العراق ظمآن، وجنون الإنسان هو السبب

كيف يمكن لبلد كان مهداً للبشرية وللزراعة، بلد يرتوي من نهرين، أن تنقصه المياه؟

مستنقع جاف قرب مدينة الناصرية جنوب العراق
Haidar Hamdani/AFP

من وفرة المياه ولد العراق قديماً. يشهد على ذلك اسم “بلاد ما بين النهرين”. وأيّ نهرين! نهر الفرات بكل جبروته، المنبثق من أعالي شرق الأناضول، الجاري عبر البادية السورية الى حين لقائه مع نهر دجلة المتألق، الجاري على سفوح جبال زاغروس، بمحاذاة الحدود الغربية لإيران.

من اتحاد كلا النهرين نشأت سهول منبسطة وخصبة حوّلت مصير البشرية. في تلك الحقبة من التاريخ، وبعد أن مضت آلاف السنين على تمكن البشرية من النار، تعلمت بعد ذلك كيف تطوع المياه لخدمتها.

اليوم باتت الوفرة الفائضة مجرد ذكرى بعيدة. فلقد أصبح التزود بالمياه في العراق عرضة للتقلبات أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك فما زالت البلاد تستهلك المياه وتلوثها كما لو لم يكن ثمة مستقبل على الأبواب. هذا التبذير في أثمن ما لدى العراق من موارد قد شمل كل المستويات في الدولة والمجتمع، بل بات يهدد وجود الشعب نفسه، من حيث الأمن الغذائي والصحة العامة بل والقضايا الجيوسياسة والشؤون النفطية.

انتفاضة الطبيعة

ويبدو أن البيئة تقوم اليوم في العراق بهجوم مضاد. فالأمطار تهطل بعنف غير مسبوق والفيضانات تجتاح المدن وتفسد المناطق الريفية. تتكاثر العواصف الرملية فتهب سحب من الأتربة الصفراء، تغطي الأبنية. باتت مواسم القحط تمتد أحياناً لفترة من الزمن، سنتين أو ثلاث على التوالي: وكان آخرها قد جعل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية متيبسة، ترعى فيها قطعان الماشية الهزيلة الواهنة.

أحد شبان بغداد، من الذين شبوا وسط أشكال الدمار التي يلحقها الإنسان بالطبيعة، لخص حساسية البلد للتقلبات المناخية بهذه العبارة:“لقد جاء الآن دور انتفاضة الطبيعة”.

وفي الوقت الذي يبتلع فيه العراق مياهه، يلجأ العراقيون الى تفسيرات واهمة ومُطَمْئِنة عن أسباب شح الموارد. يتهمون جيرانهم بمصادرة الذهب الأزرق، الذي يعتبرونه من حقوقهم بالولادة. “أحرى بنا ألا نستورد منتجات غذائية من تركيا، سوريا أو إيران”. هذا ما يذكره بتململ أحد كبار الموظفين من وزارة الخارجية العراقية، والذي عمل طويلاً في ملف المياه. “هذه الفاكهة والخضراوات قد زرعت بالمياه التي انتزعت منا، وينتهي بنا الأمر لشرائها”.

قد تقطع أنقرة إمدادات المياه

دجلة والفرات يعتمدان بالفعل الى حد كبير على الإمدادات من الدول الأخرى، ولا سيما منها تركيا وإيران، اللتان تسحبان كميات كبرى من المنبع. في السبعينات، قامت أنقرة، شأنها في ذلك شأن بغداد، بالاستثمار بشكل مكثف في تشييد السدود. ستة سدود من أصل ال22 التي خططت لها تركيا لم تنجز بعد. ولكن الخطر يلوح في أفق العراق: فعند اكتمال مسبحة السدود هذه سينخفض منسوب مياه الفرات بنسبة 25% من المنسوب الأصلي. لقد تجاوزت منذ الآن قدرة تركيا الإجمالية على تخزين المياه المنسوب السنوي للنهرين مُجْتَمِعين. أنقرة قادرة، لو أرادت، ومنذ نهاية التسعينات، على إقفال صنابير المياه وقطع المياه عن العراق لسنة كاملة. كان افتتاح السدود الكبرى في تركيا قد جعل من دجلة شبه جدول صغير يستطيع سكان بغداد اجتيازه مشياً على الأقدام.

