شباب العالم العربي : قطيعة كبرى في تاريخ المجتمعات

بفعل بروز الفرد وشروط “التشغيل” الجديدة، فلقد حصلت قطيعة كبرى مع الماضي في مجتمعات الشرق الأدنى والمغرب العربي، ولكن هذا التحول يتعثر بسبب غياب الآفاق الاقتصادية والسياسية على حد سواء.

من جداريات الشارع (ستريت آرت) في مدينة أصيله في المغرب

جاك ولد عاودية خبير اقتصادي. عمل حتى سنة 2011 بوزارة المالية الفرنسية على دراسة العلاقة بين المؤسسات والتنمية، خاصة في البلدان العربية المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط. وهو اليوم عضو في المنظمة غير الحكومية “هجرات وتنمية” التي أنشأها عام 1986 مهاجرون مغربيون يعيشون في فرنسا، من أجل النهوض بمسقط رأسهم. كتب ولد عاودية مقالات عديدة ونشر مؤخرا كتابا بعنوان “Sud ! un tout autre regard sur la marche des sociétés du Sud” “جنوب! نظرة مغايرة كليا لمسيرة مجتمعات الجنوب” من منشورات دار لارمتان. أجرت المقابلة خديجة محسن فينان. خديجة محسن فينان: تشهد مجتمعات جنوب البحر الأبيض المتوسط تحولات جذرية، يدفع الشباب ثمنها الباهظ. ماهي التحولات التي تسجلها؟

جاك ولد عاودية : تشهد مجتمعات جنوب البحر الأبيض المتوسط منذ بعض العقود تحوّلين كبيرين يؤثران فعلا، وبصفة رئيسية، على فئة الشباب. وتشمل هذه التحولات العميقة مناطق أخرى من العالم الذي نسميه “النامي”، مع مراعاة الفوارق المرتبطة باختلاف البيئة. أولا، نلاحظ بروزا للفرد على نطاق واسع، وتشكل هذه الظاهرة قطيعة هامة للغاية مع مسيرة المجتمعات المعهودة. أما التحول الآخر، فهو يشمل قوانين “تشغيل” النساء والرجال، تحت تأثير الثورة الرقمية. يخلق كل من هذين التحولين اضطرابات عميقة في أسس التنظيم الاجتماعي، إن كان ذلك على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي... وهي اضطرابات لا يأخذها القادة السياسيون بعين الاعتبار، خاصة وأن الفئات الشابة، كما قلنا، هي أكثر من يتأثر بها.

خ. م .ف: ماهي أسباب هذه التحولات؟

ج. و. ع. : فلنبدأ أولا ببروز الفرد على نطاق واسع، وهو أمر يأتي من ثلاثة عوامل أساسية: تسبب انتشار التعليم (رغم نقائصه النوعية) في نمو أسي لعدد الأشخاص الذين يتمتعون بتربية “حديثة”. العامل الثاني هو التحضّر، والذي يميل إلى تمييع أسس التنظيم الاجتماعي التقليدي. أما العامل الثالث، فهو تعميم الوصول إلى الوسائل الرقمية لمتابعة الأخبار والتعبير عن الرأي. صار لملايين الأشخاص، ولا سيما الشباب، صوت، وأصبح بوسعهم إسماع هذا الصوت خارج محيط أحياءهم، بطريقة فردية أو جماعية، لما فيه الأفضل أوالأسوأ أو مجرد المبتذل. مثلا، عند استقلال المغرب سنة 1956، كان عدد الأشخاص الحائزين على شهادة باكالوريا فما فوق 450 شخصا. أما اليوم، فنجد مئات آلاف الأشخاص الذين يجيدون القراءة والكتابة، ولهم بذلك القدرة على إسماع صوتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. يبرز الفرد “المتصل” من التقاء هذه العوامل ويستكشف فضاءات من الحرية يفوز بها على حساب التصرفات المفروضة عليه سابقا.

علاوة على ذلك، هناك قطيعة في طرق نقل المعرفة: إذ بوسع الجميع اليوم، وفي كل مكان، الاطلاع على الأخبار والتحاور خارج أطر الأسرة والحي والمدرسة. أصحاب المعرفة باتوا أقل شأنا، فالجميع يمتلك المعرفة، ما يعطي وهما بالاستقلالية والوجود الفردي. وهذه بيئة خصبة لترعرع الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة والتجنيدات الراديكلية.

