامين وجدت مؤازرة وتجاوبا شعبيا وحزبيا سياسيا غير مسبوق لعقود مضت .
ومجرد صدور مثل هذه الدعوة في هذا التوقيت وفي ظل تصاعد الأحداث الجارية في السودان شكل تحديا كبيرا للحكومة من جهة وللمنظمين أنفسهم ، خاصة وانه الحراك الأول من نوعه منذ مجيء الانقاذ للحكم .
الهدف المعلن للتجمع في قلب الخرطوم بدأ بفكرة تقديم مذكرة من النقابات احتجاجا على سياسات الحكومة الاقتصادية . لكن تطور الأوضاع السياسية المتسارع جعل النقابات ترفع من سقف مطالبها الى تسليم القصر الرئاسي مذكرة تدعو صراحة لاستقالة الرئيس عمر حسن البشير . الحكومة واستشعارا منها بأن مايجري هو أخطر هبة شعبية تنتظم كل مدن السودان الكبيرة منها والصغيرة جعلها تعيش تحت وطأة الضغوط فتميل تارة الى المراوغة واظهار المرونة ، وتارة استخدام سلاحها المجرب من القمع والقوة المفرطة كنهج دأبت عليه طوال العقود الثلاث الماضية .
ثورة غير مسبوقة
ومن المؤكد ان السودان عرف تجارب تاريخية نجحت فيها الثورة الشعبية في الإطاحة بنظم دكتاتورية شمولية في مرتين سابقتين ( حكم الفريق ابراهيم عبود عام 1964 – وحكم المشير جعفر نميري عام 1985 ) . على أن الثورة الشعبية الحالية تبدو مختلفة في كل شي عن سابقاتها . واذا كانت الثورات الشعبية السابقة قد استندت الى قوة الحركة النقابية في أوج عنفوانها والحركة السياسية المنظمة في المدن الكبرى في السودان وخاصة العاصمة الخرطوم ، فإن الثورة الشعبية اليوم قد انتظمت وعمت المدن في أقصى الشمال ، ومن عطبرة انطلقت وهي حاضرة عمالية يسندها تراث مجيد من كونها مهد الحركة النقابية في السودان . ثم تمددت الحركة سريعا وبدت كالزلزال يضرب المدن القريبة من عطبرة في بربر والدامر ثم انتقلت شمالا الى دنقلا وكريمة .
ثم تمددت ثورات المدن شرقا الى القضارف وبورتسودان وكسلا وغربا في الأبيض والرهد ثم على النيل الابيض . ولهذا كانت هذه الحركة الشعبية متفاوتة في مكوناتها التي ضمت مختلف شرائح المجتمع ، وصاعقة هزت الحكم في الخرطوم الذي اعتاد تكديس كل قواه الأمنية في الخرطوم تحسبا لأي تحرك معارض للحكم كما هو معتاد لعقود . أما التطور الذي كان مصدر قلق حقيقي للحكومة فهو القوة والحيوية التي طبعت هذه الحركة ووضوح أهدافها السياسية والتي لم تكن اقتصادية أبدا برغم حالة الجوع والفقر . والفقر في السودان كان له نصيب في التقرير الأخير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية والذي يشير الى أن السودان يضم أكثر من 20 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر وهو رقم يمثل ثلث عدد الفقراء في الدول العربية والذين بلغ عددهم وفقا للتقرير 66 مليون شخص .
لقد بدت الشعارات التي خرجت بها الجموع المشاركة في ثورات المدن سياسية بامتياز وواضحة . إذ كان الشعار الطاغي في هتافات الجماهير “حرية سلام وعدالة ، والثورة خيار الشعب” معبرا عن عمق فكرة الثورة الشعبية وتطلعاتها . هذا التطور النوعي نجح في نقل الصراع في السودان الى نقطة غير مسبوقة وبدون مقدمات . فالشعب برغم الفقر والجوع كان محددا في مطلبه بانهاء حكم الاخوان المسلمين واستشراف غد مختلف . ومن الواضح أن الحركة الاسلامية قد استنفدت اغراضها في الحكم مخلفة تركة ثقيلة و دولة منهارة في كل مناحيها اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ، وللمفارقة دينيا إذ مزجت الفساد بالدين في خلطة شيطانية مروعة .
