الثورة السودانية في مواجهة أعدائها

سقوط عمر البشير ما هو إلا المرحلة الأولى في صراع قد يطول ويتعقد ضد النظام الدكتاتوري وحلفائه الإسلامويين، الذين يسيطرون على الدولة العميقة1

الخرطوم في 8 أبريل نيسان 2019 - المتظاهرون يحيّون بعض الجنود
M. Saleh - م. صالح

فرحة الشعب السوداني يوم الأربعاء الماضي التي امتدت لخمس ساعات - في انتظار إعلان الجيش تولي زمام السلطة في البلاد وعزل الرئيس البشير الذي حكم السودان بالحديد والنار لفترة امتدت ثلاثة عقود بدأت في العام 1989الى أبريل 2019 - لم تدم طويلاً فسرعان ما تحولت إلى حالة غضب شديد وتسلل الإحباط إلى نفوس الملايين بعد أن تبين لهم هوية الانقلابين تماما واتضحت الرؤية أمام أعينهم وهم يحتشدون بإعداد ضخمة أمام مقر قيادة الجيش وسط العاصمة الخرطوم

توقفت الموسيقى التي كانت تعزف لحنا عسكريا موروثا وصمت الجميع في تمام الواحدة ظهرا لسماع بيان الجيش المنتظر لكن المفاجأة أذهلت الملايين عندما أظهرت الكاميرات أحد أهم العناصر التي قامت بالانقلاب وهو النائب الأول للرئيس السابق عمر البشير ووزير دفاعه عوض إبن عوف.

لم يكمل ربما معظم السودانيين سماع فقرات بيان القوات المسلحة الذي كان يتلوه إبن عوف بصوت فاتر خفيض وانطلقت مظاهرات حاشدة ورافضة من كل اتجاهات ميدان الاعتصام تردد عبارات الرفض المغلظ للقادمين الجدد ويعتبرونه انه النظام القديم في قوارير جديدة.

جنود يتصدون لعناصر المليشيا

عندما نصب الثوار منذ السادس من أبريل خيامهم أمام مقر الجيش الرسمي استجابة لدعوة تجمع المهنيين السودانيين3 لتنفيذ اعتصام أمام القيادة العامة منذ أول لحظة ، بدأت الحركة الإسلامية الحاكمة في السودان عبر جناحها السياسي حزب المؤتمر الوطني في نسج خيوط عدة سيناريوهات.

بدأت بتطبيق السناريو الاول عشية الاعتصام حيث هاجمت مليشيا ما يسمى بالأمن الشعبي والطلابي التابعة للحركة الإسلامية في مهاجمة ميدان الاعتصام ، يرتدون ملابس عسكرية تشبه الزي الرسمي لجهاز الامن والمخابرات السوداني فاطلقت الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع على مئات الآلاف من المعتصمين. تصدى لذلك الهجوم بعض ضباط صف وجنود بعد أن خالفوا تعليمات قادتهم بعدم الرد وكسروا أقفال مخازن السلاح وقاموا بتسليح أنفسهم ثم تصدوا للمهاجمين تلك المعركة التي تكررت في يومين متتاليين.

بعد فشل السناريو الأول لجأت ذات الحركة إلى تطبيق الخطة (ب) وتحريك مخالبها العسكرية ليس داخل القوات المسلحة فحسب وإنما داخل كل الأجهزة الأمنية لاستلام السلطة عبر ما يسمى باللجنة الأمنية وهي لجنة تضم القادة العسكريين المختارين بعناية فائقة ويشكل غالبيتهم أصحاب الولاء الشديد للحركة الإسلامية بل وأن بعضهم قادة في جهازها العسكري السري فنفذت اللجنة انقلابا من الداخل يوم الأربعاء بموافقة ومباركة بل وترتيب محكم من كباتن الدولة العميقة التي تديرها قيادة الحركة ورموز النظام. البيان الصادر من مجموعة الانقلاب المزعوم يحمل بين عباراته الغامضة دليلا قويا على أنه ليس سوى مسرحية سيئة الإخراج ويظهر ذلك جليا من خلال الفقرة التي حلّ فيها البيان مؤسسات الدولة ابتداء من مؤسسة الرئاسة وحتى المجالس التشريعية في الأقاليم حيث كانت حظوظ الحركة الإسلامية في آخر حكومة شكلها الرئيس البشير ضعيفة للغاية فالرجل كان يخشى ربما من الانقلاب عليه في أي وقت، وقام بتشكيل حكومة اعتمد معظم عناصرها من أقرب المقربين، غالبيتهم لا يدينون بالولاء للفكر الإخواني الذي تمثله الحركة الإسلامية في السودان.

