تونس: انتخابات رئاسية في الضباب

لقد بدأت الحملة الانتخابية في تونس في أجواء مشدودة الأعصاب. ونادراً ما كانت مفتوحة الى هذا الحد على كافة الاحتمالات. باختيارهم الرئيس، سوف يحدد التونسيون في الوقت نفسه دورَه في المؤسسات.

تونس في الثاني من أيلول/سبتمبر 2019
Fethi Belaid/AFP

من شبه المستحيل التنبؤ اليوم بمن سيفوز بالانتخابات الرئاسية، بل وحتى التكهن بالشخصيتين اللتين ستبقيان في ال 15 من سبتمبر/ أيلول حتى الدورة الثانية، من أصل ال26 مرشحاً في الدورة الأولى. كان موعد الانتخابات في البداية قد حُدِّد بدايةً ب 17 من نوفمبر/تشرين الثاني ثم تم تقديمه بعد أن توفي الباجي قائد السبسي في 25 يوليو الماضي.

منذ أشهر خلت، وسط الفراغ الذي كانت قد خلّفته خيبة الأمل الكبرى من الطبقة السياسية التي تجلّت بشكل مريع خلال الانتخابات البلدية عام 2018، كان الوزير الأول يوسف الشاهد يبدو كمن يجمع بين ميزتَيْن، ألا وهما النأي بنفسه من ناحية عن حالة التفكك التي أصابت حزب نداء تونس الموغل في ممارسات الإتجار الانتهازِي، وهو الحزب الذي حمل الباجي قائد السبسي الى السلطة، ومن ناحية أخرى التمكن من زمام الأمور عبر وجوده على رأس الحكومة. وحتى لو كان قد تعمّد ترك الأمور مبهمة بالنسبة لنِيّته الترشح، حيث كان من الممكن تماماً أن يبقى في قصر القصبة ويضع حليفاً له في الرئاسة، إلا أن شبابه وخبرته في الحكم قد جعلا منه المرشح المحتمل الأكثر حظاً.

بروز “الشَعْبَوِيّين” المفاجئ

ولكن سرعان ما تراجعت شعبيته بسبب نتائج حكمه غير المرضية، والاعتياد عليه كوجه لم يعد جديداً تماماً على الساحة، وتعقدت الأمور مع بروز شخصيات جاءت تملأ الفراغ بين الدولة والشعب. ولا سيما منهم عبير موسي، الوريثة المعلنة للنظام القديم، التي تركب موجة الحنين الى دولة “قوية”، إلا أن ترشحها يشق الصفوف ويثير الخلاف بما لا يجعلها مرشحة خطيرة فعلاً.

لوحظ بشكل خاص من ضمن الشخصيات التي برزت نبيل القروي، عملاق الإعلام والوسائل السمعية البصرية، ومؤسس قناة “نسمة” التلفزيونية عام2007، وهو يجول منذ 2015 في المناطق المنسية من البلاد مع جمعيته الخيرية “خليل تونس”، ويستعرض عملياته الخيرية على قناة التلفزيون التابعة له.

وحتى لو كان سخاؤه يذكر بعمليات التوزيع في عهد التجمع الدستوري الديمقراطي، ونظام المحسوبيات والزبائن الذي كان في قبضة العهد البائد أكثر مما يوحي بالدولة الراعية، إلا أنه قد جعل لنفسه مع ذلك رصيداً سياسياً بتلبية تطلعات شعبٍ تضرر مباشرة من الشرخ الذي قسم البلاد الى شطرين.

ولقد أعلن ترشحه في 28 أيار/مايو، وبعدها بأسبوعين وضعه استطلاع للرأي العام في الطليعة. وكان هذا المؤشر من الخطر بحيث جعل الحكومة تضطلع بمحاولة يائسة لقطع الطريق عليه بإدخال تعديلات، في 18 يونيو /حزيران، على القانون الانتخابي.

