بدأت الإشاعة في الرباط في عصر يوم الجمعة في 23 تموز/يوليو 1999، وسرت في الديار الثرية في أحياء سويسي وبير قاسم التي تقطنها النخبة السياسية والعسكرية، ثم راحت تتضخم شيئاً فشيئاً: الملك الحسن الثاني، الذي حكم بقبضة من حديد خلال 38 عاماً 30 مليون نسمة، يقال إنه تُوفّي! وفِي الساعة الرابعة بعد الظهر، علق التلفزيون الرسمي برامجه ليبث تلاوات من القرآن دون انقطاع، وهو الأمر الغريب في عزّ الصيف في المدن الساحلية التي يتوافد عليها السكان ويستمتع فيها السواح والمهاجرون العائدون من مهجرهم خير استمتاع بالعطلة في البلد. وبعد ذلك بساعات تحولت الإشاعة المستمرة الى خبر رسميّ: فجأة ظهر على شاشة التلفزيون وجه أحد الأبواق الإعلامية الشهيرة، مذيع الأخبار المسائية دون منازع، مصطفى العلوي. بدا مطرقاً، شاحب اللون، وأعلن بصوت متهدج من الانفعال: “تُوفّي سيّدنا” ثم أجهش بالبكاء.
ويبدو أن الحسن الثاني لفظ أنفاسه الأخيرة في الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم، في القسم الملكي في الدور السابع من مستشفى ابن سينا في الرباط، بعد تسعة أيام فقط من حلوله ضيف شرف على صديقه جاك شيراك في احتفالات الرابع عشر من تموز/يوليو، على جادة الشانزيليزيه. وكان إبناه يحيطان به على فراش الموت، وكذلك وزير داخليته الجبار دريس البصري. هكذا أسدل الستار على الطاغية، “صديق” فرنسا الذي ولد بين الحربين العالميتين: ومن غرائب الصدف أن توافق نهايته نهاية القرن. قرن مغربي.
عودة الى ملكية لا شراكة فيها
كان في سن ال 32 عندما اعتلى العرش. في هذا المجال أيضاً سرت الإشاعات المثيرة للغاية: قيل عنه إنه خلال إحدى العمليات الجراحية التي كان يخضع لها الملك محمد الخامس، طلب من طبيب التخدير السويسري “أن يزيد عيار الجرعة” لوالده، البالغ من العمر وقتها 51 عاماً فقط، للتسبب بوفاته. والهدف من ذلك؟ ضرب زعماء الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنشق عن حزب الاستقلال بحركة قادها المهدي بن بركة عام 1959، حين كان الحزبان على وشك ابتلاع السلطات الملكية ليجعلا من الملك مجرد لاعب رمزي. ولا بد من التذكير هنا بأن كل من الحزب الوطني الذي يحمل اسم الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية كانا يتصرفان تصرف “الحزب الأوحد” وأن عنجهية القادة (من علال الفاسي الى فقيه البصري مروراً بالمهدي بن بركة) لم تكن تقلّ عن أرادتهما السيطرة على الحياة السياسية بأسرها. وكان هؤلاء لا يترددون خلال اجتماعات الحكومة في إذلال السلطان علناً أمام ابنه الذي كان ولياً للعهد، كما ذكر بعض الشهود من تلك الفترة.
ومن أجل وضع حد لهيمنة أولئك الوطنيين المتعطشين للسلطة والمتمرسين في السجالات السياسية المحترفة، قرر الملك الاستناد الى النخبة السياسية والإدارية، وخاصة العسكرية، من الناطقين بالبربرية والموالين لفرنسا والمعادين بشدة لحزب الاستقلال. ولقد تدرب هؤلاء على يد الفرنسيين ابتداءً من الثلاثينات في القرن الماضي في كلية أزرو البربرية، في قرية أزرو المعششة في قلب سلسلة جبال الأطلس المتوسط. وكان خير من يجسد هذه النخبة المدعو...محمد أوفقير.
ولقد شكل هذا الأخير مع العاهل ثنائياً مثيراً للرهبة: أسسا القوات التي أصبحت فيما بعد القوات المسلحة الملكية عام 1958 وقاما في العام نفسه بقمع حركة تمرّد في الريف، شمال البلاد، كانت تنادي بانتمائها لعبد الكريم، الأسطورة الحيّة آنذاك، حيث كان قد نفي الى القاهرة، قبل أن يموت ويدفن فيها عام 1963.
سنوات الرصاص
لقد شكل موت محمد الخامس علامةً على انتهاء حقبة تاريخية وابتداء حقبة أخرى، سُميت فيما بعد ب “سنوات الرصاص”. قمعٌ بلا رحمة للمعارضين من الوطنيين. واتخاذ أحكام قاسية ببعضهم ودفع البعض الآخر الى المنفى وأشهرهم المهدي بن بركة، أستاذ الرياضيات الأسبق للحسن الثاني، وغيرهم الكثير، ممن اختفى أثرهم.
