كيف قَوْلَبت الشيوعية الحركة الشيعية السياسية في العراق

ظلت الحركة الشيعية السياسية العراقية لفترة طويلة من الزمن غير متبلورة، مصابة بالوهن، مكمومة، تنتظر ساعتها في الظل. فالشيوعية بصفتها حركة مؤثرة خلال فترة الخمسينات هي التي استوطنت جنوب البلاد الى درجة أصبحت أشبه بدينٍ بديل بالنسبة لغالبية الشيعة الباحثين عن حلول اجتماعية وسياسية. ثم قامت عائلة الصدر بقلب الآية بنشاطها الواسع غير المعهود.

كانت المملكة المتحدة قد حصلت غداة مؤتمر سان ريمو في نيسان أبريل 1920 على انتداب من عصبة الأمم على العراق. ولم يمض شهر واحد حتى واجهت تمرداً نظمه ونشره القوميون المؤلفون أساساً من البورجوازية السنية والقبائل الشيعية في الجنوب. كما دعى المجتهدون، أي رجال الدين الشيعة، الى الجهاد ضد وجود الانتداب. وكان الرهان بالنسبة للشيعة جوهرياً حيث كانت المسألة تتعلق في حقيقة الأمر بالوقوف ضد تشكيل دولة عراقية تحت الوصاية البريطانية في مشروع يرمي الى استبعاد الشيعة من أجهزة السلطة. وبالتالي فلقد تصدر رجال الدين الشيعة النضال المضاد للاستعمار.

وطالبوا بمقاطعة انتخابات المجلس التأسيسي عام 1924. وأجبر البريطانيون الزعماء الروحيين على سلوك طريق المنفى. وبعد أن خضعت لقمع رهيب عادت الأوساط الدينية الى سابق عهدها من تغييب السياسة عن حياتها. وقد أدى أولاً هذا الصمت السياسي الى انكفاء رجال الدين الى نجف وكربلاء ثم الى تراجع نفوذهم إبتداء من ثلاثينات القرن الماضي. وكان عدد طلاب الحوزة العلمية قد انخفض بدرجة كبيرة.

وكانت نتيجة هذا الانكفاء والأفول أن التحقت جماهير الشيعة في العراق بكثافة بأيديولوجيات ذات نزعة اشتراكية وعلمانية بدءاً من أربعينيات القرن الماضي. ولقد شهدت هذه الحقبة نزوح الشيعة من الجنوب باتجاه بغداد والبصرة. يقول لنا رائد فهمي، أمين اللجنة المركزيةللحزب الشيوعي العراقي:“لقد لعب الحزب دوراً هاماً في احتجاجات ملاك الأراضي”ويذكرنا حميد راضي الأمين، المناضل الشيوعي المنفي في الكويت “كان الحزب قوي البنية وكثير النشاط في ظل الملكية”.

شهدت تلك السنوات نزوحاً من الأرياف الى المدن. وتوافد الفلاحون المعدمون على الأحياء الفقيرة الجديدة في بغداد وبدأت بسرعة تستهويهم أفكار المساواة والعدالة التي ينادي بها الحزب الشيوعي. وكانوا أول المنضمين إليه بشكل مكثف. يضيف رائد فهمي:" في بغداد على وجه الخصوص أنشأ النزوح من الأرياف تجمعات سكنية شديدة العوز وبكثافة سكانية كبرى مثل مدينة الثورة (التي حملت بعد ذلك اسم مدينة صدام ثم مدينة الصدر). وكان تواجد الشيوعيين فيها راسخاً، وكانت المطالب الاجتماعية وقتها تعلو على القضايا الدينية وبالتالي استطاع الحزب توحيد الصفوف حول هذه الأزمة الاجتماعية.

