لبنان: حين يمتلك الخدم لغة الأسياد

على دروب العربية · في لبنان عشرات الآلاف من الخادمات الوافدات. أصبحت اللغة العربية بالنسبة لهن أداة تحرر واستقلالية

© Dalal Mitwally

كظهيرةَ يوم أحد هادئ وحارّ من شهر آب، والشوارع خاوية، على عكس طبيعة بيروت الصاخبة، عجّت شقّةٌ في الأشرفيّة بمجموعة تقارب الثلاثين سيّدة في اجتماع يُعقَد في القاعة الرئيسيّة. كنّ يستمعن إلى رهف دندش وكلّهن آذان صاغية. نحنُ في مركز العمّال الأجانب (MCC) وهي مؤسّسة تدعم حقوق العمالة المهاجرة في لبنان. كانت رهف، منسّقة مركز للعمّال الأجانب، تديرُ ذلك الاجتماع وتعدّد نقاط الحوار، إضافة إلى سردها للمستجدّات الأسبوعية حول أنشطة المؤسسة، ورحلاتها القادمة، وأمور مؤسسيّة، وغير ذلك مما يتعلّق بالمشاريع. القاعة ملأى بأعضاء المركز من مختلف الجنسيّات، مع حضور طاغٍ لعاملات من إثيوبيا والسّودان. ومن المثير للاهتمام أنه وبرغم تنوّع جنسيّات الحاضرات، إلا أن الحديث كان باللغة العربيّة.

عدد الخادمات الوافدات 250000

نشأ المركز المنبثق عن حركة مناهضة العنصريّة التي أُسّست عام 2010، لتلبية حاجةٍ تتمثّل في توفير مساحة آمنة تضمّ العاملات المهاجرات وتُدار من قِبلهنّ. وهذه المساحة تعدّ مكانًا يستطعن الاستراحة فيه، والتنفيس عن مشاعرهن، وبناء مجموعة داعمة لهن. لدى المركز ما يزيد على 500 عضوة، جئن من أكثر من 12 بلد ومن خلفيات متنوعة. يعيشُ في لبنان قرابة 250 ألف عامل مهاجر، معظمهم نساء جئن من بلدان مثل إثيوبيا، وسيريلانكا، ونيبال، وبنغلادش، والكاميرون، وغيرها. يُقدّرُ أن عائلة واحدة من كل خمس تستقدمُ عاملة منزليّة، في هذا البلد الذي يصل تعداده السكّاني إلى خمسة ملايين نسمة. تعمل أولئك النساء بمختلف أنواع المهن، ومعظمهن يتعلّمن العربيّة في بيوت لا تتحدّث بلغة سواها. وتعاني العمالة المهاجرة من ظروف عملٍ قاسية كما تعاني من عنصريّة متفشّية وتمييز جنسيّ.

يتوقّع من العاملات الأجنبيات أن يتعلمن العربيّة بين ليلة وضحاها. نساء ترعرعن في أثيوبيا وهن يتحدّثن الأمهريّة أو أخريات من سيريلانكا ترعرعن وهن يتحدّثن السنهاليّة، يستطعن اليوم التواصل بالعربيّة. غدت اللغةُ، شيئًا فشيئًا، وفي أماكن شبيهة بالمركز، وسيلةً تجميع للناس يستخدمها الناشطون وأعضاء المجموعات على حدّ سواء.

«عندما تتعلّم اللغة فإنّ ذلك يمكّنك من معرفة حقوقك، وكيفيّة التعامل مع الناس»، تقول رشا، الناشطة الإثيوبيّة والعاملة المنزليّة، المنتسبة إلى «مركز العمال الأجانب». كانت رشا واحدة من عدّة أشخاص وافقوا على مشاركة تجاربهم، لكن عن طريق الرسائل الصوتية لانشغالها في العمل وشحّ الوقت المتاح. فضّلت أخريات أيضًا ألّا يستخدمن أسماءهن الحقيقيّة، فغيّرنها حفاظًا على سرّيتهن.