مقاومة الحركة الإسلامية

إذن فإن حل ابن عوف للحكومة السابقة هي المهمة الثانية للرجل بعد الانقلاب على البشير وليس على النظام الإسلامي في السودان وبدأ الظل الخفي المتمثل في الحركة الإسلامية هو من يدير كل شيء في السودان بعد وقبل تلاوة البيان والشاهد على ذلك أيضا تسليم مهمة إدارة الوزارات السيادية والاتحادية لوكلاء الوزرات الذين هم أعضاء في التنظيم الإسلامي وبعضهم قادة أيضا في الجهاز العسكري السري للحركة . لذلك فقد أرجعت الحركة الإسلامية منذ الأمس بعض أراضيها التي كان قد منحها الرئيس البشير لغرباء واستولت عليها تماما وبإحكام عبر وكلاء الوزرات.

إذن ما هي هذه المليشيات التي دخلت في معارك مع الجيش السوداني داخل حرم القيادة العامة4 حيث اتخذت من مبنى تحت التشييد يسمى مدينة البشير الطبية مقرا لها لتفريق الاعتصام بالقوة ؟ الإجابة بالطبع على هذا السؤال لا تحتاج إلى كثير من العناء فهذه المليشيا تعد الجهاز السري للحركة الإسلامية، تم استقطاب عناصرها لصالح التنظيم منذ بداية تسعينات القرن الماضي حيث كانت الحركة تحكم قبضتها على السلطة بعد تنفيذ ما عرف ببرنامج التمكين داخل كل مؤسسات الدولة، ورفع شعار الولاء قبل الكفاءة. تكوّن التنظيم السري من طلاب الثانويات والجامعات، وحظي بدعم مالي سخي، وكان يشرف عليه عدد من قادة الحركة الإسلامية في مقدمتهم القيادي البارز نافع علي نافع الذي تولى في تلك الحقبة منصب مدير الأمن والمخابرات خلفه القيادي الإسلامي علي كرتي وهو أيضا تولى ذات المنصب في فترة لاحقة.

أخذ المستقطبون جرعات فكرية داخل المركز القومي للإنتاج الإعلامي التابع للتنظيم الطلابي للحركة، وبعد أن تم استيعابهم فيما يعرف بالكتائب الاستراتيجية خضعوا لتدريبات عسكرية بمركز خالد بن الوليد بمعسكر المرخيات شمال مدينة أم درمان ونفذت تلك الكتائب عمليات اغتيال وسط طلاب الجامعات حيث استهدفت بالتحديد طلاب اليسار السوداني وبعض المعارضين من أحزاب الوسط فاغتالت الطالب محمد عبد السلام والطالبة التاية داخل جامعة الخرطوم في نهاية التسعينات، ومارست البطش والتنكيل على طلاب المعارضة وظلت تنسف صناديق اقتراع انتخابات الاتحادات الطلابية كلما كان التصويت في غير صالح التنظيم وتثير العنف داخل الجامعات السودانية.