لكن غياب الفرص الاقتصادية والاجتماعية وفرص المواطنة تحول دون اكتمال تبلور الفرد، مقارنة بالكفاءات والقدرات الجديدة التي اكتسبها. ما يسفر عن إحباط عميق لفئة الشباب، وهو الأمر الذي يمثل مصدرا محتملا لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المنطقة.

يتعلق التحول الكبير الآخر، والذي يمس العالم بأسره، بتنظيم الشغل. عندما اختُرع العمل مقابل أجر منتظم في إنجلترا في القرن التاسع عشر، مثل ذلك تقدما رائعا هزّ علاقات الشغل التي أصبحت خاضعة للقانون. وقد تطورت النصوص بفضل الكفاحات النقابية، للحد من عدم المساواة بين رب العمل والعامل. بالنسبة لنا كمحللين اقتصاديين مختصين في التنمية، كنا نؤمن بضرورة تعميم نظام العمل المأجور ليشمل جميع المجتمعات. وكنا نظن أن العمل غير الرسمي من الرواسب التي ستنحل ثم تختفي. لكننا أخطأنا خطأ فادحا.

انطلاقا من سنوات الألفين، حصل تغيير هام في الاقتصاد العالمي، إذ انفصل النمو الاقتصادي عن نمو سوق العمل. وتعمق الشرخ بعد أزمة 2008، بعد أن نجحت السياسات الليبيرالية في كسر الرابط الموجود بين هذين المسارين، معمقة بذلك انعدام المساواة كما نراه في جميع البلدان، جنوبا وشمالا. في البلدان الموجودة شمال البحر الأبيض المتوسط، نجد نسبة نمو ضعيفة بشكل مستديم ، ونموا أضعف لسوق العمل، لا يخفض من البطالة الجماعية. لكن هذا التصور لا ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية، لأن سيطرة الدولار المتواصلة تجعل العجز (الحكومي والخارجي) -الذي لا يخضع لحكم الأسواق - يسمح بوجود سياسات اقتصادية كبرى تشجع على التشغيل.

نسبة أصحاب الأجور في القطاع الرسمي ضعيفة جدا في بلدان الجنوب. مثلا، في المغرب، لا نجد سوى مليونين من الأجراء الشرعيين، من مجموع 12 مليون من الساكنة النشيطة، من بينهم 0,8 مليون في الوظيفة العمومية.

حاليا، ترتفع في كل مكان نسبة العمل خارج إطار الأجر المنتظم، لكن هذه الظاهرة أكثر اتساعاً في الجنوب. ولا تتمتع فرص العمل هذه في غالبيتها بأي حماية اجتماعية. يمثل امتداد نموذج “أوبر” الاقتصادي إلى باقي الأنشطة المهنية رمزا لهذا التطور. ويرتبط خاصة ارتفاع النشاط غير الرسمي بالثورة الرقمية الجارية (امتداد نموذج المنصات الرقمية). هذه بيئة معادية جدا للشباب الذين يتقدمون إلى سوق الشغل، سواء كانوا حاملي شهادات أم لا.

خ. م. ف: كيف يتحرك الشباب في بيئة كهذه؟

ج. و. ع : ليس للشباب خيار آخر سوى “تدبر أمره” والتصرف “بدون”. بدون المؤسسات العمومية التي لا تضع سوى القليل من الأجهزة الفعالة لخدمتهم، وبدون الشركات التي لا تشغلهم، وبدون الأحزاب والنقابات التي لا تأخذهم بعين الاعتبار. وعندما يهاجرون، فهم يفعلون ذلك بدون أوراق.

هم يتصرفون بدون، وكذلك المؤسسات التي هي بأيدي أصحاب المنظومة والتي تتصرف بدونهم. في وضع كهذا، يتلاشى الحد الفاصل بين القانوني وغير القانوني ويفسح المجال أمام التجارة غير الشرعية لمنتوجات شرعية (التهريب)، والتجارة غير الشرعية لمنتوجات غير شرعية (المخدرات، البشر)، وصولا إلى الانزلاق في التطرف والعنف.

