عاد شبح الطائفية يخيم على منطقة الشرق الأوسط، فقيل إنها سبب الفوضى والصراعات والتطرف. وإنها هي التي تحدد الشرخ الرئيسي الذي يقسم المنطقة، أي ذاك الذي يفصل بين مذهَبَيْ السنة والشيعة. نظرة فيها قوة وبلاغة النظريات الكبرى التي تبدو قادرة على تفسير كل شيء: السنة يقاومون بعناد وسخط أطماع الشيعة، فينساقوا الى التطرف بأعداد كبرى، وينضموا للقاعدة أو يلتحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية. أما الشيعة فيتحركوا بدافع من مخاوف الأقلية فيتجاوزوا حدودهم ويسعوا لضمان سلطة أكبر بكثير من حجمهم الحقيقي.
لا شك أن التوتر بين الطائفتين الرئيسيتين في الإسلام لعب ماضياً وحاضراً دوره في حركيات المنطقة. إلا أن السواد الأعظم من العنف الذي جر الويلات والخراب على المنطقة ليس له علاقة تذكر بالتوتر الطائفي. فمن الواضح تماماً أن أبشع الصراعات وأكثرها دموية ودلالة جرت داخل الطائفة السنية نفسها. والطائفية خرافة مناسبة تستخدم ذريعة للتستر على صراعات النفوذ التقليدية وسوء معاملة الأقليات والممارسات الشمولية العنيفة.
لقد أوقع تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) - وهو أكثر الأطراف تطرفاً وعنفاً داخل الطائفة السنية - العدد الأكبر من ضحاياه في صفوف الطائفة السنية نفسها. ولقد شهدت المعارك الضارية للسيطرة على مدينة الموصل في العراق أو مدينة الرقة في سوريا صداماً بين السنة أنفسهم. أما اعتداءات تنظيم داعش الإرهابية في مصر والصومال وليبيا ونيجيريا وفي أماكن أخرى فغالباً ما كان يذهب ضحيتها السنة. نادراً ما نشهد مجازر على نطاق واسع هدفها الشيعة.
أخوان مسلمون وعثمانيون جدد وسلفيون
ثورات الربيع العربي، التي مثلت التحرك السياسي الأكثر أهمية في العالم العربي في العقد المنصرم انطوت على معارك بين السنة والسنة: في تونس حيث بدأت الانتفاضة، وفي مصر، حيث تعاظمت، وفِي ليبيا حيث ما زالت. والشيء نفسه ينطبق على الحرب الأهلية الدامية الرهيبة التي دارت رحاها في الجزائر في التسعينات من القرن الماضي. في كل حلقة من مسلسل الاضطرابات كنّا نشهد عنف الصدامات وتقلب الأحلاف بين الإخوان المسلمين والعثمانيين الجدد والسلفيين والوهابيين (في كلا الصيغتين السعودية والقطرية) والجهاديين. وظلت القوى المعتدلة مقارنة بهؤلاء، كالأزهر في القاهرة والهاشميين في الأردن والغالبية العظمى من السنة المسالمين، في موقف المتفرج، مغلوب على أمرها، تنتظر هدوء العاصفة وتأمل بفرصة لإسماع صوتها.
أما المأساة السورية فكثيراً ما يجري تقديم الانقسام فيها بين العلويين والسنة على أنه نوع من الصراع بين السنة والشيعة يعلل حدة العنف إلا أن نظام الأسد لا يمكن اعتباره علوياً فقط فتركيبته مبنية على حلف بين العلويين والطبقات الوسطى السنية وجملة من الأقليات الدينية. ومن الصعب أن نفهم كيف ظل على قيد الحياة دون حد أدنى من المساندة من التيار السني الرئيسي. علماً أنه في معظم تاريخه كان يعتمد على النظم الملكية في الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
وفي بداية احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003، سمح النظام السوري للمقاتلين الإسلاميين السنة المتشددين بالعبور الى العراق حيث كانوا يستهدفون باعتداءاتهم الأمريكان والشيعة الذين تساندهم إيران. ولئن هبت أيران وحزب الله لنجدة بشار الأسد فلقد فعلا ذلك لأسباب سياسية واستراتيجية وليس من باب التعاطف مع أشقاء في الهوية الطائفية. فالنظام السوري والجمهورية الإسلامية عملياً على طرفي نقيض من حيث التوجه الديني . ولقد أصبحت الحرب في سوريا الى حد بعيد مجابهةً بين جماعات إسلامية مختلفة المشارب والحُماة، كرّست لمحاربة بعضها البعض من الوقت والطاقة والأموال أكثر مما كرّست لمحاربة النظام.