القطيعة مع الترابي

هذا التنظيم العسكري السري تعرض لهزة قوية في العام 1999 عقب القطيعة الشهيرة بين عراب النظام الراحل حسن الترابي ورئيس الجمهورية المخلوع عمر البشير بعد أن اطاح البشير بالترابي إلى خارج السلطة بمعاونة تلاميذ الشيخ فانشق صف التنظيم العسكري، فريقاً انحاز إلى حزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه الترابي واختار طريق المعارضة بعد المفاصلة، وفريق آخر ظل مع البشير وبقى يرضع من ثدى الدولة ويحمي النظام جنب إلى جنب مع جهاز الأمن والمخابرات، يمتطي مركباته ويتزيا بزيه العسكري، ويحمل بطاقاته، ويترقى وفقا لنظام الترقية داخل الجهاز ،حتى أنه يقوم بكل أدوات الضبط من قبض واعتقال. تتعامل معه نيابة أمن الدولة على أساس انه قوات نظامية وكذلك يعتمده القضاة في المحاكم كممثل لجهاز الأمن لكنه في حقيقة الأمر جهاز من القوات غير النظامية التي تقوم بعمليات التصفية الجسدية والاعتقال غير المشروع والتعذيب والتنكيل.

ولقد برز دور الجهاز العسكري السري بشكل واضح أثناء الهبة الشعبية في سبتمبر من العام 2013 عندما انتفض الشعب السوداني في الخرطوم وبعض مدن الولايات رافضا قرارات رفع الدعم عن المحروقات، فتصدى الجهاز السري للمتظاهرين وأطلق عليهم الرصاص الحي ما أدى إلى مقتل اكتر من 200 سوداني حسبما تقول الإحصائية وكانت هذه المجزرة تمثل إحدى الانتهاكات الخطيرة التي قام بها الجهاز السري ولازال الملف عالقا لم يتم حسمه أمام القضاء السوداني وحبيس أدراج مجلس حقوق الإنسان بجنيف. ثم واصل الجهاز السري انتهاكاته الخطيرة أثناء المظاهرات التي يشهدها السودان هذه الأيام منذ التاسع عشر من ديسمبر بعد أن دفعت قيادته بقوات كبيرة منه في شوارع الخرطوم وبعض المدن الكبيرة، يمتطون عربات ماركة “التاتشر” ومركبات نصف نقل “بكاسي” بدون لوحات، ويحملون رشاشات الكلاكنشوف والعصا والهروات، ويتلثمون خوفا من تصويرهم ونشر صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي والتعرف على هويتهم. نفذ هؤلاء عمليات تصفية جسدية وصل عدد القتلى حتى كتابة هذا المقال إلى أكثر من 50 شاب منذ اندلاع الثورة، فيما تتزايد الأعداد بشكل يومي، حيث يقوم قناصاتهم بقنص الثوار المتظاهرين والمعتصمين داخل الميدان بعد أن يختبئوا داخل عمارات تحت التشييد ويستخدمون كاتم صوت لمسدساتهم . في وقت أفلح فيه جهاز الاستخبارات العسكرية في إلقاء القبض على عدد كبير من عناصر هذه الجهاز وسط أنباء تتحدث عن كشف قوات الجيش لبعض اوكارها واقتحامها واعتقال من بداخلها ومصادرة أسلحتهم.

ما قادنا إلى فتح ملف هذه الجهاز السري هو التهديد الذي كان قد أطلقه النائب السابق للرئيس المخلوع عمر البشير بجاهزية ما أسماهم بكتائب الظل لحسم المظاهرات الشيء الذي دفع الآلاف من السودانيين إلى الخروج للشارع وكانت تتزايد الأعداد كلما قتل متظاهر أو تحدث مسؤول من النظام السابق بكلمات استفزازية ثم انفجر الشارع عقب آخر تصريح لمدير الأمن الأسبق نافع علي نافع سخر فيه من دعوة تجمع المهنيين إلى اعتصام مليوني أمام القيادة العامة.