ولكن الباجي قائد السبسي تأخّر بإصدار القانون المعدل فلم يدخل حيّز التنفيذ. ولقد تم اعتقال نبيل القروي في 23 آب/أغسطس، بناءً على أمر احتجاز صدر في صبيحة اليوم نفسه، في دلالة واضحة على الاستخدام السياسي للعدالة. ويمكن قراءة السرعة الفائقة في تنفيذ أمر الإيداع في السجن الصادر عن دائرة الاتهام في صباح اليوم نفسه في منتصف العطلة القضائية، كدليلٍ جلي إما على إرادة رفع الحصانة عن المتهم في حال انتخابه، أو ببساطة شديدة وبشكل مبتذل التخلص من منافس. أياً كانت الحال يبقى نبيل القروي حتى وهو في المعتقل مرشحاً للانتخابات بل بات محاطاً الآن بهالة الضحية، ضحية ما أسماه أنصاره “الممارسات الفاشية”.

الشخصية الغائبة: والد الأمة

لقد أضيف الى الساحة السياسية في تونس مع وفاة الباجي قائد السبسي مكاناً شاغراً جديداً: مكان والد الأمة، الحارس لاستقرار الدولة. وفي حين كان الباجي قائد السبسي حتى أيامه الأخيرة موضع الانتقاد الشديد إلا أن الرئيس الراحل الذي تتلمذ على أيدي الحبيب بورقيبة كان آخر العنقود من بين مؤسسي الدولة المستقلة.

ولقد كشف رحيله عن شغور مكان الشخصية التي تبعث على الاطمئنان في مشهد يحتله الغوغائيون (الديماغوجيون) والطامعون. وهو الأمر الذي أدركه تماماً المقربون من الرئيس، فدفعوا بِعبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع، ليقوم بهذا الدور. ولقد صرح الزبيدي، وهو الذي برز في صحبة الباجي قائد السبسي في آخر صورة علنية له، وكان ترتيبه لمراسم الجنازة موضع التقدير العام، وحظي بحملة على الفيسبوك نادت بدعم ترشحه فوراً، إنه وافق على الترشح في هذا الزمان المضطرب مدفوعاً بواجب “الجندي” في المعركة. وسيخوض الزبيدي الانتخابات كمرشح مستقل وبمساندة من آخرين، ولا سيما حافظ قائد السبسي، الذي ما زال على رأس حزب نداء تونس. ويأتي هذا الترشح ليثلج صدر ابن الرئيس الراحل، الذي كان يبدو وكأنه خرج نهائياً من الحلبة بعد التفكك الذي أصاب حزبه. فانتخاب عبد الكريم الزبيدي من شأنه أن يسمح لزمرة قائد السبسي أن تحقق الغاية التي كافحت من أجلها طوال السنوات الخمس الفائتة: البقاء في دوائر السلطة بعد رحيل الأب.

الزبيدي أصله من مدينة المهدية وعمره حوالي السبعين سنة، ويستند الى دعم النخبة الساحلية التي تعتبر نفسها صانعة الدولة الحقيقية منذ 1956، وترى في شخص الزبيدي وسيلة لاستعادة الدور الذي كانت قد خسرته منذ الثورة. إلا أن عبد الكريم الزبيدي، حتى لو أحاطته هالة من المهابة لكونه من الجيش الذي له منزلة كريمة في نفوس الشعب، فأقل ما يقال فيه أن ليس لديه البلاغة التي كان يتمتع بها الباجي، المتمرس بمهنة المحاماة. وهذا نقص لا يستهان به في الحملة الانتخابية الرئاسية، حيث يعتبر فن الخطابة في منصب الرئاسة بأهمية الصلاحيات الدستورية، ليس إلا.

نزعتان للهيمنة... معطّلتان

وليست ملكة التعبير المشكلة الوحيدة لدى المرشح الزبيدي. فعلاوة على يوسف الشاهد، ثمة ما يقارب الستة مرشحين آخرين يودون الاستحواذ على إرث العائلة الدستورية (المنبثقة من الحركة الوطنية) وعلى أشلاء نداء تونس. وذلك دون أن يكون لديهم اقتراح سياسي حقيقي، ودون أن يستطيعوا تجسيد شخصية رئاسية جليلة، إلا أنهم يتنازعون شرف تطبيق البرنامج الاقتصادي المستلهم من المُمَوّلين الدوليين. وهو ما يهدد بشكل جماعي فرصة عائلتهم السياسية بالبقاء حتى الدورة الثانية.

