في 2 أكتوبر/تشرين الأول دخل جمال خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على الأوراق المطلوبة لزواجه، وكانت خطيبته تنتظره عند الباب. ولكنه لم يخرج منها أبداً. بعد إدلائها بروايات متناقضة في البداية أقرت السلطات السعودية بأن الصحفي قد قُتل فعلاً داخل مبنى القنصلية ولكنها زعمت أن من قام بالعملية هم عناصر مارقة وأن السلطات العليا لم تكن على علم بأي شيء. إلا أن أحداً لم يقتنع بهذا الشرح. آنياس كالامار، التي عملت سابقاً في الأمانة العامة لمنظمة العفو الدولية، ومديرة لمنظمة المادة 19، والتي تشغل حالياً وظيفة المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالإعدام خارج القضاء أو بإجراءات موجزة أو تعسفية ، قامت بتحقيق حول جريمة القتل هذه. وتعاونت في ذلك مع دوارت نونو فييرا، الخبير في الطب الشرعي وبول جونستون، الخبير في التحقيقات الجنائية وهيلينا كندي، المتخصصة بحقوق الإنسان. ولقد نشرت نتائج التقرير اليوم في 19 يونيو/حزيران على الانترنت، وسوف تقدمها رسمياً لمجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة في 26 من الشهر الحالي. مجلة أوريان 21 طرحت عليها بعض الأسئلة حول نتائج عملها.
أوريان21 : هل يمكن أن تقولي لنا في البداية من هم الأشخاص الذين قابلتيهم والأماكن التي زرتيها؟
آنياس كالامار: لقد بدأت تحقيقي في شهر يناير/كانون لبثاني 2019. كانت رحلتي الأولى الى تركيا وتبعتها سفرات الى كل من باريس ولندن وبروكسل وبرلين وأوتاوا. ثم عدت مجدداً الى إسطنبول. التقيت بممثلي الحكومات. في تركيا التقيت المسؤولين عن التحقيق، ولا سيما المدعي العام وأعضاء في فريقه. كما التقيت ببعض أصدقاء الخاشقجي وزملائه ، وخبراء أكاديميين وممثلين لحكومات مرتبطة بالسعودية. وقد أجريت ما يقرب من مائة مقابلة.
أوريان21: هل كانت تركيا المكان الذي حصلتِ فيه على أكبر عدد من المعلومات القيمة؟
آ.ك.: بالفعل، لأنها المكان الذي حصلت فيه الجريمة. ولقد حصلت على تسجيلات عملية القتل، أو بالأحرى على 45 دقيقة منها. وحسب معلوماتي لدى السلطات المحلية عدة ساعات من التسجيل. ولا بد من التنويه بأن هذه الأدلة مرتبطة على الأرجح بعمل الاستخبارات التركية، حتى لو لم تقر السلطات التركية بذلك. ثمة فرق ما بين الأدلة القانونية وعمل الاستخبارات. والخبراء الذين تحدثت معهم لديهم آراء متباينة حول الموضوع: فالبعض يعتبرها انتهاكاً لاتفاقية فيينا حول العلاقات القنصلية، في حين يعتبر البعض الآخر أن ممارسات المراقبة والتنصت أصبحت من الشيوع بحيث لم يعد بالإمكان اعتبارها غير شرعية، ولكني أختلف معهم في هذه النقطة. فنحن لا ندري كيف تم الحصول على هذه التسجيلات وإن كانت مقبولة قانوناً في حال حصلت محاكمة ؟
أوريان21 : هل استطعت الحصول على معلومات من بلدان غربية، ولا سيما من السلطات الأمريكية؟
آ.ك.: حصلت فعلاً على معلومات، أشكر ها عليها. فلقد سمحت لي بتوثيق العديد من الاتهامات التي صدرت من تركيا حول الاغتيال. إلا أنني لم أستطع الحصول على ما تم تسريبه في الصحافة الأميركية حول تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية يدين ولي العهد محمد بن سلمان. فوحده الصحفي الذي نشر هذا الخبر يعرف المصدر ولا يستطيع طبعاً أن يتيح الوصول إليه وأشير في تقريري الى هذا المقال ومقالات أخرى من المفترض أنها تُلقي الضوء على ذهنية ولي العهد حيال الخاشقجي قبل حدوث الجريمةولكن ليس بمقدوري اعتبار هذه التسريبات أدلة تتصف بالمصداقية. وبالتالي ليست لدي معلومات كي أستنتج منها أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهكت واجب حماية الخاشقجي وتنبيهه الى المخاطر المحدقة به.
