زيارة “الأربعين” لكربلاء في أجواء متوترة

بدأ ملايين الشيعة يسلكون مختلف الطرق الى كربلاء للقيام بزيارة الأربعين، التي يوافق تاريخها التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول هذه السنة. وفي الماضي كما في أيامنا هذه تمثل الزيارة رهاناً هاماً بالنسبة للسلطة العراقية، خاصة في الوقت الذي تهز فيه المظاهرات أركان البلاد. فعلاوة على كونها تعبيراً عن مشاعر الإيمان والتقوى الشعبية التي تحاول السلطات الروحية والمدنية احتواءها داخل إطار محدد، هي بمثابة معيار حساس للتوتر الاجتماعي والسياسي الذي يعم العراق والإقليم المحيط.

الزائرون في الطريق بين النجف وكربلاء خلال زيارة 2018
© Sabrina Mervin

“الأربعين” كما يدل اسمه هو اليوم الأربعون بعد عاشوراء، الذكرى التي تحيي شهادة الإمام الحسين، في كربلاء عام 680، وهو موسم الحج الرئيسي لدى الشيعة. ويروي التاريخ المقدس لدى الشيعة أن عدداً ممن نجوا من المعركة تم أسرهم واقتيدوا الى الخليفة، وكان قد أمر بإحضار رأس الإمام إليه في دمشق، واستطاعوا استعادة الرأس وعادوا الى كربلاء لدفنه هناك، حيث بقي جسده. وهدف زيارة الأربعين هو إحياء ذكرى “عودة رأس الإمام”. كما تهدف الى تأدية نفس شعائر الأسى على ضريح الفقيد التي أدتها للمرة الأولى عائلته، ولا سيما أخته زينب. والقيام بهذه الزيارة الخاشعة الأربعينية مؤشر يميز المؤمن الحق، حسب روايات الحديث لدى الشيعة.

“حب الحسين يجمعنا”

بعد عام 2003 شهدت الزيارة هذه انتشاراً غير مسبوق، وباتت تمثل تجمعاً واسعاً للطائفة، يستقطب الزائرين لا من العراق فحسب بل من جميع مناطق العالم التي يوجد فيها الشيعة: إيران في الجوار، ولبنان، وأذربيجان، والخليج وباكستان وأفغانستان، والهند، ناهيك عن بعض القادمين من تركيا وإندونيسيا وأوروبا (ومن ضمنها فرنسا) وأمريكا. كل واحد فيهم يعرب عن ولائه للحسين وجميعهم يعلنون عن انتمائهم للطائفة التي تلتف حول الإمام. “حب الحسين يجمعنا” شعار يلتف حوله الجميع.

وتحمل زيارة الأربعين في العراق مخزوناً سياسياً يحسب له الحكام الحساب. كانت المسيرة، تبعاً لتقاليد ترقى الى القرن التاسع عشر، تبدأ تجمعها في النجف (حيث ضريح الإمام علي، أول إمام في التاريخ ووالد الحسين)، وذلك قبل التاريخ بثلاثة أيام، كي تعبر مشياً على الأقدام مسافة ال80 كيلومتراً التي تفصلها عن مدينة كربلاء. وكانت المسيرة تنتظم تحت سلطة المسؤولين عن الأحياء السكنية والمهن المختلفة وأعيان القبائل الذين غالباً ما ينتمون الى أسر الأسياد، المنحدرين من سلالة الرسول، وتقوم مواكب العزاء بمختلف شعائر العزاء الحسيني. ولقد كانت المسيرة في الماضي، خلال العصر العثماني ثم الانتداب البريطاني فالنظام الملكي، عرضة للاحتكاكات بين فصائل قبلية متصارعة أو قناةً للاحتجاجات.