مؤخراً، سعت إيران التي تأثرت بقحط شديد، الى السيطرة على مواردها وإعادة توزيعها على الصعيد الوطني. ولقد حولت بالتالي مياه روافد هامة كانت تصب في دجلة، مثل سيروان وكارون.

وما يزيد الطين بلة أن إيران قد استخدمت مجرى هذين النهرين مصباً لمياهها الوسخة المستهلكة في البيوت والزراعة والصناعة، فراحت ترسلها الى ما وراء الحدود، بدل معالجتها على أراضيها. “كل ما يصلنا من إيران هو الميليشيات والمخدرات والمجارير”، هذا ما يقوله بأسف أحد سكان البصرة، المدينة الثانية من حيث الأهمية بعد العاصمة وموقعها الأكثر جنوباً في البلاد. ما ينبعث من روائح كريهة تتصاعد من سطح المياه اللزجة في مصب شط العرب، الطريق الملاحي الذي يشكله ملتقى نهري دجلة والفرات، يؤكد صحة هذا القول.

أحواض الأنهار والسدود
المصدر: منظمة الصحة العالمية، إحصائيات المياه لعام 2019

أما سوريا التي أنهكها النزاع في السنوات الأخيرة، فليست في موقع يمكنها من زيادة المعاناة في العراق. إلا أن إعادة الإعمار فيها سوف تتوقف بلا شك على إحياء القطاع الزراعي الذي سيضطر لضخ المياه الوفيرة من الفرات.

العراق محاط بالبلدان المتعطشة للمياه في منبعها، ولا حول ولا قوة له في الدفاع عن مصالحه فيما يتعلق بالنهرين الكبيرين. تتوالى الاتفاقات حول تقاسم المياه منذ 1920، ولكن يجري تجاهلها في الواقع في غالبية الأحيان. فكيف لطبقة سياسية عراقية متشرذمة أنانية يشكل هاجسها العمل قصير الأجل أن تحصل على شروط أفضل اليوم؟ ولئن كانت الأبعاد الخارجية للقضية مقلقة إلا أنها في الوقت نفسه مبالغ بها. فأصل مشكلة المياه يكمن في العراق نفسه، والحلول المتاحة متوفرة داخل حدوده. ومع أن حوالي 97 بالمئة من أراضيه يمكن تصنيفها من بين الأراضي القاحلة أو شبه القاحلة، إلا أن العراق يبقى غنياً بالمياه حسب المعايير الإقليمية: عام 2004 كان العراق يحظى ب 2500 متر مكعب لحصة الفرد من المياه العذبة. أي ما يفوق معدلات المملكة المتحدة وألمانيا. أما الدول العربية فما من دولة بينها تحظى بأكثر من 1000 متر مكعب للفرد، في حين أن الدول الفقيرة بالمياه من بينها كالكويت واليمن والسعودية وليبيا تحظى بمعدل دون ال100 متر مكعب للفرد.

تغيّر المناخ

إلا أن هذه الثروة العراقية تبدو وكأنها تتبدد بالسرعة التي تتجدد فيها. فالعراق ينتج سنوياً حوالي 22 مليار من الأمتار المكعبة من المياه العذبة، ويتبخر منها 19 مليار متر مكعب في أجواء من الحرارة القصوى. عملية التبخر هذه هي التي تجعل البلاد بحاجة ماسة للمساهمات الخارجية. وتحصل هذه العملية على وجه الخصوص في البحيرات الاصطناعية الممتدة على مساحات شاسعة والتي تستخدم كخزانات للمياه، وهو استخدام لا يتناسب مع بيئة البلاد، ومع ذلك فقد وُضِع في قلب سياسات إدارة المياه. كما تطال الخسارة أيضاً المناطق الجنوبية الرطبة الغنية بالخضرة والأشجار، مما يهدد بدوره بفقدان كمية هائلة من الفصائل النباتية والحيوانية التي تنتمي إليها كجزء من النظم الإيكولوجية.