أوريان21: لقد رفضت المملكة العربية السعودية استقبالكِ وأكدت أن المسألة شأن داخلي.
آ.ك.: أنا أعترض على اعتبار المسألة شأناً داخلياً. أولاً الجريمة حصلت على أراضٍ أجنبية. وطالت شخص يعيش في المنفى. يعتبر اغتيال الخاشقجي جريمة دولة وانتهاكاً للقانون والعلاقات الدولية. لقد انتهكت السعودية حقوق الإنسان و حظر الحرمان تعسفياً من الحياة ووهو حظر يعتبر من “القواعد الآمرة” ، أي أنه مُلزِم في القانون الدولي. كما انتهكت السعودية اتفاقية فيينا حول جهة استخدام القنصليات، ومبدأ امتناع الدول عن استخدام القوة خارج أراضيها كما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة في المادة 2 البند الرابع، وهي التزامات سارية على جميع الدول، ملزمة للمجتمه الدولي باسره. كما أن ثمة انتهاك لحظر التعذيب والاختفاء القسري. وفي هذه الحال من الهراء اعتبار اغتيال الخاشقجي شأناً داخليا . ثم أن الجريمة هذه احتلت صدارة جدول الأعمال السياسي الدولي لأشهر متتالية وأثارت اهتماماً كبيراً في المجتمع الدولي.
أوريان21: لقد أعلنت السعودية مع ذلك عن توقيفها لعدد من الأشخاص وبدأت محاكمتهم وثمة عدد من السفراء يحضر الجلسات.
آ.ك.: هذه المحاكمة لا تراعي المعايير الدولية. يمثل للمحاكمة 11 شخصاً من أصل عشرين تم توقيفهم في البداية. أما لِمَ أُطلق سراح الآخرين فهذا ما لا نعلمه. يبدو أن المدعي العام قد ركّز على من كان حاضراً لحظة ارتكاب الجريمة في القنصلية. كما أن الجلسات كانت مغلقة برغم من الطابع الجسيم للجريمة. ولم يتم الإفصاح عن هوية هؤلاء الأحد عشر ولكنني أسميهم بالاسم في تقريري، وخمسة منهم يواجهون الحكم بالإعدام. ولقد منحت السعودية تركيا والأعضاء الخمس الدائمي العضوية في الأمم المتحدة إمكانية إرسال مراقبين. ولقد اضطر هؤلاء للخضوع للطلب الموجه إليهم بالسرية التامة. في حين أنه من المفترض أن يضفي وجود المراقبين شيئاً من المصداقية على نتائج المحاكمة. ولكن إن لم يكن لهؤلاء الحق في التعبير عن الرأي فوجودهم لا يضفي أي شرعية على المحاكمة. والشيء المريع بل والصادم هو أن وجود السفراء الخمس الأعضاء في مجلس الأمن قد يقحم منظمة الأمم المتحدة نفسها في خطأ قضائي. أنا لا أفهم كيف يمكن للدول الأعضاء ألا تعرب عن قلقها حيال مشاركة هؤلاء في محاكمةٍ لها جميع خصائص المحاكمة غير المنصفة.
أوريان21: يبدو أن أحد المتهمين، سعود القحطاني، وهو من المستشارين المقرّبين من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قد أفلت من أي ملاحقة قضائية.