خصوصية النزاع السوري
وتفسير النزاع في سوريا على أنه قبل أي شئ آخر صدام بين السنة والشيعة إنما يتجاهل وقائع أخرى هامة. فلقد استهدفت الجماعات السنية المتمردة السنة أكثر مما استهدفت الشيعة. ولقد هاجمت المجموعات الإسلامية الطائفة المسيحية ودنست شعائرها وقتلت زعمائها الروحيين وطردت أبناءها من مناطقهم التي كان يعيش فيها أجدادهم. وعندما أنقذت روسيا النظام السوري بقتلها عدد كبير من أهل السنة فلم يجاف القادة العرب بوتين، لا بل أكثروا من الزيارات الى موسكو ومن عروض شراء الأسلحة والعقود التجارية والأحلاف الاستراتيجية. ومصر، البلد العربي السني الذي يأوي مقر الجامعة السنية الأكثر هيبة فلقد حافظت على قنوات الاتصال مع نظام الأسد وجعلت بينها وبين المعارضة مسافة ملحوظة. ولم تعتبر القاهرة أن ثمة أي تهديد شيعي أو علوي آتٍ من النظام السوري بل اعتبرت أن ثمة خطر إسلامي آتٍ من المعارضة. والجزائر، أكبر دولة في المغرب العربي، سلكت نفس السلوك. وليس من الغرابة في شيئ أن تقرر الأمارات العربية المتحدة والبحرين في نهاية الحرب إعادة علاقاتهما الدبلوماسية مع النظام السوري. فكلاهما منشغلتان بالمواجهة مع تركيا ومع قطر، وتتشاطران الخوف نفسه من الإسلاميين السنة. كما ومن المرجح أن تحذو المملكة العربية السعودية حذوهما.
أما اليمن فقد يتسم مسار الأحداث فيها ببعض الجوانب الطائفية ولكن من التضليل بمكان وصف الحرب الأهلية على أنها انشقاق واضح وصريح بين السنة والشيعة. فما يحرك المتمردين الحوثيين هو الاعتقاد الراسخ بأن هويتهم مهددة. قد تمثل الثورة الإيرانية في نظرهم مثالاً يحتذى وحليفاً لا بد من خطب وده. ولكن القضايا الاجتماعية هي التي تتصدر شعور الحوثيين بالظلم. فلقد نشأ استياؤهم من فقدانهم مكانتهم والإهمال المتزايد في معاملة السلطات لهم في شمال البلاد، تلك المنطقة التي تمثل معقلهم. ولئن تحول الصراع الى نزاع بين السعودية وإيران بالنيابة، فذلك ليس بسبب هويات طائفية قديمة أو مستديمة. فبعد أن حصل الحوثيون على دعم إيراني محدود راحوا يطالبون طهران بالمزيد من المساندة لأنهم كانوا يواجهون هجوماً سعودياً.
ورأت طهران في ذلك فرصة سانحة لم تكن تتوقعها فردت على الطلب بكل سرور. وهو تحرك جيوسياسي أكثر منه طائفي، تنافس استراتيجي أكثر منه مبارزة دينية. فالنزاع بين الحوثيين والتحالف الذي تقوده السعودية ليس إلا أحد النزاعات العديدة التي تهدد بتمزيق اليمن. فعندما تضع هذه الحرب أوزارها سوف تستفحل التوترات الأخرى التي مردها للانفصاليين في الجنوب وللقاعدة وداعش والسلفيين -وكل هؤلاء من السنة- كما ستؤججها أطماع السعودية والإمارات العربية المتحدة، والاختلافات والمنافسة فيما بينهما.