أوّلُ صلة بالعربيّة

يُسمَح للعمّال المهاجرين إلى لبنان العمل عن طريق نظام الكفالة فقط، وهذا ما حصل مع رشا. يُعمَل بهذا النظام في عدّة دول في المنطقة، وتحكمه مجموعة من القوانين التي تختلف عن قوانين عمّاليّة أخرى في لبنان. تحكمُ أنظمةُ الكفالة دخول العمالة المهاجرة إلى البلد، وإقامتها فيه، وإمكانيّة توظيفها، وتمنع عنها بعض القوانين التي يتمتّع بها عادةً الموظّفون الاعتياديّون في ظلّ القانون. تشتمل تلك القوانين على الحدّ الأدنى للأجور، والتعويض مقابل الفصل التعسّفي، والضمان الاجتماعيّ، وغيرها.

تصطدم العمالة المنزليّة المهاجرة باللغة العربيّة، عمومًا، عند وصولها إلى البلد. عندما تهبط العاملات في المطار أوّل مرّة يُفصَلنَ عن المسافرين الآخرين، ويُدخلونهن إلى غرفةٍ تحت إشراف الأمن العام، الجهة الحكومية المسؤولة عن متابعة المقيمين الأجانب وإصدار إقامات وتصاريح عمل لهم. في تلك الغرفة، تنتظر العاملات وصول كفلائهن من أجل استلامهن. «ممنوعٌ أن تقولي أيّ شيء، وإن فعلتِ، فإن عنصر الأمن لن يفهمكِ»، تقول رشا، أثناء تذكّرها للحظة وصولها إلى البلد قبل 12 عامًا.

أُخذ منها جواز سفرها عندما وصلت إلى المطار وسُلّم إلى ربّ العمل، برغم أن ذلك مخالف للقانون. وفقًا لعقد العمالة المنزليّة الموحّد، الذي توقعه العاملة المهاجِرَة لدى مباشرة العمل، فإنه من المسموح لهنّ الاحتفاظ بجوازات سفرهن، إلا أن وكالات استقدام العاملات وأرباب العمل يحتفظون بأوراق العاملات الرسمية لأنفسهم، كوسيلة لمنعهن من الهرب من المنزل.

«المدام على الطريق»

عندما وصلت مايا* إلى لبنان من إثيوبيا عام 2011 وعمرها 29 عامًا، لم تفهم كلمة واحدة من اللغة العربيّة. قيل لها، أثناء انتظارها وصول ربّة عملها، أنّ «المدام على الطريق» باللغة الإنجليزيّة. «مدام» هي الكلمة المستخدمة لوصف ربّة العمل التي يتعاملن معها معظم الوقت داخل المنازل، لأنّ مهام الأعمال المنزليّة الرتيبة عادةً ما تناط بالنساء. تستطيعُ مايا فهم اللغة الإنجليزيّة مثل بعض زميلاتها، ولذلك استطاعت فهم بعض ما قيل أثناء تواجدها في المطار، «لكن عندما جاءت المدام، وجدتُ أنها تتحدّث العربيّة فقط»، قالت مايا.

«عندما ركبنا السيّارة، تحدّثت إليّ بالعربيّة فقط. لم أستطع فهم كلمة واحدة، فحاولنا التواصل بالإشارة لكن لفترة محدودة، حيث كانت تحدّثني بالعربيّة طوال الوقت، كما لو أنني كنت أفهم ما تقوله، في حين أنني لم أكن أفهم أيّ كلمة، ولا كلمة واحدة»، تقول مايا وهي تتذكّر تعاملها مع لغة سمعتها في ذلك الوقت لأول مرة.

تجربة مايا ليست فريدة من نوعها. «لن يتعلّم ربّ العمل لغتكِ. هو ليس في بلدكِ وإنما أنتِ في بلده، حيث عليكِ أن تتعلّمي لغته لكي تستطيعي الحديث معه»، تقول سلام* التي وصلت إلى لبنان من إثيوبيا عام 2011 أيضًا.