آ.ك. : حتى الآن...تقريري يهتم بمسؤولية الدولة أكثر من اهتمامه بالمسؤوليات الفردية. والسعودية تنفي أن يكون في الأمر جريمة دولة ولكن جزءاً كبيراً من التقرير يبرهن العكس. ولكن من يمثل الدولة؟ استناداً لما أُعطِيتُ من معلومات فإنني أقترح أن يتم تحقيق أكثر تعمقاً لاحتمال وقوع مسؤولية جنائية على اثنتين من الشخصيات الرسمية، ألا وهما القحطاني ومحمد بن سلمان، ولي العهد. ليس بإمكاني أن أجزم بمسؤوليتهما الجنائية ولكن ثمة ما يكفي من الأدلة التي تدعو لفتح تحقيق متعمق. القحطاني متورط شخصياً في عدة انتهاكات لحقوق الإنسان. فلقد ورد ذكر اسمه في قضية اختطاف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. وكذلك الأمر في احتجاز الأمراء ورجال الأعمال في فندق الريتز كارلتون. ومجدداً في توقيف وسجن نساء من المجتمع المدني، واستخدام التعذيب بحقهن. أما “رئيس الفريق” الذي توجه الى إسطنبول، ماهر عبد العزيز مطرب، فكان يعمل مباشرة تحت أمرة القحطاني. ولقد اعترف المدعي العام السعودي نفسه في بلاغ بتاريخ 15 نوفمبر/تشرين 2018 أن القحطاني متورط بشكل مباشر بالعملية، بما أنه طلب من الفريق أن يعود بالخاشقجي الى السعودية بحجة أنه يمثل تهديداً للأمن القومي. وليس لدي أدنى شكل بأن الجريمة كانت مدبرة مع سابق الإصرار والتصميم حتى لو كان الخيار المفضل في البداية كان اختطاف الخاشقجي. وكون القحطاني قد أقيل من منصبه كمستشار في البلاط الملكي يدل على أن السلطات السعودية تعتبر أن له ضلع فيما حدث. والشخص الثاني الذي يتوجب فتح تحقيق بشأنه هو ولي العهد نفسه. والتقرير الذي وضعته يضع في المقدمة أدلة ظرفية، أي أن العملية التي استهدفت الخاشقجي لا بد من وضعها في نصابها فهي مرتبطىة بحملة دقيقة التنظيم والتنسيق ضد صحفيين ونساء ناشطات و أمراء ورجال أعمال, وعلى أقل تعديل لقد أيد ولي العهد هذا السلوك وسمح بتكرار الجرائم وتفاقمها. لم يتخذ أي إجراء من شأنه الحيلولة دون ارتكابها أو معاقبة مرتكبيها. وبالتالي فلقد جازف ولي العهد عمداً باحتمال تكرار ارتكاب جرائم أخرى كقتل الخاشقجي، سواءً أكان هو الذي أصدر الأمر مباشرة بارتكاب هذه الجريمة أم لم يكن.
أوريان21: كيف تفسرين أنه لم يتم العثور على الجثة؟
آ.ك.: يؤكد السعوديون أنهم سلموا الجثة لأحد وكلائهم في تركيا وأن هذا الأخير قد اختفى، وهو تفسير غريب، فالجميع يعلم أن الأتراك لديهم نظام من الرقابة المكثفة في شوارع إسطنبول ولقد أكدوا لي أنهم، بعد مشاهدتهم ل3000 ساعة من التسجيلات تعقبوا فيها أثر كل أعضاء الفريق، واحداً واحداً، لم يشاهدوا أياً منهم “يسلّم” أي وكيل رزمة كتلك المشار إليها. ربما جرى تدمير الجثة كلياً.
