“إن تعامَلتَ مع موضوع الجزائر كن واثقاً أنك لن تتلقى إلا الضربات. ضربات مؤلمة. وبالتالي فنحن نلتزم الحذر الشديد ونراقب تطور الأحداث في الميدان”. هذا ما قاله لي دبلوماسي فرنسي سألته عن موقف باريس حيال الأوضاع في الجزائر منذ خرج مئات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع ليحتجوا على احتمال تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ولاية خامسة. ويؤكد هذا القول ما درج عليه المسؤولون الفرنسيون من حذر وحيطة في حديثهم عن بلد كان حتى تاريخ استقلاله في شهر تموز /يوليو 1962 جزءاً لا يتجزأ من التراب الوطني في نظر الفرنسيين. وبالفعل ما زال شبح التاريخ الاستعماري ومآسيه يخيم على العلاقات الثنائية هذا إن لم يتصدر الواجهة الإعلامية كما حدث في السجال المستعِر بين البلدين في منتصف عشرية ال 2000 حول مقاربة التاريخ. فلقد دار السجال وقتها حول إحدى المواد في مشروع قانون فرنسي ينص على “أن تعترف البرامج المدرسية الفرنسية على وجه الخصوص بالدور الإيجابي للتواجد الفرنسي ما وراء البحار ولا سيما في شمال إفريقيا وأن تمنح تاريخ المحاربين في الجيش الفرنسي ذوي الأصول من تلك الأراضي وتاريخ تضحياتهم المكانة البارزة التي هي من حقهم”. واتُهمت فرنسا وقتها بأنها تسعى “لإحياء جيش التنظيم السري مجدداً” أو بأنها تحاول “الانتقام من استقلال الجزائر” أو بأنها تتعمد إهانة ذاكرة “شهداء الثورة”. وفي مساع فرنسية لتهدئة الأوضاع، تم إلغاء تلك المادة من مشروع القانون إثر تدخل شخصي من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ولكن السجال معرض في أي لحظة للعودة ولصب الزيت على نيران العصبيات المتأججة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
ولا تطلق هذه الاتهامات فقط عندما يجري الحديث عن الماضي. فما أن يصدر على لسان مسؤول فرنسي أي انتقاد مهما كان صغيراً، يهب القادة الجزائريون فوراً للتذكير بفترة الاستعمار فينددوا “بالتدخل المرفوض في الشأن الداخلي”. وهو الأمر الذي حصل في يناير / كانون الثاني 1992 بعد أن ألغيت العملية الانتخابية التي أدت الى فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية. وكان الرئيس فرنسوا ميتران وقتها قد أعرب عن استغرابه لما وصفه ب“عمل غير طبيعي”. فبدت الفرصة سانحة في نظر السلطة الجزائرية لتعيد التفاف الرأي العام حولها باسم السيادة الوطنية. ومن غير المعقول ألا يكون الرئيس الفرنسي قد أقام حساباً لما لكلامه وما سيكون له من تفاعلات، وهو الذي أحجم عن الكلام بعد القمع الدموي الذي لاقته اضطرابات عام 1988 على يد الجيش الجزائري. واعتبر العديد من المراقبين في الجزائر أن الرئيس ميتران تعمّد هذه التصريحات في 1992 ليوفر الفرصة للعسكر في الجزائر لاستغلال تصريحاته وصرف الانتباه عن واقع الحال وتعبئة الرأي العام، فلم يكن الرئيس الفرنسي في واقع الأمر معارض لما آلت إليه الأمور: انقلاب عسكري بكل معنى الكلمة، بهدف منع الإسلاميين من الوصول الى الحكم.
لا تدخل ولا تجاهل
وأياً كانت الحال فلقد أطلقت السلطات الجزائرية في شباط فبراير 1995 مجدداً اتهامات التدخل في شؤون البلاد الداخلية بعد أن بدت فرنسا ميالة الى تقبل مبادرة السلام التي اقترحتها المعارضة الجزائرية في روما بل ذهبت باريس الى حد اقتراح عقد مؤتمر حول القضية الجزائرية تحت إشراف الاتحاد الأوروبي. “تدخل سافر مرفوض تماماً”، “موقف انتقامي”، «مخلفات الاستعمار“،”مؤامرة إمبريالية“، كل هذه العبارات تم التشدق بها، علماً أنها كانت قد استخدمت قبل ذلك عام 1993، حين اعتبر ألان جوبي، زير الخارجية الفرنسية في حكومة التعايش (بين اليمين واليسار )،”أن الوضع الراهن لم يعد قابل للاستمرار" وذلك بسبب استشراء العنف خاصة ضد الأهالي المدنيين.