المناخ العراقي يتغير. الحرارة ترتفع ببطء ولكن باستمرار. عام 2016، سجلت مدينة البصرة حرارة 53,9 على سلم سلسيوس، أي ما يكاد يكون الرقم القياسي. وفي المقابل فلقد انخفض مستوى الأمطار : واعتبر أحد النشطاء في بغداد أن سقوط الثلوج في الشمال الشرقي قد انخفض بنسبة الثلث بالمقاييس التاريخية. ويشعر المزارعون في سهول الشمال الغربي المسماة ب“ممر الأمطار” بالقلق إزاء عواقب انخفاض الأمطار على محاصيل الحبوب والمراعي. توقعات البنك الدولي تشير الى ارتفاع كارثي للحرارة، بنسبة درجتين من الآن وحتى عام 2050، وانخفاض بنسبة عشرة بالمئة فيما يتعلق بالأمطار السنوية. من شأن هذا التغيير المناخي أن يفاقم من ظاهرة التبخر ويدفع بالعراق من مجرد أوضاع هشة الى أزمة حقيقية.

وكثيراً ما يزيد سلوك الانسان من خطورة المشكلة. ففي أشهر الصيف، يميل العراقيون الى استخدام برودة التكييف القصوى، وهذا التكييف يقذف من الحمم الحارّة الى الخارج مقدار ما يفرزه من الهواء البارد في الداخل، كما يحاول العراقيون ترطيب الأجواء بتقنيات مرتفعة التكاليف ترتكز الى التبخر مثل آلة “المُبَرِّدَة” التي تسحب الهواء عبر القش المبلل بالمياه، والى رش الماء على الأرصفة ورذاذه في الهواء.

توغل مياه البحر

ومن سخرية الأقدار أن يفيض العراق اليوم بنوع آخر من الوفرة في المياه ...غير المرحب بها. فانخفاض منسوب المياه في النهرين يقابلها صعود مستوى البحر على شكل أمواج زاحفة الى عمق شط العرب. بما معناه أن ارتفاع مستوى البحار المترتب على الاحتباس الحراري قد ينعكس وابلاً على السهول الجنوبية: فارتفاع متر واحد سيجبر المليوني نسمة من سكان البصرة الى الرحيل، أما ارتفاع ثلاثة أمتار فقد يجتاح داخل الأراضي الى مسافة 150 كيلومتر ويغرق الملايين الآخرين من السكان في مستنقع شاسع.

سيناريوهات ارتفاع سطح البحر في جوار البصرة
المصدر: محمد الراي ، تأثير ارتفاع مستوى سطح البحر على المنطقة العربية، المركز الإقليمي للحد من مخاطر الكوارث، دون تاريخ

والتغيير المناخي يعني أيضاً أن الأمطار حين تهطل، تهطل بغزارة. وأن أزمة ناجمة عن العواصف تكاد تتكرر سنوياً. يفوت العراق على نفسه فرصة تجميع وتخزين المياه، التي تُغرِق المجاري وتجعلها تفيض.

زراعة نَهِمَة

وفي الوقت الذي يُعَرِّض فيه التغيّر المناخي الموارد المائية في العراق الى وضع من الهشاشة البالغة، فإن قطاع الزراعة المتسم بانعدام الفعالية يوصلها الى حافة المعقول والمقبول. تعتبر منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، الفاو، أن الزراعة تلتهم 80% من إجمالي الموارد المائية في البلاد. جزء كبير منها مخصص لمحاصيل موصوفة بال“استراتيجية” مثل القمح والشعير، نتيجة الجهود المبذولة منذ عقود لتأمين الاكتفاء الغذائي. ومع ذلك فالعراق يبقى خاضعاً للتبعية بشكل بائس، حيث تستمر البلاد في استيراد ما يفوق إنتاجها من القمح، فتشتري سنوياً ثلاثة الى أربعة ملايين طن من القمح من الخارج. هذا سلوك باهظ التكاليف، إن بالمياه أو وبالمال: ففي حين أن الإنتاج الزراعي لا يمثل سوى 3% من إجمالي الناتج المحلي، فإن الدولة العراقية تنفق كل سنة حوالي 5 مليار دولار - أي ما يمثل 2% من إجمالي الناتج المحلي - في استيراد السلع الغذائية الأساسية للتعويض عن القصور الداخلي. ويشير معدل النمو السكاني أن هذا النهم للاستيراد سوف يستمر على الأرجح فلقد تضاعف عدد السكان في العراق بين 1970 و1995، ثم تضاعف مجدداً ليبلغ 40 مليون اليوم وهو مرشح للزيادة بشكل متسارع.