ولعل قَلْب ترتيب الجدول الزمني للانتخابات -أي الإبقاء على الانتخابات التشريعية بتاريخ 6 أكتوبر، فيما يلي الانتخابات الرئاسية، قد أجبر النهضة على كسر قاعدتها الذهبية: أي عدم التواجد وحدها في السلطة، في شبه عزلة لأن ذلك قد يجمع كل الخصوم ضدها. إلا أنه لا يمكن للحزب أن يبقى مكتوف الأيدي في هذه الحملة الانتخابية التي تتم عشية الانتخابات التشريعية. فلقد تقدم بمرشح للانتخابات الرئاسية، وخلافاً لتوصية رئيس الحزب، فالمرشح يأتي من صفوفها. وهو عبد الفتاح مورو. محام من العاصمة، يشغل حالياً منصب رئيس مجلس نواب الشعب بالنيابة، ويعتبر في الوقت نفسه شخصية غير نمطية شعبيّة الى حد بعيد في صفوف الحزب. فهو فصيح اللسان، بل وحاذق، وقد يستطيع استقطاب الناخبين خارج القاعدة المعتادة من أنصار الحركة.

إلا أنه سيضطر، من ناحية، لمواجهة غريم ينافسه على نفس الجمهور، هو الأمين العام السابق للنهضة ورئيس الوزراء الأسبق في فترة ما بين 2011 و 2013، حمادي جبالي، المنفصل عن الحزب منذ 2014. ومن ناحية أخرى فقد تميل قاعدة النهضة بشكل أكبر الى مرشحين يجسدون القطيعة مع النظام القديم مثل منصف المرزوقي، الرئيس الأسبق في فترة المجلس التأسيسي. أو قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري، والجديد على المشهد السياسي، والمشهود له بنزاهة الأخلاق، والقرب من مثل الثورة العليا، والذي صرح مؤخراً بمواقف محافظة حول القضايا المجتمعية.

وبغض النظر عن صعوبة لم الشمل حول مرشح بديهي، يبدو أن الدستوريين والإسلاميين على حد سواء يتقاسمون المشكلة نفسها: صعوبة تحويل تراثهم السياسي الى مشروع حقيقي، وذلك لعدم تواجدهم الراسخ داخل القوى الاجتماعية. فنحن أمام نزعتَيْن متنافِسَتَيْن للهيمنة، واحدة منهما أثبتت وجودها ولكنها غير مُوَحَدة، والثانية ما زالت تسعى للقبول بها في الساحة، إلا أن لكل منهما هوية تعجز عن تحديث نفسها.

يسار منقسم ومنعزل

هل من الممكن والحال هذه لشخصية تمثل قوى جديدة أن تفرض نفسها في الساحة؟ إن الجبهة الشعبية، التي تمثل وحدة الشقيقين اللدودين في أقصى اليسار، اليسار الماركسي والقوميين العرب، قد انشقت، وهي تقدم مرشّحَيْن: حمة همامي، المعارض التاريخي للدكتاتورية، على رأس حزب العمال (حزب العمال الشيوعي التونسي سابقاً) الذي لم يفلح في بناء قوة شعبية قادرة على تحويل الواقع، ومنجي رحوي، الذي يركز على قضايا الهوية أكثر من اهتمامه بالقضايا الاجتماعية.

ولقد توحدت القوى الاجتماعية-الديمقراطية من ناحيتها خلف ترشيح عبيد البريكي، إحدى الشخصيات الرئيسية في البيروقراطية النقابية من عهد بن علي. أما حركة التكتل، وهو الحزب القديم في المعارضة اليسارية السرية، والتي أختفت تقريباً من الساحة، فلقد تقدمت بترشيح إلياس الفخفاخ وزير المالية بين 2012 و 2014. ومن ناحيته يخوض محمد عبو، مرشح التيار الديمقراطي، بما ظفر به من نجاح نسبي في انتخابات البلدية، حملة انتخابية تحت راية مكافحة الفساد وضد استمرار ممارسات العهد البائد، إلا أن مواقفه من الاقتصاد تنحو نحو الليبرالية.