الحركة الإسلامية لازالت حاضرة في المشهد السياسي السوداني رغم الثورة التي انطلقت ضد نظامها وكذلك وفق ما ذكرنا آنفا عبر وجود مخالبها داخل القوات المسلحة والأمن والشرطة التي تكون منها المجلس العسكري الانتقالي حيث ضم عناصر اسلامية تدين بالولاء للحركة الإسلامية وفي مقدمتهم جلال الدين الشيخ نائب مدير الأمن وعمر زين العابدين رئيس اللجنة السياسية في المجلس، بعد أن شكل تنحي رئيس المجلس عوض بن عوف ونائبه كمال عبد المعروف واستقالة مدير جهاز الأمن صلاح قوش المفاجأة صفعة قوية لخطة الحركة الإسلامية استفاقت منها وهي ربما أكثر تماسكا بعد أن دفعت بممثليها داخل المجلس رغم رفضهم من قبل الثوار في ميدان الاعتصام، وذلك لمواصلة حكمها عبر المؤسسة العسكرية، بعد أن فقدت الميدان السياسي، وبعد أن انهار حزبها السياسي المؤتمر الوطني، ما أدى إلى حالة من الرفض الهستيري وسط المعتصمين في الميدان وتعالت صرخاتهم الرافضة لمكونات المجلس وانطلقت مظاهرات داخل الميدان تطالب بحل جهاز الأمن والمخابرات وتقديم قياداته وضباطه الى المحاكمة بسبب المجازر التي ارتكبتها كتائب ومليشيات الحركة الإسلامية تحت غطاء الجهاز.

لكن فيما يبدو أن الحركة الإسلامية كانت تتحسب لمثل هذه المطالبات فكل شيء تم الترتيب له خلال الأربعة أشهر من عمر الاحتجاجات حيث دفعت الحركة بممثليها داخل المجلس العسكري من باب اللجنة الأمنية المشتركة حتى تغلق الباب تماما أمام مثل هذه المطالبات وتحافظ على قوات جهاز الأمن التي تعد صمام أمان لجهازها العسكري السري وتستمر في عملياتها ربما في المستقبل لإعادة حكمها من جديد بعد أن تستعيد أنفاسها خلال السنتين التي حددهما المجلس الانتقالي العسكري كأمد الفترة الانتقالية.

مسألة المحكمة الجنائية الدولية

الفخاخ التي نصبتها الحركة الإسلامية لاصطياد قوى المعارضة من جديد وإحكام السيطرة عليها بعد تهدئة الشارع عبر الخدعة التي نسجت تفاصيلها في الظلام ، ربما فطنت لها تلك القوى، وهي تحاول الفكاك منها عبر الرفض القاطع لكل محاولة مراوغة من قبل المجلس الانتقالي العسكري للمحافظة على جزء من إرث النظام الذي سقط في أيدي الثوار . فقد رفضت القوى المسنودة من الجماهير المعتصمة في الميدان صمت القوات المسلحة الذي امتد لخمس أيام عقب تنفيذ الاعتصام دون أن تعلن أي موقف تجاه المعتصمين عدا القيام بواجبها الدستوري في حمايتهم ومن ثم الدخول في اشتباكات متفرقة مع عناصر الجهاز العسكري السري للحركة الشعبية كان أبطالها صغار الضباط والجنود في الوحدات العسكرية المختلفة بعد أن خالفوا تعليمات قادتهم. وبعد الضغط المتزايد من الجماهير والاحتشاد بإعداد ضخمة بدأت تستجيب القوات المسلحة ببيانات ظهرت فيها أصابع قادة الحركة الإسلامية فهي في مجملها حاولت الالتفاف على مطالب الجماهير وتقديم تنازلات بسيطة لإيهام المعتصمين بجدية قادة القوات المسلحة في تفكيك دولة النظام القديم بعد الإطاحة بالبشير والتحفظ عليه في مكان آمن . فكانت تلك العبارة الواردة في البيان الأول الذي تلاه وزير الدفاع السابق عوض إبن عوف عن مصير البشير قد شكلت أول حالة إحباط بين الثوار حيث كانت مطالب الجماهير أن يسلم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته ثم جاءت الضربة الثانية وهي الأكثر ايلاما بعد تسريب معلومات عن أن رموز النظام القديم لازالوا أحرارا وليسوا في قبضة القوات المسلحة حسبما نشرت بعض وسائل الإعلام. ثم الصفعة الشديدة كانت في إعلان رئيس اللجنة السياسية بالمجلس عمر زين العابدين رفضه تسليم البشير للمحكمة الجنائية وحل حزب المؤتمر الوطني وكشف كون مدير الأمن صلاح قوش المتهم بارتكاب المجازر هو أحد قادة التغيير الذي حدث.