وسوف تستمر عائدات الاستثمار ، الضعيفة أساساً، في التراجع، مع ما يترتب على الممارسات الزراعية من تسميم للأراضي، بزيادة ملوحتها، وهو الأمر المرتبط باستخدام الطمي الغريني كسماد، والإفراط في السقي، والصرف غير السليم والتبخر. “معاناة المزارعين لدينا مرتبطة الى حد ما بالتقنيات التي يستخدمونها. حيث ما زالوا اليوم يلجؤون الى نفس الأساليب التي كانت تستعمل منذ آلاف السنين”. ولكن ثمة فارق كبير بين الأمس واليوم.

خسارة ثلث الأراضي الزراعية

تاريخياً كان فيضان الأنهار يساهم في غسل الأراضي من الملوحة، إلا أن الشبكة المركبة من السدود على الضفاف وعبر مجرى الأنهار ومن الخزانات المختلفة قضت على الدورات الموسمية تلك في منتصف القرن العشرين. منذ ذلك الحين خسر العراق بسبب الملوحة ما يقدر بثلث المساحات الزراعية.

وقد تشهد ثلاثة أرباع الأراضي المروية المصير نفسه. حتى في الأماكن التي تبقى فيها الأراضي خصبة فإن المستوى المتدني من عائدات المحاصيل يثير القلق. ينتج العراق القمح بمعدل طِنَّيْن لكل عشرة آلاف متر مربع (هكتار) أي نصف المعدل السنوي العالمي حسب أرقام البنك الدولي. ليس هذا فحسب، بل أن قيمة محصول القمح المالية متدنية للغاية. كل المحاصيل الأخرى تدر أرباحاً أفضل، وفي نفس الوقت فهي تستخدم مساحة أقل من الأراضي. هذه الأمور الغريبة لا يرضى عنها الجميع. بل على العكس، ثمة عدد كبير من الخبراء العراقيين والدوليين يصرحون بوضوح بضرورة إجراء إصلاحات بسيطة وبديهية ومنها على وجه الخصوص وضع عدادات للمياه، والانتقال من الري بالفيضانات الى شبكة الأنابيب الجوفية، أو الري بالتقطير بهدف الحد من التبخر، وإحلال شبكة تصريف مناسبة ل75% من الأراضي المروية المهددة بالملوحة.

إلا أن هذه التدابير البسيطة لم تطبق حتى الآن لأسباب عديدة. فالعراقيون لديهم ثقة راسخة بالخصوبة اللامتناهية لبلادهم. ومن الأعراض المدمرة بشكل خاص لهذه القناعة، هو ما نشهده من عمليات الضمّ التدريجية للأراضي القابلة للزرع: في كل نواحي بغداد ثمة أفراد وشركات يقومون بتدمير البساتين والمشاتل لتشييد المساكن، ومراكز الترفيه بل وجامعة طبية خصوصية تشهد نمواً سريعاً. على أطراف المدينة حُرقت بساتين من النخيل بكاملها على أيدي مجهولين، تركوا وراءهم غابة من الجذوع المتفحمة التي تُنذر بعمليات التدمير.

الموظفون أنفسهم الذين يلقون المواعظ بضرورة الاكتفاء الذاتي من الأغذية يستفيدون من عمليات التدمير الرامية للمضاربة، إما بسماحهم بتمرير هذه المشاريع وإما بالاستثمار فيها.

إفلاس الدولة والطبقات الحاكمة

عامل آخر يكمن في طريقة عمل المؤسسات. فما زالت لدى العراق المعاصر بقايا غريبة من عصر المدينة-الدولة في بلاد ما بين النهرين والتي راحت الدولة البعثية المهيمنة تقلّدها، عبر امتلاك السلطة المركزية للأراضي وسيطرتها على الانتاج، وشِرائِها المحاصيل وتوزيعها الأغذية على الشعب. وهو الأمر الذي يفسر لماذا يزرع الفلاحون القطع الصغيرة للغاية ويعتمدون اعتماداً كبيراً على الدولة للتّزود بالبذور والمبيدات والمدخلات الأخرى الرديئة النوعية. وهم يستخدمون المياه شبه المجانية، المدعومة من الحكومة والتي تصلهم بأبْخَس الأسعار في العالم، أي 0,0002 $ للمتر المكعب. وفِي المقابل، تحتفظ بغداد بحقها في شراء كل المحاصيل الاستراتيجية بأسعار متدنية وثابتة.