عملية قتل جمال الخاشقجي
ثم أن آخر الجرائم وأكثرها دوياً إعلامياً في سلسلة الجرائم العنيفة والبشعة، أي جريمة قتل جمال خاشقجي، فهي أيضاً قضية داخل الطائفة السنية. فالصحفي المقتول من السنة. والقَتَلَة من السنة. وتركيا، البلد الذي جرت فيه عملية القتل والذي لعب دوراً أساسياً في تسريب الأخبار عن الجناة بلد أغلبية الشعب فيه من السنة. كما وأن سياق الجريمة هو عملية صراع على النفوذ بين الوهابيين المتقشفين والإخوان المسلمين الناشطين والعثمانيين الجدد المتمسكين بدور الدولة، وكل طرف منهم يسعى لفرض زعامته على الطائفة. وفي خضم هذه المأساة التي تحتشد فيها الأطراف نلاحظ بوضوح شديد غياب إيران، البلد الشيعي الرئيسي في المنطقة.
وتطول قائمة الأمثلة. رئيس الوزراء الذي احتجز عام 2017 في المملكة العربية السعودية كان سنياً. ومن ناحية أخرى فلقد زاد حزب الله من حلفائه السنّة داخل البرلمان والحكومة في لبنان بعد تدخله في سوريا ضد ثوار من السنة. كما أن الشيعة ليسوا طرفاً في النزاع المرير بين الفصيلَيْن الفلسطينيَيْن فتح وحماس. والشيعة ليسوا طرفاً في النزاع المغربي الجزائري حول الصحراء الغربية، ولا في التجاذبات السعودية الأردنية ولا السعودية المغربية ولا السعودية القطرية، ولا في الصراع بين السعودية وقطر ولا في الصراع على النفوذ في القرن الإفريقي بين كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر. والحملة التركية على الأكراد هي أيضاً عملية سنية داخلية بحتة. والفوضى العارمة المستمرة في ليبيا التي لا يظهر فيها أي انقسام طائفي بالمعنى المذهبي، فهي ناجمة في الواقع عن أوجه تنافس عرقية وقبلية وإقليمية بين السنة أنفسهم، تماماً كما هي الحال في غرب العراق، وكما هي الحال أيضاً في تونس بين الساحل والمناطق الداخلية.
ساحة المعركة العراقية
وفي العراق، في أيامنا هذه، نلاحظ أن التوتر داخل المشهد الشيعي نفسه هو الذي يحدد نطاق اللعبة السياسية وقد يلعب مستقبلاً دوراً أخطر مما تلعبه الطائفية في تكوين السياسات. وإيران الشيعية، لا تركيا السنية ولا بلدان الخليج السنية، هي أول من زود الأكراد - السنة في غالبيتهم - بالأسلحة وساندتهم في وجه داعش عندما كانت هذه الأخيرة تتهددهم.
محاولات السعودية إقامة روابط مع بعض العناصر الشيعية في العراق وكذلك روابط إيران ببعض العراقيين السنة لا يمكن أن تعزى الى ديناميكية طائفية ثنائية. ولا يمكن أن نستخدم هذا المنظور لتفسير رفض باكستان -التي هي أحد أهم البلدان من حيث تعداد الطائفة السنية فيها- دعوة السعودية للانضمام للحرب على اليمن. وخلال الاضطرابات الأخيرة في العراق كما في لبنان لم تشهد الجيوب الشيعية في الجنوب، في هذين البلدين، اعتداءات أو تهديدات على نطاق واسع من التجمعات السكانية السنيّة المحيطة بها.
هذا ولا يمكن إنكار أن ثمة انقسام بين السنة والشيعة، توظفه كل من السعودية وإيران لتعبئة أتباع كل منهما في صراعهما على النفوذ في المنطقة. كما تقوم القاعدة وداعش بالاعتداءات الإرهابية على الشيعة في الهند وباكستان وأفغانستان لإثارة النعرات الطائفية بهدف الاستفادة منها. ولكن هذه حيل تكتيكية خلال الحرب وليست هي السبب في الحرب. في هذه المنطقة من العالم وفي إطار ديانة مثل الإسلام عرفت أمجاداً غابرة يصبح التاريخ عاملاً شديد التأثير في الجماهير. حيث يلجأ رجال السياسة الى التذكير بخصومات طواها الزمن بهدف إحياء ذكرى ماض غابر كان أكثر إشراقاً وصواباً . وبما أنهم يعجزون عن شحذ الهمم عبر قيم رفيعة كالحرية والتسامح، فيلجؤون الى حكايات الخصومة الماضية ليحفزوا الحماس والولاء.