نقاط العنف التي تشهد على هذا الوضع هي إحراق محمد البوعزيزي لنفسه في سيدي بوزيد بتونس في 17 كانون الأول / ديسمبر 2010، والشباب الذين يموتون وهم يحفرون خلسة مناجم جرادة في المغرب، وساكن منطقة الريف في المغرب الذي يريد بيع سمكه مهما كانت التكاليف ودون طلب التراخيص اللازمة. كذلك بالنسبة لأعمال التدمير الذاتي من خلال ارتفاع حالات الانتحار عند الشباب، أو الـ“حرّاق” الذي يركب قاربا نحو الضفة الشمالية رغم خطر الموت...

تشكل هذه التصرفات خطرا بالنسبة للنخب السياسية. والتحدي هنا اقتصادي ومالي وكذلك أمني. على المستوى الاقتصادي، تعود المنافسة التي تقوم بها هذه النشاطات غير القانونية سلبا على الشركات الرسمية، بينما تشهد الدولة انخفاضا هاما لمواردها. لكن الخطر الرئيسي الذي يحدق بتوازن المجتمعات المغاربية يكمن في فقدان الثقة بالمؤسسات العمومية وما يعنيه ذلك من مخاطر أمنية ممكنة.

خ. م. ف :هل نحن أمام أشكال جديدة من الاحتجاج ؟

ج. و. ع : ما نلاحظه هو الإبداع الذي ينبثق من أشكال الاحتجاج الجديدة التي تولد خارج المنظمات التقليدية مثل الأحزاب والنقابات. ونرى، إلى جانب الصراعات العديدة من أجل العدالة الاجتماعية التي تنشب باستمرار في بلدان المغرب الثلاثة ، ظهور أشكال تحرك جديدة تؤكد على سلميّتها، ما يعني أن هذه المجتمعات استوعبت صدمة العنف الجماعي التي سببها الإسلاميون.

أشكال احتجاج جديدة إذن. منها مثلا مقاطعة المنتوجات التي ترمز إلى انعدام العدالة الاجتماعية في المغرب والتي قادتها الطبقة الوسطى الحضرية على نطاق واسع، قبل أن يتداولها المجتمع بأسره، لا سيما الشباب، من خلال استعمال الفكاهة عبر شبكات التواصل الاجتماعي. كذلك الأعمال الجماعية مثل ما فعله أحباء نادي الرجاء البيضاوي الذين يغنون في الملاعب أغنية “في بلادي ظلموني” : “في هذه البلاد نعيش في غيمة / نطلب السلامة [...] صرفوا علينا ثمن الحشيش لتكميمنا / وتركونا كاليتامى [...] ضيعتم مواهب بتخديركم لها / أكلتم كامل ثروات البلاد / وأعطيتموها للغرباء / وقمعتم جيلا بأسره [...] اخترعتم الخوف لحكمنا / وضيعتم حياتنا وعملنا ودراستنا / كم اتهمتمونا بالشغب وجازيتمونا بأشهر من السجن”.

الفقر والبطالة والهجرة غير الشرعية وانعدام المساواة الاجتماعية هي المواضيع التي يتطرق إليها مغنو الراب المغاربة والتي يرددها بكثرة شباب البلدان الثلاثة وحتى غيرهم. فقد شهدت أغنية الرجاء البيضاوي انتشارا واسعا عبر الانترنت على جانبي البحر الأبيض المتوسط، وعيد غناؤها في تونس ( أما في الجزائر، فقد رددها المتظاهرون بأعداد هائلة خلال المسيرات الأخيرة).

خ. م.ف : ماذا يمكن أن نستنتج من هذه التحولات الجذرية؟

ج. و. ع : لقد وثّقت أبحاث عديدة في مجال العلوم الاجتماعية هذه التحولات. لكن ما لم يوثق بما فيه الكفاية هو التفاعل بين هذه الظواهر التي يمكن أن نضيف إليها نزعة التدين الإسلامي في فئة من المجتمعات ذات الثقافة المسلمة. فكيف سيتم التوفيق بين ظهور الفرد وأساليب التعبير الشبابية الجديدة من ناحية وهذه الهيمنة الدينية من ناحية أخرى؟ وإن لم تقدم السياسات العمومية إجابة على عدم الثبات المتفاقم في عالم الشغل وعلى المظالم التي يجري التنديد بها، فكيف يمكن المحافظة على ثقة الشباب في المؤسسات، وبصفة أوسع على ثقة جميع السكان؟ لم يعد البحث عن “نموذج جديد للتنمية” يكون أكثر إدماجا لكافة فئات الشعب مسألة خيار، بل بات ضرورة ملحة.