وفِي هذه الأثناء فإن إرادة الطبقة الحاكمة بجني الأرباح السريعة تحول دون أي تفكير طويل المدى حول هذه الأمور. ولقد ظل حبيس الأدراج تقريرٌ وضع نهاية 2015 وكلف 36 مليون يورو، حول استراتيجية شاملة تتناول الموارد والأراضي. يقول لنا أحد النشطاء:“خلال السنوات الأربع التي انقضت منذ ذلك الحين، لم نستطع الحصول ولو على نسخة أولى لهذا التقرير”المطلي بالذهب“.. ثم قامت شركة أخرى بتحديثه وظلت النسخة الحديثة مستترة عن الأنظار كما سابقتها”.

المناطق الزراعية وأساليب الزراعة
المصدر: مجلة “لو موند ديبلوماتيك” الفرنسية

إلا أن الفساد وبلادة النخب لا يفسران وحدهما العامل الثالث وهو عامل حاسم، والذي يتواطأ بشأنه غالبية العراقيين. فالمجتمع العراقي مترابط بواسطة عقد اجتماعي يحمل أوهاماً مفادها أن المواطنين من حقهم الحصول على قسطهم من ثروات البلاد. هذا الحق المشروع يُسَوِّغ فيما يُسَوِّغ الفساد والوظائف غير المنتِجة في الدولة والخدمات العامة المجانية. وبالتالي فيحق لأي عراقي، وأياً كان إيراده أن يستفيد من نظام الإعانة الغذائية الذي تم وضعه عام 1991 للحد من أثر الحظر التجاري الدولي المُدمر الذي أنتهى عام 2003 بالاحتلال الأمريكي. هذا الترتيب المخالف لروح العصر والذي لا يميز بين المحتاجين من العراقيين والأغنياء، يكلف الدولة ما يقارب ال 5 مليارات دولار سنوياً من المستوردات. وتمثل الممارسات الزراعية التي أكل عليها الدهر وشرب عنصرا هاماً من نظام الحماية الاجتماعية: فهي تشكل إعانة على عيش الكفاف لما يقارب من عشرة ملايين من سكان الأرياف الذين يعانون بشكل متزايد من الفقر والبطالة ويهددون بالزحف على مدن ترزح أساساً تحت الزيادة السكانية الناتجة عن النزوح الحالي. هؤلاء المزارعون لا يحصلون إلا على جزء ضئيل من الكنز النفطي العراقي. وبالمقابل فهم ينعمون بحصة الأسد من المياه القابلة للتبديد. ولكن ثمة قطاعات اقتصادية وفئات أخرى من المجتمع تقع عليها اللائمة كذلك.

تجاوزات الصناعة النفطية

الإسراف في المياه يكاد يشمل كل العراقيين. فكل يوم يستهلك المواطن العادي 392 ليتر من المياه لأغراضه المنزلية فقط، أي ضعف المعدل الدولي الذي يمثل 200 ليتر حسب أحد موظفي منظمة اليونيسف المقيمين في بغداد. هذه الكمية الهائلة تكلف السكان سعراً زهيداً الى حد غير معقول، أي 1,4$ سنوياً، (هذا على افتراض أن السكان يدفعون فواتير المياه، وهو نادراً ما يحدث). وهذا السعر البخس يشجع العديد من الملاك على ترك صنابير المياه مفتوحة وإغراق حدائقهم، حتى في الساعات التي ترتفع فيها الحرارة الى الدرجات القصوى خلال النهار.