في فترة السبعينات دخلت في المسيرة الحركات الاسلامية الشيعية المعارضة للتعبير عن مناهضتها لحزب البعث الحاكم الذي كان يحاول منعها. في شباط فبراير هبت انتفاضة شعبية اعتراضاً على حظر المسيرة. فتعرضت لقمع شرس من القوات الخاصة بعد أن رفضت القوات النظامية، وغالبيتها من الشيعة، إطلاق النار على المتجمهرين. في السنوات التالية، امتنع صدام حسين عن حظر المسيرات ولكنه دس فيها أجهزة الأمن لاختراقها وفرض القيود على شعائر التعزية. وكانت ردة الفعل التحايل على هذه القيود بمسيرة سرية كانت تعبر المناطق الريفية ليلاً. وأصبح تقييد الزائرين أكثر تشدداً بعد الثورة الإيرانية عام 1979، خوفاً من تحول المناسبات لمظاهرات تأييد للجمهورية الإسلامية. ولقد حجبت الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988) إمكانية وصول الإيرانيين الى العتبات المقدسة في العراق. بالرغم من كل هذه العراقيل استمر عدد الزائرين في الازدياد وتم تقديره عام 2001 ب 2,4 ملايين. أي ما يمثل 10% من الشعب العراقي وقتها.

“الصحوة الشيعية”

في نيسان/أبريل 2003 سقط النظام البعثي قبل الأربعين بأسبوعين. وخرج ملايين العراقيين من كل المناطق الشيعية سالكين الطرق المؤدية الى كربلاء فيما اعتبره البعض “صحوة شيعية.” وحملت المسيرات رايات تختلط فيها التعابير الدينية بالشعارات السياسية. وامتزجت شعائر التعزية بفرحة الجماهير بالتحرر من نير الطاغية بل ومن قرون من السيطرة السنية، وبالتوعد بالانتقام للشهداء الذين لاقوا حتفهم على أيدي قوات القمع البعثية، والمناداة برحيل قوات الاحتلال والمطالبة بحكومة تديرها المرجعية، أي السلطة الدينية الشيعية.1

في السنوات التالية، بقيت المرجعية الشيعية التي تتمركز في النجف وعلى رأسها علي السيستاني بمنأى عن السلطة السياسية في بغداد، ولكنها استعادت منها المؤسسات الدينية التي كان البعث قد أممها، ومن ضمنها إدارة أضرحة الأئمة، وأخذت على عاتقها قيادة المواكب الحسينية عام 2018، وحسب الأرقام الرسمية، بلغ عدد الزائرين 15 مليوناً، الغالبية الساحقة منهم عراقيون، ولكن ثمة مليونان من الإيرانيين، وبضعة آلاف من الوافدين من بلدان أخرى. وسواء تعلق الأمر بالمرجعية أم بالأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد، فلقد أصبحت زيارة الأربعين مؤشراً للشرعية. فالمسألة تتعلق بإسباغ الطابع السيادي العراقي على كربلاء والعتبات المقدسة الأخرى، وجعل الوصول إليها سهلاً بالنسبة للشيعة في العالم بأسره، وتحويلها الى تظاهرة جبارة للهوية الجماعية، “واعتزازاً شيعياً” حسب العبارة التي وردت للمرة الأولى في “لوس أنجلس تايمز”، عام 2005. وكانت الحركات الجهادية السنية قد جعلتها محفوفة بالمخاطر بعد عام 2003 بشنها اعتداءات انتحارية ضد الزائرين، فجعلت من سلامة الأربعين رهاناً رئيسياً للمرجعية وللدولة. ويتم التعاون بشكل وثيق بينهما للحفاظ على حماية العتبات المقدسة والأشخاص على طول المحاور الثلاثة التي تربط بين بغداد والحلة والنجف من ناحية وكربلاء من الناحية الأخرى، والمخصصة للمسيرات. ولقد انخفض مستوى العنف بشكل ملحوظ منذ 2008، بما سمح بارتفاع مستمر لعدد الزائرين ولم يحصل في العام الماضي أي اعتداء من شأنه تعكير صفو الزيارة.