وتوالت الصفعات على الثوار عقب البيان الأخير الذي تلاه رئيس المجلس الانتقالي الجديد عبد الفتاح البرهان والذي تحدث عن عموميات وجاءت عباراته فضفاضة حيث لم يوضح بشكل قاطع مصير الرئيس المخلوع عمر البشير ولا مصير رموز النظام السابقين ولا حزب المؤتمر الوطني.

إذن بيان برهان يعد أيضا امتداد للخطة (ب ) التي رسمتها الحركة الإسلامية حيث لم يعلن صراحة توجه المجلس للقضاء على النظام القديم بشكل كامل وتفكيك دولته العميقة ،بل تحدث عن مراجعة لما أسماه بالمؤسسات التي قامت على أساس المحسوبية ومحاربة الفساد ومحاسبة كل من ارتكب جريمة في حق الوطن. تلك العبارات التي ربما حاول بها برهان أن يظهر تجاه القوات المسلحة على أنه صارم في تحقيق مطالب المحتجين لكن الرسالة التي وصلت إلى المعتصمين تقول إن الرجل يراوغ ويناور كما سلفه، غير أن أحدا لم يتحدث عن الخطة الموضوعة سلفا من داخل الغرف المغلقة، والتي تدير دفة الأمور باحترافية عالية بغية الوصول إلى هدف واحد وهو المحافظة على إرث الحركة وعدم إنهيار مؤسساتها الأمنية السرية ودولتها العميقة على أمل العودة من جديد.

الخطة(ب) بدأت تفاصيلها تظهر إلى سطح الأحداث بعد أن أعلن المؤتمر الوطني عن أنه لايزال على قيد الحياة السياسية في السودان، لكنه حسب البيان الصادر منه اليوم أنه يرضى بمصيره المحتوم ويتفهم الخطوة التي أقبلت عليها الأجهزة الأمنية في البلاد، لكنه يطالب فقط بإطلاق سراح قياداته ويرفض الاعتداء على دوره التي تعرضت للتخريب، ويدعو إلى تنظيم الحياة السياسية من جديد من دون إقصاء لأحد .

هذه العبارات التي تنادي بالمصالحة تثبت بما لا يدعو مجالاً للشك أن الحركة الإسلامية وجناحها السياسي رتبا كل ما جرى ويجري الآن فلم يعتد السودانيون طيلة حكم الإسلاميين الذي امتد لثلاث عقود سماع مثل هذه اللغة حول المصالحة، لذلك تم تداول بيان الحزب على نطاق واسع داخل مواقع التواصل الاجتماعي ووجد حيزا من الاهتمام وتحليل العبارات الواردة فيه، فهو يعد كذلك أحد أضلع الخطة المحكمة للعودة من جديد ويكشف طرف المؤامرة التي حيكت في الظلام، ربما دون أن يدرك معدوّ البيان سخرية الوضع. اذ كيف لحزب يزعم أن كل قياداته رهن الاعتقال أن يصدر في ذات الوقت بيانا مُذيّلا بتوقيع “قيادة الحزب”؟ من الذي أصدر البيان إذن؟ وكيف يكون قياديا وفي ذات الوقت يقول إن قيادته في السجن ؟

هل يعيد التاريخ نفسه عندما خدعت الجبهة الإسلامية أي المؤتمر الوطني حاليا - جماهير الشعب السوداني التي انقلبت على السلطة في العام 1989 عبر خدعة “إذهب إلى القصر رئيسا وسأذهب إلى السجن حبيسا” وهي توجيهات أطلقها شيخ الإسلاميين الدكتور الترابي لعمر البشير بغرض التمويه.5