وتتحمل صناعة البترول مسؤولية أكبر بأشواط في عملية التبذير هذه. فالذهب الأزرق يخضع لمقايضة مع الذهب الأسود. حيث يستبدل كل برميل من النفط المستخرج ببرميل ونصف من الماء الذي يضخ قي حقل النفط للحفاظ على مستوى الضغط وبالتالي مستوى الانتاج. ولقد كانت الآثار المترتبة عاى هذه الممارسات موضع النقاش. فاعتبر فريق أبحاث عراقي متخصص في شؤون الطاقة أن صناعة النفط تحتاج حالياً حوالي 400 مليون متر مكعب من المياه سنوياً وهو رقم متواضع نسبةً الى الموارد الإجمالية في البلاد. يرفض أحد كبار الموظفين الإقرار بهذه المسألة بشيء من الغرور قائلاً:“تستخدم الشركات النفطية كمية زهيدة من المياه ولا تسحب المياه من الأنهار. وهي تستخدم بشكل أساسي مخلفات الزراعة من المياه المستخدمة. وبالتالي الفائدة من هذه العملية تفوق بأشواط أي خسارة محتملة.”

ولكن إن نظرنا الى الموضوع على نطاق البلاد بأسرها فسوف نرى أن الأمور أكثر تعقيداً. ففي عام 2010 شهدت أقاليم الجنوب في العراق الغنية بالنفط شحاً في المياه يقدر ب 400 مليون متر مكعب، أي ما يساوي المياه التي جرى ضخها في جوف الأرض. ثمة بعض الحوادث التي تدحض هذا الادعاء بأن شركات النفط تعتمد على مياه الصرف في الزراعة فقط، فلقد أعرب أحد مسؤولي القطاع الصحي المقيمين في بغداد عن تذمره من كون مقاولي شركات النفط يملؤون يملؤون صهاريجهم من أقرب مصدر ممكن من المياه سعياً منهم للحد من التكاليف وزيادة الهامش الربحي. إلا إن التكتم الشديد ما زال يلف هذا الموضوع. “هذا موضوع من الخطر التحدث فيه” يقول أحد النشطاء محذراً. فالشركات النفطية الكبرى تشتري المياه من شركات يترأسها مدراء منتمون الى الميليشيات".

ثمة بعض الحلول البديهية المتاحة، مثل جلب المياه من البحر إلا أنها تقتضي استثمارات، ولقد تم تأجيلها المرة تلو الأخرى. ومن الأمور المعبرة فعلاً عن هذا الخلل ما نراه من ميزانية حصل عليه وزير النفط عام 2018، تفوق بخمسين ضعفاً ميزانية وزارة الموارد المائية المتروكة لأمرها. ولقد ورثت هذه الوزارة التي كانت تعرف حتى عام 2003 بوزارة الري، بنيةً تحتيةً جسيمة مخصصة للري ومكافحة الفيضانات، في بلاد تجاهلت كل الجوانب الأخرى في إدارة المياه.

ولدى هذه الوزارة قدرة ضعيفة على جمع البيانات ووضع التوقعات، ما يلحق الضرر بطريقة إدارة السدود والخزانات والقنوات. والفوضى نفسها تعمّ الهيكل الإداري: فلقد أعرب أحد الخبراء من جنوب العراق عن شديد أسفه لكون أي مبادرة خاصة بالمياه تبقى معرضة للتدخل من قبل أطراف عديدة منها على وجه الخصوص وزارات النقل والطرق والجسور والمالية.

تسمم ذاتي جماعي

وقد ساهمت هذه التناقضات في جعل شبكة مياه الشرب في العراق إحدى أسوأ الشبكات في العالم. ويقدر تَسرّب المياه من الإمدادات، حتى قبل بلوغها المستهلكين بثلثي إجمالي المياه التي تُضخ في الشبكة. ولقد كان للعقوبات المفروضة في عهد صدام قسط من المسؤولية عن هذا الوضع: ففي التسعينات جاهد العراق لاستيراد الأنابيب وكان مجلس العقوبات التابع للأمم المتحدة الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية والذي تُسَيِّس قراراته، يعتبره تهديداً عسكرياً. إلا أن هذه العزلة التي عاشها العراق وقتها لم تكن سوى تفاقماً لوضع سابق متسم بقصور في الاستثمارات، وذلك قبل العقوبات وبعدها: 14 موقعاً فقط من أصل 252 تجمع مدني عراقي يعالج مياه الصرف الصحة لإعادة تدويرها، حسب البنك الدولي.