المفارقة المتمثلة بالرئاسة

ثمة شيء من الغرابة في الاهتمام الشديد بخوض حملة الانتخابات الرئاسية وما يصحبها من حدة المواجهات في حين أن النظام هو نظام برلماني مبدئياً، تم وضعه أساساً للحيلولة دون عودة الشخصانية في الحكم. ومن المفترض أن تكون الانتخابات الفضلى هي الانتخابات التشريعية وأن يكون المنصب الذي يثير أكبر قدر من الأطماع هو منصب رئيس الوزراء. إلا أن الانتخاب العام المباشر لرئيس الجمهورية من قبل الشعب بأسره ورواسب الشخصانية في الخيال الجماعي، والطابع المتناقض للدستور الذي يحتفظ بإمكانيات سلطة شخصية خاصة برئيس الدولة وبصمات الباجي قائد السبسي الذي سعى لنيل أكبر عدد ممكن من الصلاحيات الدستورية، وختاماً كون الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة تجري قبل الانتخابات التشريعية، كل ذلك يساهم في منح الأولوية لمنصب الرئاسة.

إلا أن ثمة أمر آخر ما زال مستمراً عبر مقاليد الرئاسة، بغض النظر عن الإبهام في نصوص الدستور، فلطالما كانت السلطة الفعلية للمؤسسة الرئاسية تنبع، حتى في زمن الملكية الحسينية (1705-1955)، من كونها المركز الذي تجري فيه الموازنة بين الزمر السياسية والإتجارية الانتهازية، لصالح ذوي الحظوة المقربين من السلطة، (وهو الأمر الذي لا يقتصر على تونس وحدها).

انتخابات مفتوحة على كل الاحتمالات

إن الرهان الذي بات يتضح بشكل متزايد في هذه الانتخابات (بعد تراجع السؤال عما إذا كان يتوجب إدماج النهضة في الحكم أو عزلها والذي كان هاجساً عام 2014، تراجعه في الحملة الى درجة ثانوية) هو دور الرئيس داخل نظام الحكم. هذه هي إحدى المسائل السياسية التي ستطرح في الأسابيع القادمة بل وما بعدها بفترة طويلة.

هل عليه أن يكون زعيماً، يقود مشروعاً سياسيا ويضعه موضع التنفيذ؟ أم سلطة تعلو فوق الأحزاب، تسمح للبرلمان والحكومة بأن يمارسا كامل سلطاتهما الدستورية؟ هل يوافق التونسيون على بقائه ممثلاً لطغمة من المصالح التي تتحكم بتوزيع موارد الدولة، أم أن موضوعية المؤسسات ومقتضيات المجتمع هي التي ستنجح في تحويل هذا الدور الى ما سواه؟

يجاهرغالبية المرشحين علناً بإرادتهم لعب دور الزعيم القوي، بما يتماشى والأجواء “القيصرية” السائدة بعد سنوات من تمدد سلطة الدولة والتقلبات البرلمانية بين التحالفات، والسيادة المهتزة من جراء الدخول الكثيف للأطراف الخارجية على الخط. وأياً كان المرشح الذي ينجح فسوف سيتأثر بالتوازنات التي ستسفر عنها الانتخابات التشريعية. وعندها ستعود مسألة الحكم مع النهضة أو دونها الى الواجهة كمسألة ذات أولوية.

تعيش تونس، بالرغم من الثغرات التي تشوب الديمقراطية فيها (القضاء الخاضع لنفوذ السلطة التنفيذية، وتشابك العاملان الاقتصادي والسياسي، والميل الى التسلط، وتغييب القضايا الاجتماعية) انتخابات رئاسية مشدودة الأعصاب لا شك، إلا أنها مفتوحة الاحتمالات وبشكل لا يتوفر حقيقةً في كثير من البلدان.