كلمتان متشابهتان

ولقد ساهمت الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية والمذهبية في ترسيخ الشيوعية. بالفعل كان جنوب العراق، أي بشكل أساسي السهول الواسعة على ضفاف دجلة والفرات، يأوي المحرومين الريفيين وهم في أغلبيتهم من الشيعة. حيث كانت الفئات الميسورة تتواجد في المنطقة الوسطى وفِي بغداد. يتماشى هذا التوزيع الاجتماعي الاقتصادي مع التركة العثمانية والبريطانية حيث كان للسنة امتيازات اجتماعية واقتصادية وسياسية على حساب الشيعة الذين أهملتهم السلطة بحجة تعصبهم. أما السبب الآخر في نجاح الشيوعية في أوساط الشيعة فلا شك أنه يكمن في التشابه العقائدي في كلا الأيديولوجيتين.

فمفاهيم المساواة ومكافحة الظلم والوقوف بوجه السلطة والدفاع عن المقهورين كلها مفاهيم مشتركة بين الشيعة والشيوعية. يؤكد رائد فهمي:“تتواجد عند الشيعة والشيوعية نفس الفكرة المتمثلة بمكافحة المستغلين” والشيوعيون يستقطبون أتباعهم في المناطق المتواجدة جنوب البصرة والعمارة والناصرية والهلة وكربلاء حيث ينتظرهم جمهور واسع. وفي محاولة إقناعهم لهذه الفئة من الفلاحين الأميين في غالبيتهم، فيؤكد المناضلون على الشبه الكبير في المعتقدات وكذلك في نطق الكلمتين اللتين تتشابهان بين “شيعي” و“شيوعي”. كما يستخدمون شخصية الحسين في أحاديثهم للدلالة على نضالهم ضد الظلم. وإن استطاعت غرسة الشيوعية أن تزدهر في تربة المجتمعات الشيعية أكثر منها في التربة السنية فذلك بسبب وجود بنية هرمية في الهيكل الديني. فالتراتبية في تنظيم الديانة الشيعية على رأسها مرجع، والمرجع له وكلاء في عدة مناطق، ما يجد مثيله في التنظيم السياسي الشيوعي، المبني على شبكة من الخلايا والفروع.

الهجوم المضاد لرجال الدين

كان لا بد من انتظار تاريخ 14 تموز مع سقوط الملكية ووصول طغمة عسكرية الى السلطة عبر انقلاب الجنرال عبد الكريم قاسم لإدراك مدى تأثير النفوذ الشيوعي الذي وصل الى ضباط الجيش. ولكن عندما بدأ الشيوعيون يبسطون نفوذهم في مدينة نجف المقدسة واستطاعوا استقطاب أعضاء من عائلات الأسياد، شعر رجال الدين بأنهم أمام تحد. مازال ضياء الأسدي، وهو مناضل سياسي من أتباع الصدر سابقاً، وزعيم كتلة الأحرار وهي ائتلاف سياسي إسلاموي شيعي، يحتفظ بذكرى تلك الفترة :“كان الجامعيون ورجال الدين من الشيعة يشعرون بالقلق الشديد حيال انتشار هذه الأيديولوجيات غير الدينية. وكانوا فضلاً عن ذلك عاجزين عن محاربتها، لأن هذه الأفكار كانت رايات ترفعها أحزاب سياسية قوية للغاية كالحزب الشيوعي وكذلك تيارات كالقومية العربية (الناصرية) أو البعث العربي. كان الشعور السائد يتراوح بين الخوف والتحدي والدفاع المشروع عن النفس”.

وكان لا بد للشيعة العراقيين من الرد، إلا أن حوزتهم كانت منقسمة على نفسها. فجزء منها كان يتألف من المتدينين المحافظين الذين يوافقون على الانخراط في مناهضة الشيوعية ولكنهم يرفضون الالتزام بالنشاط السياسي. فهؤلاء العلماء يعتبرون أن عليهم الإبقاء على درجة من السكينة السياسية خلال فترة غياب الإمام المنتظر. وخلافاً لهؤلاء، ثمة جزء من الحوزة يود التصدي للدعاية الشيوعية بشكل سياسي ومحاربة نزعة عدم الاهتمام بالدين والتي كانت تتعاظم في البلاد.