هذه الحركة الشعبية وصفها رئيس جهاز الأمن السوداني صلاح قوش في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف السودانية يوم بعد انطلاقة تظاهرات المدن بأنها عفوية وبعيدة عن الأحزاب . لكن تبرئة الأحزاب التي جاءت من رئيس جهاز الأمن كان يراد بها القول بأنها حركة شعبية لامستقبل لها . غير أن هذا القول قد كذبته سريعا تطورات الأحداث . ماجعل رئيس جهاز الأمن يسعى لإيجاد محرك جديد للشعب يتمثل في القوى المخربة والمندسين الذين تلقوا تدريبا واعدادا وتعليمات من الموساد الإسرائيلي لاستهداف السودان بالتخريب . وعنى بقوله أفرادا من حركة تحرير السودان في دارفور و التي يقودها عبدالواحد النور و تخوض حربا على الحكومة في اقليم دارفور . هذا الاتهام المرسل يجسد حالة حجم المفأجاة والهزة التي أحدثتها الثورة في الحزب الحاكم . علما بأن المناطق التي احرقت فيها دور حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عطبرة والدامر او بربر تتميز بنسيج اجتماعي يقل فيه كثيرا الحضور الدارفوري بل هي محسوبة على الأقل من أهل النظام بأنها معاقل للحركة الاسلامية .
أضخم مظاهرة
الحراك الشعبي المتواصل يقول بأن الجماهير السودانية في كل المدن قد أخذت بزمام المبادرة وتواصل تحديها للحكومة . فكم من مدينة أعلنت فيها حالة الطواريء وحظر التجوال وتخطته الجماهير ولم تأبه له تماما . على ان التطور الأهم والأكبر والأكثر دلالة يتمثل فيما جرى اليوم الثلاثاء 25 ديسمبر في العاصمة الخرطوم حيث تقاطرت الجماهير من كل انحاء العاصمة وفي مقدمتهم ممثلو الطيف النقابي ، وظهر المهنيون وقادة الأحزاب السياسية وحشود شعبية هي الأضخم منذ انقلاب البشير . وعلى الرغم من القوة المفرطة واستخدام الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين لكن الواضح أن الجماهير في تحديها واصرارها تبعث برسالة واضحة أن عجلة الثورة قد دارت بالفعل وبزخم أشد قوة وتحد للحكومة . وسط العاصمة الخرطوم بدا أشبه بساحة للحرب من فرط الانتشار الكثيف للاليات العسكرية وجنود الجيش .
ومع ذلك فقد نجحت مهمة النقابات الآنية وعبر عن ذلك البيان الذي اصدره تجمع المهنيين اليوم والذي أشار الى منع السلطات لتجمع المهنيين “وشركائه في المجتمع المدني والسياسي والالاف من جماهير الشعب السوداني من الوصول الى القصر وتسليم مذكرة الرحيل حيث حشد النظام عشرات الالاف من قوته العسكرية والأمنية والمدرعات الثقيلة واستخدم الرصاص الحي” . وأكدت النقابات المهنية أنها قد بلغت المراد من تجمعها في الخرطوم بتحقق الوحدة الغائبة لعقود “قلنا كلمتنا معا وعبرنا بصوت عال عن إرادتنا الشعبية الموحدة” .
هذا الجو العام المشبع بالتحدي للحكومة قد عزز الثقة وسط الفئات الشعبية والنقابات والاحزاب التي أدركت بانها قد كسبت الجولة برغم فداحة الخسائر البشرية التي تقدرها بعض المصادر الطبية السودانية بأكثر من 40 شخصا .
وهذا الإحساس بكسب الجولة سيدفع بالأحداث الى مزيد من التطور . وبالفعل فقد استبقت الأحزاب السياسية بمكوناتها والمتمثلة بشكل رئيسي في قوى الاجماع ونداء السودان مسيرة المهنيين يوم الثلاثاء بلقاء تناست فيه كل خلافاتها والتقت بدار الحزب الشيوعي السوداني في الخرطوم للتنسيق السياسي “لإسقاط النظام” . وعلى هذا الصعيد يتبلور توجه عام يدعو الى تنحية الرئيس عمر البشير وتشكيل مجلس رئاسي انتقالي وحكومة تكنوقراط انتقالية تمهد الأرض لعودة الحياة السياسية الى التعددية الحزبية ونظام جديد . وهذا يعني عمليا انطلاق مرحلة جديدة في مواجهة الحكم واجبار الرئيس على التنحي .
في المقابل تعيش مكونات النظام المختلفة من القوى الاسلامية التي تشرذمت حالة من الخلافات العميقة خاصة من حيث الكيفية التي ينبغي عليها مواجهة حراك المدن . وضمن سباق التغيير المحموم شهد يوم الجمعة الماضية (21 ديسمبر) لقاء ضم قيادات من الحركة الاسلامية المنقسمين على بعضهم من حزب المؤتمر الشعبي الذي يقوده على الحاج وحركة الاصلاح بقيادة غازي صلاح الدين والفاتح عزالدين رئيس مجلس شورى الحركة الاسلامية ، التقوا بالفريق كمال عبدالمعروف رئيس الأركان في الجيش السوداني ورشح ان اللقاء قد تناول تولي القوات المسلحة السلطة . وان عبدالمعروف قد وافق مبدئيا على الفكرة وترك له الأمر في مشاورة بقية هيئة قيادة الجيش .