تركة اقتصادية رهيبة

في المقابل فإن قوى الحرية والتغيير وعلى رأسها تجمع المهنيين السودانيين تمارس ضغوطات كبيرة على قادة الجيش السوداني عبر مئات الآلاف من السودانيين ظلوا يرابطون في ميدان الاعتصام الشيء الذي أحدث شللاً شبه تام في العاصمة الخرطوم حيث توقف دولاب العمل في عدد من المؤسسات التي تطل على الميدان، الشيء الذي دفع قيادة الجيش العليا لتقديم تنازلات كبيرة أغضبت الحركة الإسلامية التي تراقب ما يحدث من وراء حجاب فكانت في كل تنازل يتم ترسل عناصر مسلحين من التنظيم العسكري السري يطلقون الرصاص بشكل عشوائي حول وداخل ميدان الاعتصام في محاولة لفك الاعتصام وإرسال رسائل الى قوى الحرية والتغيير والثوار من جهة، وضباط الجيش من الرتب الصغيرة التي انحازت إلى الثورة من جهة أخرى. ثم أنها ظلت، أي الحركة الإسلامية، تهدد عبر كوادر وسيطة داخل المساجد باستخدام القوة والعنف ضد المعتصمين. ورغم أنها أصبحت الآن خارج السلطة، ومع ذلك لا يتم التعامل معها بالحسم اللازم ما يعني أن هنالك تنسيق عالي بينها وبين قادة في الجيش كما ظهر ذلك في محاولتها لفض الاعتصام ، كما أسلفنا.

فالمهم هنا أن قادة قوى الحرية والتغيير الذين يتأهبون لاستلام السلطة في شقها المدني من الجيش سيواجَهون بضغوط عنيفة، ربما تعجل بسقوط حكومة ما بعد الثورة، سيما وأن هذه القوى سترث تركة مثقلة، حيث وصل اقتصاد البلاد إلى مرحلة الانهيار التام، فلقد وصل مستوى التضخم إلى 63% وبلغ حجم الدين الخارجي 50 مليار دولار بنسبة فوائد بلغت 61% وبلغ حجم الدين الداخلي 70 مليار جنيه سوداني فيما طبعت الحكومة في آخر أيامها مبالغ ضخمة من العملة المحلية لسد حجة البلاد من السيولة بعد أن تعرضت العملة إلى سحوبات كبيرة وبلغ حجم الاحتياطي من العملة الأجنبية فقط 1.44 مليار دولار مع وجود ندرة في الدواء خاصة الأدوية المنقذة للحياة وكذلك شح في الوقود . وبالطبع ستتعامل “الدولة العميقة” مع الحكومة الجديدة بسياسة أشبه بالخنق وايقاف شركاتها التي تستورد الدواء والوقود ما يمكن أن يعجل بسقوطها إن لم يفكر قادة تلك القوى بحلول لتلك لأزمات ومحاولة احتوائها بشكل عاجل.

1الدولة العميقة مفهوم يشير الى دولة داخل الدولة، أي مجموعة من الأطراف الملتفة ضمن كيان سري يتخطى السلطة القانونية وله السلطة الفعلية في اتخاذ القرارات.

2الدولة العميقة مفهوم يشير الى دولة داخل الدولة، أي مجموعة من الأطراف الملتفة ضمن كيان سري يتخطى السلطة القانونية وله السلطة الفعلية في اتخاذ القرارات.

3تجمع من النقابات والمنظمات المستقلة المعارضة ينظم الاحتجاجات في السودان

4يعتبر الميدان أمام المقر أيضاً منطقة عسكرية

5ولقد تم إطلاق سراح الترابي بالفعل بعد ذلك، مع بعض قادة الأحزاب الآخرين

6الدولة العميقة مفهوم يشير الى دولة داخل الدولة، أي مجموعة من الأطراف الملتفة ضمن كيان سري يتخطى السلطة القانونية وله السلطة الفعلية في اتخاذ القرارات.