وثمة تفسير لكون النزاعات تنشب بين السنة أنفسهم أكثر مما تنشب بين السنة والشيعة. فالسنة يعلمون تماماً أن عددهم في المنطقة يقارب الثمانين في المائة من إجمالي عدد السكان وأنه بالتالي ما من خطر حقيقي بأن يجتاحهم إخوانهم الشيعة. والشيعة من ناحيتهم أدركوا منذ زمن بعيد أنهم سيظلون أقلية في منطقة يشكل فيها السنة أغلبية ساحقة. ويسعى كل مذهب من مذاهب السنة المختلفة داخل الطائفة لتحقيق الغلبة وفرض السيطرة على الأتباع، فما من مكسب لهم في استعداء للشيعة، في مساعيهم هذه.
التشخيص الخاطئ يؤدي الى علاج خاطئ
إن التعريف الخاطئ للنزاعات التي تتحكم بالمنطقة يؤدي الى الحلول المضللة لها. فالتحدث عن “الدول العربية السنية المعتدلة” كما يفعل البعض في أوساط السياسة الخارجية الأميركية، متمادين في المغالطة، هو مجرد هراء. ولا عجب أن يكون المدافعون عن فكرة توفير الدعم العسكري للمقاومة السورية المسلحة قد زعموا بأن ذلك ضروري لعدم إغضاب “العالم السني”. والقرار بالانحياز الى المقاومة وتسليحها لم يكن معناه الانحياز للسنة ضد من ليسوا من السنة بل كان معناه الدخول في حرب ضروس بين السنة أنفسهم. كان خياراً مستنداً الى مغالطة مفادها أن السنيين العاديين في سوريا يأملون أن تتغلب المقاومة الإسلامية على نظام الأسد لأنه ارتكب الفظائع.
كما أدى التفسير الغربي الخاطئ للأحداث الى الفشل في توقع ما ستؤول إليه الأمور بين إيران، القوة الشيعية الكبرى وتركيا، القوى السنية الكبرى، اللتين قررتا عدم ترك الاختلافات بينهما تؤثر على إمكانية التوصل الى تفاهمات. كما أدى هذا التفسير الى فهم خاطئ لديناميكية العلاقات بين الشيعة الإيرانيين والشيعة العراقيين التي لا تعزى الى التضامن الطائفي بينهما بقدر ما تعزى الى قلقهما المشترك حيال دور الولايات المتحدة الأميركية. ففي حال انسحبت القوات الأميركية من العراق من المرجح عندها أن تعود الخلافات بين الطرفين الى الواجهة من جديد، بين القومية الإيرانية والعراقية من ناحية، وبين مختلف أنواع المذاهب الشيعية السائدة في كلا البلدين من ناحية أخرى . ولقد أدى التفسير الخاطئ أيضاً بواشنطن الى تقييم غير صحيح للدعم الذي تقدمه روسيا للنظام السوري. وهو الدعم الذي لم يؤثر سلباً على العلاقات بين موسكو والأنظمة السنية العربية، إطلاقاً، لا بل سمح لروسيا بتعزيز وجودها ومنحه طابعاً شرعياً في المنطقة بأسرها.
وما زال اليوم هذا المنظور يحمل على ارتكاب أخطاء أخرى في المناهج المتبعة. فمحاولة تشييد “نيتو” (حلف شمال أطلسي) عربي لجمع شمل الدول العربية السنية في مواجهة إيران عملية غرقت في الخلافات الخليجية الداخلية. ما زال السنة في هذه المنطقة يرون في إيران خطراً محدقاً بهم. ولكن اعتقاد أمريكا بأن خطابها العدائي سيمكنها من توحيد العرب السنة داخل حلف مضاد لإيران يأتي في الوقت الذي تنشغل فيه الأنظمة العربية وبشكل متزايد بالتحديات التي تمثلها تركيا. فتركيا ذات التوجه العثماني المتجدد هي منافس أهم بكثير من إيران. وجذور النزاع بين الأتراك والعرب ترقى الى مئات السنين في التاريخ. لقد بسطت الإمبراطورية العثمانية سلطتها على مدينتي مكة والمدينة لأربعة قرون، في حين إيران لم تفعل. الحنين لأمجاد الماضي لا يزول بسهولة. وتبني النظريات التبسيطية له نتائج فادحة. فهي تتجاهل الصراعات الحقيقية التي ستحدد مستقبل الشرق الأوسط.