أوريان21: هل استطعتِ التحقيق في تهم أخرى موجهة للسلطات السعودية فيما يتعلق بمحاولات اختطاف المعارضين؟
آ.ك.: نعم، لأنني حاولت أن أفهم السياق العام. وثمة أدلة على استخدام الرياض وسائل غير شرعية لمراقبة المعارضين. ذلك مؤكد قبل حدوث الجريمة، فعلى سبيل المثال عندما جرى اختراق هاتف أحد المساعدين المقربين جداً من الخاشقجي. ولكن ما يثير القلق على نحو أكبر هو ما أشار إليه منذ شهر تقريباً معارض سعودي لجأ الى النرويج فيما يتعلق بتهديدات ضده ويبدو أن مصدر هذه المعلومات هو وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي طلبت من المخابرات النرويجية حمايته. وهذا يؤكد أن السعودية لم تغير سلوكها منذ قضية الخاشقجي في حين أن القانون الدولي يلزمها بعدم تكرار هذا الأمر . كان من المفترض أن يثير اختطاف سعد الحريري في نوفمبر/تشرين الثاني حفيظة المجتمع الدولي فما من مثال آخر في التاريخ على اختطاف رئيس وزراء دولة على يد دولة أخرى. وهو شيء لا يصدق ولكن ما يصعب تصديقه بدرجة أكبر هو غياب ردود الفعل الدولية حتى لو استطاعت فرنسا أن تعمل على إطلاق سراحه في نهاية المطاف. كما لو كان الجميع يعتبر أن مثل هذا التصرف هو من طبائع السعودية، ولا بد من قبوله.
أوريان21: ماهي توصيات التقرير الذي وضعتيه؟
آ.ك.: بما أنه لم يوكل إلي أن أقوم بتحقيق جنائي دولي، فإنني أحث الأمين العام على تشكيل فريق من الخبراء القادرين على القيام بهذه المهمة، وتجميع ملف حول كل شخص من الأشخاص المتخذ بحقهم قرار اتهام. كما وأحث السعودية على وقف المحاكمة الحالية وعدم استئنافها إلا بمشاركة المجتمع الدولي واستناداً الى تحقيقات معمقة بشأن كل المشتبه بهم. لا بد أن تقر السعودية بمسؤوليتها عن التنفيذ، وهو الشيء الذي لم تفعله حتى الآن. لقد فرض عدد من الدول بعد اغتيال الخاشقجي عقوبات محددة الأهداف على عدد من المسؤولين السعوديين. إلا أن الجريمة هي جريمة ارتكبتها الدولة. وهذه العقوبات الفردية الموجهة الى 17 شخصاً لها مفعول ستار من الضباب يحجب مسؤولية السعودية. كما أن هذه العقوبات لا توفر الأجوبة الضرورية حول قضايا أساسية كالتسلسل القيادي والمسؤوليات التي تقع على كبار المسؤولين فيما يتعلق بتنفيذ العملية. ونظراً للقرائن الموثوق بها والتي تشهد بأن لولي العهد مسؤولية في اغتيال الخاشقجي فإنني أوصي بأن تشمل العقوبات أيضاً ولي العهد وممتلكاته في الخارج الى حين إبراز اثباتات مؤكدة ومعززة بأن لا مسؤولية عليه في تصفية الخاشقجي. وبشكل عام لقد أبرز هذا التحقيق مدى تعرّض الصحفيين والمعارضين للخطر ، حتى عندما يلجؤون الى المنفى. ولا بد بالتالي أن تعيد السلطات في بلدان اللجوء النظر في سياساتها بحيث تضمن حماية اللاجئين إليها. كما أن للأمم المتحدة دور تلعبه، بأن تسعى للحصول على الوسائل الكفيلة بإجراء تحقيقات حول الاغتيالات الموجّهة. أقترحُ وضع آلية تحقيق مستديمة لإجراء تحقيقات حول جرائم القتل وحوادث الاختطاف، على نسق ما هو موجود حالياً، مثلاً فيما يخص الجرائم في سوريا كما أوصي المجتمع الدولي بأسره أن يخصص اعتمادات مالية لدعم مشاريع وبرامج ترمي لحماية حرية الرأي والتعبير وحرية وسائل الإعلام في منطقة الخليج وأن يُنشأ صندوقاً يحمل اسم جمال خاشقجي بهدف تأييد حرية التعبير والديمقراطية في الشرق الأوسط.