وبالتالي فالعراق يمثل حالة قصوى من التسمم الذاتي على نطاق جماعي. ثمة صهاريج من القطاع الخاص في بغداد تسحب المياه الوسخة من فتحات المجاري لتبيعها بصفتها أسمدة. وفِي كل مكان تقريباً، تُرمى مياه الصرف الصحي دون معالجتها في الجداول والأنهار، مما يزيد من ملوحتها ومن المُلوِّثات الاخرى. ولقد وصلت مستويات الملوحة في أقصى الجنوب الى الحد الذي جعل المياه غير صالحة إطلاقاً للشرب لا بل غير صالحة لأي شكل من أشكال الزراعة. فالمياه المالحة تتسبب بتآكل التجهيزات، ومنها المِضخات ومحطات معالجة المياه وأنابيب التوزيع.

قياس ملوحة المياه
“إجمالي المواد الصلبة المذابة” هي وحدة قياس ملوحة المياه، والمصدر إيفان كريستن وقاسم السليم، في “كيفية التعامل مع الملوحة في الزراعة في العراق”، المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة 2012

“كل أنهار العراق مريضة. والجميع مسؤولون عن هذا الوضع بدءاً من أعلى موظف وحتى أبسط مواطن.” هذا ما يقوله لنا أحد خبراء تلوث المياه. “في مدينة البصرة، لم تعد الأنهار أنهاراً، بل خزانات صرف صحي متحركة. ونتيجة ذلك انتشرت في كل أرجاء البلاد عدوى التيفوئيد والدوسنطاريا (مرض الأمعاء) والتهابات الكبد وسائر الأوبئة التي تتسبب بها المياه غير النظيفة. في منتصف عام 2018، استقبلت المستشفيات في البصرة 100.000 حالة من التسمم بالمياه. يقول أحد أخصائيي الأوبئة العراقيين وأصله من البصرة:”نحن نسبح حقاً في داء الكوليرا“ويضيف:” اتصلت بي وزارة الصحة لاستشارتي بالموضوع، ولكن ما كانت تريده مني بالفعل هو التصديق على نظريات المؤامرة حول التسميم الخبيث المقصود".

“لا تسرفوا في الماء ولو كنتم على نهر جار”

ولقد تفاقم التوتر الاجتماعي في موازاة ذلك، وأدى الى قيام المظاهرات. يتهم الموظفون حكومة إقليم كردستان بتخزين المياه لمواجهة حالات الشح لديهم. أما في وسط العراق فيتهم المزارعون في منطقة المصب أولئك الذين في منطقة المنبع بأنهم يستهلكون أكثر من حصتهم المشروعة. في هذه الحال، من شأن أي احتكاك بسيط في أوساط كهذه، تتسم بحدة النزعات القبلية الى أعلى درجة، أن ينقلب بسهولة الى نزاعات أكثر خطورة. وبمعنى آخر، فإن الإجهاد المائي يمزق نسيج مجتمع يحاول جاهداً أن ينهض مجدداً على رجليه.

ولقد بدأ الوعي مع ذلك يبزغ تدريجياً، في صفوف المجموعة الصغيرة من النشطاء الذين يزداد عددهم مع الوقت، وكذلك في أوساط أخرى قد لا تخطر فوراً على البال. قالت لنا إحدى المُتَدَيّنات عن هذا التطور في التفكير:“كان النبي محمد يقول شيئاً قد يبدو عبثياً للوهلة الأولى:”لا تسرفوا في الماء ولو كنتم على نهر جار“، ولقد أدركتُ بعد حين أن التغيير لا بد أن يبدأ بنا نحن”. ومن ضمن التدابير البسيطة التي انتَهَجَتها هذه السيدة، أنها جعلت في حديقتها عدد من الحفر التي تستخدمها لتكويم السماد العضوي طبقاً لبعض التقنيات التي طالعتها على الانترنت. الماء فعلاً كالأوكسيجين، لا بديل عنه.

أياً كان التعامل مع الماء ، سواءً كسلعة أو خدمة عمومية أو حق للجميع، فهو شرط من شروط البقاء على قيد الحياة. تُبنى المجتمعات بالمياه أكثر مما تُبنى بالآجر والمِلاط، ويدرك العراق ذلك تماماً، أكثر من أي بلد آخر . بلاد ما بين النهرين القديمة ولدت من هذه النعمة: ولن يكون للعراق بقاء إلا إذا كان جديراً بهذا الحق المكتسب بالولادة.