هذه العودة السريعة الى التاريخ تفسر لنا موقف فرنسا التي حاذرت أن تسلك طريق الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الاوروبي فامتنعت عن الإعراب عن حرصها على :“حق الجزائريين في التظاهر” كما ورد في أمريكا و“احترام حرية التعبير” كما ورد في الاتحاد الأوروبي. وعندما سُئل إدوار فيليب يوم الأربعاء في 6 مارس في مقابلة تلفزيونية مع قناة BFMTV عن موقف بلاده قال إن “الجزائر بلد ذو سيادة” وإنه “يتعين على الجزائريين أنفسهم أن يتخذوا القرارات المصيرية لمستقبلهم”. وأضاف أن موقف فرنسا لا ينطوي على أي “تدخل” ولا أي “تجاهل”. وهو الأمر الذي يُرضي ولا شك السلطة الجزائرية التي كثيراً ما تلجأ بنفسها لهذه الصيغة. “لا تدخل”، بالفعل ولكن “لا تجاهل”أيضاً بأن تدير مثلاً فرنسا ظهرها للجزائر بسبب التفاتها أكثر من اللازم من المنافس المغربي...
ولا يمكن تفسير الحذر الفرنسي فقط بإرادة تجنب نكأ الجراح القديمة. فالجالية الجزائرية في فرنسا -والتي تعد حوالي 800.000 شخص ناهيك عن ذوي الجنسية المزدوجة- تشكل عاملاً يحسب له الحساب في موقف باريس. لا شك أن هذه الجالية في المهجر تشارك المتظاهرين في الجزائر إجماعهم على رفض التمديد عبر الانتخاب لعبد العزيز بوتفليقة، كما أنها قد عبرت عن موقفها بشكل سلمي، تماماً كالجماهير في الوطن. ولقد كان المتظاهرون ضد إعادة انتخاب بوتفليقة وبشكل عام ضد النظام عدة آلاف في ساحة الجمهورية في حين أن المظاهرة الموالية للنظام جمعت بضع عشرات فقط من الأشخاص. وبالتالي لم تحصل صدامات بين الفريقين، ولكن باريس تقيم حساباً لاحتمال تدهور الأوضاع في الجزائر مما سينعكس حتماً على الوضع الداخلي في فرنسا. وفِي مثل هذه الحال فأفضل شيء عدم اتخاذ موقف واضح ومراعاة الفريقين حتى لو كانت باريس ترسل بعض الرسائل المُطَمئِنة للسلطات الجزائرية. فعلى سبيل المثال دافع وزير الخارجية الفرنسي في 6 مارس عن ضرورة “ترك المجال لسير العملية الانتخابية في الجزائر” التي وصفها ب“البلاد ذات السيادة” والتي يمثل “استقرارها” أمراً لا غنى عنه. ولكن ليس من المؤكد في حال تطورت الأحداث، على المدى الأبعد، أن تمر مثل هذه التصريحات مرور الكرام في الجالية الجزائرية.
تعاون ضد الإرهاب
كما أن إرادة باريس عدم إثارة السلطات الجزائرية تعود الى المساعدة القيمة التي تقدمها المخابرات الجزائرية في رصد تحركات الشبكات الجهادية في أوروبا. وهو تعاون ليس بالجديد، بل يرقى الى الثمانينات. كما لا تتجاهل السلطات الفرنسية قدرة أجهزة المخابرات هذه على القيام بعمليات تضليل. فلو خطر لفرنسا أن تعطي الانطباع بأنها تميل باتجاه المعارضة لجاء الرد فوراً ب“تأديبها” في عقر دارها. وما زالت ذكريات التسعينات ماثلة في الأذهان مع شبهات ضلوع “الأجهزة” في الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها فرنسا في تلك الفترة وهو الأمر الذي يلقي بكل ثقله في تروي السلطات الفرنسية حيال النظام الجزائري. كما أن فرنسا بحاجة الى الجزائر لتستطيع الاستمرار في عملياتها العسكرية في مالي في أفضل الشروط، كأن تستطيع طائراتها على سبيل المثال التحليق في الأجواء الجزائرية، على أقل تعديل. وأخيراً ثمة الجانب الاقتصادي، وهو جانب لا يستهان به. فرنسا هي الشريك الاقتصادي الثاني للجزائر بعد الصين. وكبريات الشركات الفرنسية المدرجة في البورصة CAC 40 متواجدة في الجزائر كما أن السوق الجزائرية تمثل منفذاً هاماً للعديد من الشركات الفرنسية الصغرى والمتوسطة (ولا سيما بالنسبة للسلع الرأسمالية والمنتجات الغذائية). كل هذه الأسباب تجعل باريس تتحاشى إغضاب المسؤولين الجزائريين، إلا أنه سيكون من الصعب عليها، مع مرور الأيام، الاستمرار في التهرب.