ثلاثون ألف موكب

ولقد بات من المعتاد الآن البدء بالزيارة قبل الأربعين بأسبوعين. سيل متدفق من الزائرين مشياً على الأقدام، يزور قبر الحسين ثم قبر عباس (الأخ غير الشقيق الذي سقط شهيداً في نفس المعركة)، والمقامات الثانوية ويقضي ليلة أو ليلتين في المدينة أو في ضاحيتها ثم يغادر. وكلما اقترب تاريخ الأربعين كلما ازدادت كثافة الزائرين.

عشرات الآلاف من التجهيزات المؤقتة تقام على طرق الزيارة وعلى امتداد الطرق الآتية من المراكز الحدودية مع إيران ومن مدينة البصرة الجنوبية التي تبعد 500 كم، وذلك لتوفير إمكانية التجمع في مجالس العزاء، والصلاة، وتناول الطعام والنوم واستخدام دورات المياه والعلاج الطبي والنقل الى المستشفيات إذا ما دعت الحاجة، والتزود بالأدوية، والعثور على من ضل ذويه، وتحميل الهواتف الجوالة وغسل الثياب وتصليح الأحذية وحقائب السفر وكراسي المعوقين وعربات الأطفال.

وفي هذه الشبكة المترامية الأطراف من العمران المؤقت، تتوفر كل الخدمات مجاناً، لا سيما بفضل ثلاثين ألف موكب مسجلة بصفتها “مواكب خدمة”، لدى هيئة مواكب الحسينية، بإشراف القيمين على عتبات كربلاء.

تتشكل غالبية مواكب الخدمة على أساس الروابط العائلية أو المهنية أو السكنية أو الشخصية وتوفر خدماتها بفضل تبرعات مالية أو عينية من ذويها إلا أن الحضور المتزايد للمواكب المرتبطة بالأحزاب والميليشيات الشيعية يطرح تساؤلات حول مصدر بعض التمويلات. كما أن حضور المواكب غير العراقية يتزايد أكثر فأكثر، ولا سيما المواكب المنبثقة من مؤسسات دينية لها ارتباط بالنظام الإيراني. هذه إحدى البوابات التي تستعملها إيران لمد سيطرتها على زيارة الأربعين، الا أن الغلبة تبقى لنشاط المؤسسات الدينية العراقية فلقد شيدت ثلاثة مدن عملاقة للزائرين في محيط كربلاء

المؤانسة والتعايش الودي بين شتى الجنسيات

كانت الأجواء قاتمة خلال “سنوات داعش”. كان من يشارك بالزيارة يتحدى التهديدات الإرهابية للتعبير عن تماسك الطائفة الشيعية حيال خطر وجودي

كان الزائرون يعربون عن تضامنهم مع المقاتلين الذين يحاربون ويموتون في شمال العراق وسوريا ويصلّون على أرواح الشهداء ويعزون الأسر المنكوبة. أما في نهاية 2018 أي بعد مضي أقل من سنة على تحرير الموصل تحولت زيارة الأربعين الى عرس شعبي أجواء من التعايش الودي بين الجنسيات واختلاط الأجيال.

كانت تعم الجمهور مشاعر الألفة، تخالطها مشاعر التقوى، والسعي لإتمام تجربة شخصية، وفرحة التواجد معاً. كانت الطريق بين النجف وكربلاء مكتظة بالناس بحيث بدت داكنة اللون، وتتخللها مع ذلك ألوان الرايات التي يلوحون بها، حمراء كدم الشهداء أو خضراء كعلم المنحدرين من سلالة علي.

تكثر الأمور التي تشد الانتباه، المذياع الذي يصدح بالأناشيد الدينية وأنوار الإضاءة بال“نيون” والتزيينات الملونة التي تجمع بين العبارات الدينية والدنيوية، وأكشاك الطعام والشراب والحلويات الموزعة بسخاء، والأجنحة التي تعرض صور الشهداء الذين سقطوا خلال قتالهم تنظيم الدولة الإسلامية، والملصقات والأشياء التي تحاكي مأساة كربلاء.