نفس هذا الوفد التقى في نفس اليوم بالصادق المهدي زعيم حزب الأمة وبعض قيادات قوى نداء السودان الذي يرأسه المهدي لتمهيد الأرض للتفاوض على انهاء الحكم والمضي الى فترة انتقالية وحكومة تكنوقراط .
عامل جديد دخل الحلبة
على ان ثمة عامل جديد يدخل الحلبة ومن المؤكد أنه سيؤثر على مجرى الأحداث السياسية في السودان وهو القوى الشبابية التي تعد المحرك الفعلي للثورة الشعبية في كل المدن السودانية . ومايميز هذا الجيل الشاب انهم ولدوا وترعرعوا في ظل حكم الجبهة الاسلامية بمعنى أنهم عاشوا في قطيعة مع ماضي الحياة السياسية الحزبية السابقة لنظام البشير .
ولهذا فهو جيل متمرد ولد وعاش خارج منطقة الجاذبية الطائفية ولذا يسعى الكثير من الشباب الى النأي بنفسه عن التجاذبات السياسية الطائفية ويطمح الى تجاوز الحراك الحالي نقطة المساومات التاريخية بتغيير الحكومة لا نظام الحكم وعودة التمكين الطائفي .
هذا التطلع الى إحداث ثورة حقيقية يعبر عنها الشباب في هتافاته “حرية سلام وعدالة” . بمعنى آخر ان هناك طرف فاعل ومؤثر يدخل المعادلة السياسية في السودان برؤى وتطلعات مختلفة ويسعى الى قطيعة شاملة مع صيغ الحكم السابقة وينشد دولة حديثة قوامها المساواة وسيادة حكم القانون والمواطنة وترسيخ قيم جديدة لحياة جديدة . وفي ظل واقع تقدم العمر لمعظم القيادات السياسية الحالية في المعارضة بالذات فإن الشارع سيكون أكثر ميلا ودعما لشرائح الشباب في التغيير الحقيقي . ولهذا فالمتوقع ان تشهد الفترة المقبلة حراكا وتجاذبا سياسيا متسارعا في ظل مخاطر عظيمة وخيارات تتمثل في التالي :
إما استباق الحركة الاسلامية الجميع باحداث انقلاب قصر ووضع حد لحكم عمر البشير وهو قطعا سيواجه بحركة شعبية رافضة .
او توافق فلول الإسلاميين مع بعض القوى السياسية المؤثرة متمثلة في الصادق المهدي الذي يبدو اكثر ميلا الى المساومة وتنفيذ رؤيته بما يعرف بخطة الهبوط الناعم والتي تسعى الى انهاء حكم المؤتمر الوطني وتحقيق فترة انتقالية ومؤتمر جامع لكل القوى السودانية لبحث مستقبل الحكم بمن فيهم الاخوان المسلمين وهذا ايضا سيجد معارضة خاصة من جيل الشباب ، وكذلك معارضة القوى السياسية الأخرى المعارضة وخاصة قوى الاجماع الوطني التي يقودها نقيب المحامين العرب السابق فاروق أبو عيسى .
الخيار الثالث وهو المفضل شعبيا يتمثل في التغيير الجذري بما يعني استبعاد الأخوان المسلمين من الحكم وقطيعة مع شاملة مع ماضي الحكم في السودان . والمفارقة هنا ان هذا هو الشكل الأقرب الى الشباب ومكونات الثورة الشعبية في تطلعهم نحو مستقبل يعيد وضع السودان على خارطة الدول المتطلعة للتقدم واقامة دولة عصرية حديثة ، ومع ذلك فسيواجه هذا الخيار بمقاومة قوية من القوى الطائفية التقليدية والحركة الاسلامية . هذا الحراك السياسي يقابله دخول مليشيات الحركة الاسلامية على الخط وتصديها للحراك الشعبي بالرصاص الحي . فإلى أي مدى سوف تصبر القوى العسكرية أو الشرطية في السودان على تطور هذا الوضع الخطر ، وهل ستدخل الحلبة مناصرة للحراك الشعبي كما يأمل البعض لحسم الصراع على السلطة لصالح الشعب كما حدث في الانتفاضتين الشعبيتين في الأعوام 1964 و 1985 .
ويمكن القول أن كل الدلائل تشير الى استمرار الثورة الشعبية السودانية وتصاعد الزخم الشعبي لوضع نهاية لنظام الحكم فيما تستمر جولات من مفاوضات سياسية مضنية بين مختلف المكونات والأحزاب في السودان أملا في الخروج السلس من الأزمة الحالية .