وبالنسبة للحسن الثاني، كان لا بد من تغليف الاستبداد بحلة من القانون. فأصدر عام 1962 دستوراً “مفصلاً على المقاس”، صاغ مواده المفكر الدستوري الفرنسي موريس دوفيرجي. ولقد استلهمه الى حد بعيد من دستور الجمهورية الخامسة، مع فارق واضح في حالة الملك، الذي جعله يستولي في الوقت نفسه على سلطات رئيس الدولة وسلطات رئيس الوزراء مجتمعةً. كما وأعلن نفسه أميراً للمؤمنين، وهو الوضع الديني الذي يجعله “شريفاً” لا يمس، بل و“اكتشف أنه يتحدر مباشرة” من سلالة النبي محمد.
ولكن سرعان ما تدهورت الأوضاع الاجتماعية في منتصف الستينات وباتت لا تطاق. في الدار البيضاء، عصب الاقتصاد المغربي، قوبل التلامذة الذين كانوا يحتجون في مارس/آذار على مذكرة تعميم تضع حداً أقصى للانتساب الى الثانوية، قوبلوا بقمع دموي، وقع خلاله مئات القتلى من الشباب في أيام معدودات. وفِي شهر حزيران من العام نفسه حل الحسن الثاني البرلمان وأعلن حالة الطوارئ. هكذا حكم الحسن الثاني رعيته كديكتاتور روماني. ونشأ من جراء ذلك فراغ مؤسساتي سحيق وتعرقلت اللعبة السياسية فكادت تتوقف تماماً وأُفرغت من معناها. بعد ذلك بأيام، أعلن الحسن الثاني أمام حاشيته أنه “بحاجة لأستاذه الأسبق في الرياضيات لإيجاد الحل لإحدى المعادلات”. وفِي 29 أكتوبر من العام نفسه، اختُطف المهدي بن بركة في وضح النهار في باريس في الساعة الثانية والنصف ظهراً ويرجح أنه اغتيل. ولم يتم العثور على جثته بعد ذلك. إلا أن الحسن الثاني، بسحقه قوى المعارضة كافة، جعل حوله فراغاً سياسياً خطيراً كاد يودي بعرشه.
تورط الجميع في الانقلاب
في العاشر من شهر يوليو 1971، غداة عيد ميلاده وفيما كلن يقيم حفلة عارمة مع عدد من المدعوّين، على مساحات العشب الأخضر في قصر سخيرات، محطة الاستجمام التي تبعد 40 كيلومتراً عن العاصمة الرباط، تمت محاولة انقلاب عسكري قامت بها النخبة العسكرية التي كان يستند إليها. ولقد كان أوفقير على الأرجح على علم بالمحاولة إلا أنه “أنقذ” الملك بالاختباء معه في دورة المياه. وبعد نجاته وقلب الأوضاع لصالحه أعلن الحسن الثاني أنه “سيغير من نهجه في الحكم”. ولكن بعد مضي أقل من عام على ذلك التاريخ، تعرض الملك مجدداً لمحاولة انقلاب ثانية. فعلى طريق عودته من باريس، اعترضت مقاتلاتٌ جوية الطائرة التي كانت تُقِلّه، إلا أن الطائرة حطت بنجاح على المدرج دون أضرار جسيمة. اتضح هذه المرة ضلوع أوفقير بالمحاولة. وقيل إنه انتحر على إثر ذلك... بخمس طلقات نارية... في ظَهْره.
لكن أوفقير لم يتورط وحده في تلك المحاولة. ففي رسالة تعود الى عام 1972، نشرتها أسبوعية “لوجورنال” في ديسمبر 2000، كان الفقيه البصري أحد رفاق المهدي بن بركة في المنفى قد كتب لرفاقه في الحزب، عبد الرحمن اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد قائلاً: “كل شيء جاهز مع الجنرال أوفقير”، لتنفيذ العملية العسكرية ضد الحسن الثاني.
لقد أضعفت المحاولتان في أقل من سنة الحسن الثاني الى حد كبير، فقرر أن يعلن دستوراً جديداً في نوفمبر 1972، ولكن دون جدوى: فلقد قاطعت الدستور غالبية الأحزاب. وظل الحسن الثاني أسير استبداده، فريسة الشكوك والظنون في علاقاته مع كل الأطراف حتى عام 1975. فحين علم بنزاع رئيس الدولة الإسباني الجنرال فرانكو وموته الوشيك ابتدع مع صديقه أليكساندر دو مارانش، المدير العام ل“مصلحة التوثيق الخارجي والتجسس المضاد” الفرنسية منذ عام 1970 “قضية وطنية” من شأنها تحقيق التفاف الشعب المغربي بكل أحزابه حول النظام الملكي: ألا وهي المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء المغربية التي تحتلها إسبانيا. وكان الهدف من العملية مزدوجاً: التخلص من قسم من الجيش (الذي يمثل تهديداً محتملاً) بإرساله الى تلك الصحراء التي تبلغ مساحتها 260.000 كيلومتراً مربعاً حتى يغوص في رمالها المتحركة. وحضّ أحزاب المعارضة من ناحية أخرى - في هبّة وطنية أسبغ عليه صفة “الإجماع الوطني”- على دخول اللعبة السياسية التي يبقى هو محرك الدمى الأوحد فيها. ولقد بلغ هدفه بالفعل: فبعد ذلك بسنة واحدة شاركت الأحزاب في انتخاب البلديات، وفي عام 1977، في الانتخابات التشريعية. هكذا انطلقت “الديمقراطية الحَسَينية” كما سمتها الدعاية الرسمية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، أقام الحسن الثاني توازناً شبه بهلواني بين العالم العربي الإسلامي وإسرائيل: فمن ناحية قام عام 1965بتسجيل لصالح إسرائيل رصد فيه أعمال اجتماع سري بين القادة العرب كان يهدف الى تقييم قدراتهم على شن هجوم على الدولة العبرية، ومن ناحية أخرى أرسل عام 1973 وحدة من القوات المسلحة الملكية الى الجولان للقتال الى جانب “الإخوة السوريين” في حرب أكتوبر.