الباعة المتجولون يعرضون على المارة أنواعاً شتى من اللوازم المتفرقة كالقصبة التي تساعدك على التقاط صورة لنفسك (سيلفي) بالهاتف الجوال أو قميص (تي شورت) يحمل جملة بالإنكليزية تقول “ذهبت مشياً الى كربلاء” أو حقيبة ظهر تحمل صورة الحسين. هذه الأجواء الشبيهة بالمهرجان تزداد بهجةً عند دخول أحياء كربلاء السكنية حيث يسارع السكان لدعوة المارة لتذوق الحلويات المحلية أو الاستراحة (بل وحتى الاستفادة من جلسة تدليك للرجال) في الخيم المنصوبة على جانبي الطريق. وحتى لو كانت مدينة الألعاب في كربلاء مقفلة والعجلة الكبيرة ساكنة لا تتحرك، إلا أن الزائرين أنفسهم، رغم المصاعب والإرهاق من المشي الطويل، يقولون لك إنها أجواء “كارنڤال”.

في ظل الانتفاضة الشعبية

في الشوط الأخير من الزيارة، عند الاقتراب من ضريح الحسين يقام حوالي ألفا موكب على التوالي ليلاً نهاراً، كل يقوم بأدائه. أناشيد دينية تارة حماسية ومتسمة بإيقاع قوي وتارة حزينة متسمة بلوعة شديدة، تتضاهى في استخدام كل وسائل التعبير عن الورع والحسرة، ولا سيما عبر اللّطميات، التي تُضرب فيها الصدور فتهز الجسد كله فيما يشبه تصاميم مسرحية، تختلف من موكب الى آخر. وتحل الحركات التعبيرية القوية محل الدموع والخشوع الصامت عند الاقتراب من ضريح الحسين، خاتمة المسيرة.

كيف ستكون زيارة الأربعين هذه السنة، والتي توافق تاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول؟ ثمة خشية أن يكون للتظاهرات الحالية التي تهز بغداد وجنوب البلاد منذ بداية شهر أكتوبر /تشرين الأول وما تحمله من غضب عارم وما تلقاه من قمع عنيف، (فلقد أشير الى أكثر من 100 قتيل و6000 جريح، ناهيك عن الاعتقالات) أثر يمتد الى زيارة الأربعين.

فالمتظاهرون، وهم من الشباب وبشكل رئيسي من الأوساط الشيعية، يشهرون في الوقت نفسه لافتات تحمل شعارات سياسية ورايات كُتب عليها “يا حسين!” يبحثون عن مستقبل لهم في بلد مزقته الطائفية ونخره الفساد المستشري وأنهكه تدخل البلدان المجاورة. ولقد فرض حظر التجول في العديد من مدن الجنوب ووعدت الحكومة بإجراء إصلاحات. إلا أن غالبية المتظاهرين تعتبر هذه الوعود غير كافية ولم تفلح محاولات السيستاني في تهدئة اندفاع الشباب. ولقد دعت إيران رعاياها لعدم الذهاب لزيارة الأربعين وأقفلت حدودها ت، ثم عادت ففتحتها بعد أيام، لتفسح المجال لعبور الزائرين وحراس الثورة مما جعل المتظاهرين يقتنعون على ما يبدو بضرورة إحلال الهدنة.

ولقد لاح في الأفق في لحظة من اللحظات خطر تحول الأربعين وللمرة الأولى الى منبر معارضة لسلطة شيعية، من داخل الطائفة نفسها، وبوجود عشرات الآلاف من الأجانب على أرض العراق. إلا أن هدنة الأربعين قد قُبلت على ما يبدو، وكان السيستاني قد حمّل في 11 أكتوبر السلطات مسؤولية العنف، ومنحها أسبوعين لتسليم نتائج التحقيق في الأحداث الأخيرة.

1في النجف اليوم تتشكل المرجعية من عدة مراجع ومنهم علي السيستاني، الذي يتبعه العدد الأكبر من الشيعة