في الفترة الأولى كان رد رجال الدين الشيعة بأن أسسوا جماعة العلماء في نجف، بقيادة المرجع محسن الحكيم. وكان أول عمل له أن أصدر فتوى ضد الشيوعية. مما أضعف حلف عبد الكريم قاسم مع الشيوعيين. وقرر العلماء أن يكثفوا التدريس الديني والأنشطة الخيرية، اقتناعاً منهم بأن إقبال الشيعة على الأيديولوجيا المنافسة ناتج عن جهلهم بدينهم. وكان لا بد لبلوغ هذا الهدف من تشييد المدارس والمراكز الطبية. كما وكلف العلماء بعض طلاب الحوزة بالعمل الدعائي (البروباغندا) والعمل التثقيفي. وكذلك بنشر صحيفة الجماعة “الأضواء”. ولقد ساهم عدد من الطلاب بكتابة الافتتاحيات في الصحيفة ومنهم محمد باقر الصدر. وكانت المقالات كلها تهدف الى إثبات تفوق العقيدة الإسلامية على كافة التيارات الفكرية الغربية. وكانت تتوجه الى طلاب شباب من الممكن أن يهتموا بالشيوعية.

التأكيد على السياسة، ثقافةً وعملاً

ولم يكن هذا الرد الأولي للحوزة المقتصر على المجال الثقافي والخيري ليرضي بعض العلماء الشباب والذين حملهم حماسهم لثورة 1958 الى “تأسيس أول حزب سياسي شيعي :”الدعوة. ولقد وضع أسس الحزب السيد محمد باقر الصدر . وهي تتمثل في اقتراح الإسلام كحل لمشاكل الحياة في مجال الحياة الاجتماعية، بدل الشيوعية.

من هذا المنظور وضع محمد باقر الصدر كتابين أساسيين: “اقتصادنا”، و “فلسفتنا”. وتهدف الدراستان الى إعلاء الفكر الإسلامي في مجال الاقتصاد والفلسفة على الفكر المادي. وهذه هي أول مرة يعرض فيها رجل دين نظرة شيعية للعدالة الاجتماعية والفلسفة بأسلوب معروف ومقرب من قراء ماركس. ولقد كانت معرفة محمد باقر الصدر بفكر فلاسفة الغرب والتيارات الفلسفية المعروفة بالعقلانية أو الاختبارية أمراً غير معهود في الأوساط الدينية الشيعية.

هنا يكمن الطابع الفريد لما قام به محمد باقر الصدر. فلقد صمّم، بمعرفته ودراساته المقارنة، على جعل الفكر الشيعي نداً للفكر الشيوعي، وبذلك فهو يمنح المذهب بعداً شمولياً، بمعنى أنه يريد معالجة كل المواضيع الدنيوية التي أهملها رجال الدين في الماضي ومَنْحِها بعداً دينياً كما فعلت السياسة. وبصفته المختص بالحقوق والقانون في الحزب فلقد كانت مهمته الأولى إسباغ الطابع الشرعي على النشاط السياسي من وجهة النظر الدينية، مما أثار غضب المحافظين في الحوزة.

ولقد ذهب محمد باقر الصدر الى أبعد من ذلك عندما طرح برنامجاً سياسياً إسلامياً، غداة الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، وجهه الى القائمين على صياغة دستور الجمهورية الإسلامية الفتية. يقول ضياء الأسدي:" انطوت استراتيجية محمد باقر الصدر على أوجه عدة: كان يشجع مريديه وطلابه على النهل من معين الثقافة السياسة وعلى الاتجاه نحو النضال السياسي. كما تحدى صراحةً نظام صدام و سائر البعثيين. وأيد بكل وضوح الثورة الإسلامية الإيرانية. وضع مؤلفات أصيلة فريدة من نوعها تتضمن نظريته ونظرته للعالم. ولقد قام بثورة عقائدية داخل تنظيم المذهب الشيعي وساهم الى حد بعيد في تسييسه. بحيث باتت كل الأحزاب السياسية الشيعية اليوم تنادي بأفكاره.