في موازاة ذلك عرف الحسن الثاني كيف يستفيد من ظروف الحرب الباردة على الصعيد الدولي. ولقد انحاز دون حرج الى الجانب الأميركي، وفي الوقت نفسه أقام مع الاتحاد السوفياتي علاقات استعادت “هدوءها.” ولكن العلاقات الفضلى التي طورها الحسن الثاني كانت مع فرنسا في عهد الجنرال ديغول وفئة من نخبتها الإعلامية والمالية. كان يُنظر إليه في الأوساط الفرنسية ذات النفوذ على أنه “الصديق الودود”.
في عام 1988، على سبيل المثال، منح الملك صفقة بناء الجامع الأكبر في الدار البيضاء، وهو مشروع ضخم، تم تمويله عبر مساهمات إجبارية من “رعيته”، بشكل مباشر ودون أي مناقصات، الى صديقه بويغ، ملك البناء والأشغال العامة في فرنسا ومدير قناة التلفزيون الأولى، من ضمن ممتلكات أخرى.
“صديقنا الملك”
إلا أن حدثاً هاماً جاء ليعكر صفو العلاقات بين هذه النخبة و“صديقها الودود”: ففي شهر سبتمبر/ أيلول 1990، تسبب الكاتب جيل بيرو بإعصار عبر كتابه “صديقنا الملك » وبإحداث منعطف في قضية حقوق الإنسان، التي كانت قد شهدتها”سنوات الرصاص"، حسب العبارة التي اشتهرت فيما بعد. واكتشف الفرنسيون عندها الوجه المظلم لأمير المؤمنين الذي كان في الظاهر يجسد “الإسلام المنفتح” ويتحدث بلغة فرنسية راقية، ويدخن السجاير الواحدة تلو الأخرى ويعارض اندماج المغاربة في فرنسا. كتاب جيل بيرو أماط الِلثام عن أسرار الحسن الثاني بكل براعة الكاتب المعروفة، وكشف وجه آخر من المغرب، مختلف تماماً عن البطاقة السياحية الجميلة التقليدية في مخيلة العديد من الفرنسيين. وردت في الكتاب حكاية سجن تازمامارت (في جنوب المغرب)، حيث احتجز عشرات من الأشخاص لأكثر من ثمانية عشر عاماً، بعبارات تقشعر لها الأبدان، حياة محطمة لمئات من المعارضين اليساريين والصحراويين الذين تم رميهم في سجون المملكة منذ بداية السبعينات، ومصير عائلة أوفقير ( ومنهم طفل عمره ثلاث سنوات، واسمه عبد اللطيف أوفقير) التي سجنت أكثر من ثمانية عشر عاماً في ظروف غير إنسانية، كل ذلك انكشف على الملأ. وأدان الكتاب الاغتيالات السياسية كما أدان الأوضاع الاجتماعية والفقر المدقع لغالبية الشعب.
ومع أنه اهتز للصدمة التي ألحقها به الكتاب الفاضح والصادر بعد أقل من عام على سقوط جدار برلين، لم ينطو الحسن الثاني على نفسه بل بالعكس. قام بعد ذلك بأشهر معدودة بإطلاق سراح كل المعتقلين وأصدر عام 1992 دستوراً جديداً يعترف في ديباجته بعالمية لحقوق الانسان. وهو أمر يحدث للمرة الأولى في العالم العربي. ولقد جعلت هذه المهارة عدداً كبيراً من المراقبين يعتبرون أن الحسن الثاني أفضل من تدبّر أموره بين قادة المغرب، في قلب منطقة غير مستقرة (حرب أهلية في الجزائر، نظام القذافي غير المرغوب فيه...)
في مارس 1998، عُيّن عبد الرحمن اليوسفي، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي القوات الشعبية الذي يدين بالولاء لبن بركة، وزيراً أول. وبعدها بسنة تُوفي الحسن الثاني ومشى في جنازته الجليلة ملايين المغاربة. كما شارك في المأتم القادة الرئيسيون في العالم، من الأميركي بيل كلينتون الى الفرنسي جاك شيراك، مروراً بالجزائري عبد العزيز بوتفليقة. جنازة رجل دولة متعدّد الأوجه، شخصية انفصامية كان طاغية بالنسبة للرعايا و“صديق ودود” لأصدقائه.