استغرق تعلّم العربيّة من سلام ثمانية أشهر، حيث تدرّبت باستمرار على اللغة، وواظبت على طرح الأسئلة، وأخذ الملاحظات، بل وطرح المزيد من الأسئلة. «طاقتي كانت مهولة، وسألت العديد من الأسئلة، لدرجة أنني أزعجتُ الناس. إن لم أفهم شيئًا فإنني سوف أسأل عنه حتى لو كانت المرّة الأربعين التي أطرح فيها السؤال نفسه. مكّنني هذا النمط في التفكير من تعلّم العربيّة»، تقول. يلّا، احكي!

إحدى أولى الكلمات التي تتعلّمها العاملات المهاجرات هي كلمات الأمر بصيغة المؤنث، حيث تستذكر مايا الأمر: «الكلمات التي كنت أفهمها في الحال هي مَيْ [ماء]، تَعِي [تعالي]، جِيبِيْ [أحضريه]، رُوْحِيْ [اذهبي]». أما أول كلمات تعلّمتها رشا فكانت «لا» و«نعم»، حسبما تتذكّر بصعوبة. لم تسمح لها ربّة عملها الإجابةَ بـYes عندما يناديها أحدهم، برغم أنّ ربّة العمل كانت تعرف اللغة الإنجليزيّة. كان على رشا أن تنطق «نعم» بالعربيّة.

الشتائم، والأوامر

تخاطَب معظم العاملات بتلك الطريقة، لذلك، ينتهي بهنّ الأمر بتعلّم اللغة العربية بالطريقة نفسها، مستخدمين نفس المصطلحات، وبناءَ الجملة، والصيغةَ المؤنثةَ لقول أيّ شيء. «اسألي أيّ عاملة مهاجرة عمّا تتذكّره عن أول صلة لها بالعربيّة وسوف تكون إجابتها هي أن أوّل ما تعلّمته وواجهته هي الشتائم، والأوامر، وأشكال أخرى من الإساءات اللفظيّة»، تقول سميّة قساملي، الباحثة في مجال الأنثروبولوجيا لدى مركز الإنسانيّات في جامعة تَفْتس، في مقابلة مكتوبة.

تتذكّر تانيا المهاجرة من سيريلانكا، أن «أول كلمة استطعتُ فهمها هي يلّا». وعند وصفها أيامها الأولى في لبنان، عدّدت كلمات أخرى: «يلّا يلّا يا سيريلانكيّة، تَعِيْ [تعالي]، امْشِيْ [امشِ]». عادة ما يُشَار إلى عاملات المنازل المهاجرات بألفاظ تزدريهن مثل أن يُطلق على إحداهنّ لفظ “سيريلانكيّة” بغض النظر عن جنسيّتها الحقيقيّة، لأن كثيرًا من العاملات المهاجرات جئن من ذلك البلد في البداية. ومن ثم استُبدلن بالإثيوبيّات [الإثيوبيّة]، عندما زاد حجم العمالة القادمة من هناك، مع الاستمرار باستخدام اللفظ عند الإشارة لأي عاملة مهاجرة بغض النظر عن جنسيّتها.

تعلم الكلمات

«كان يُغضب المدام التي اشتغلتُ عندها في البداية أنني لا أفهم ما تقوله. وكان ذلك يثير غضبي تجاه نفسي»، تقول مايا، «وعندما كانت تحدّثني لطالما قالت أنني لا أعرف التكلّم بالعربيّة، لم أكن أفهم اللغة لكنني كنت أحسّ بصراخها عليّ. كان الأمر صعبًا، صعبًا جدًّا». تتعلّم كثيرات من العاملات المهاجرات التحدّث بالعربيّة في غضون بضعة أشهر، لكن انتقاد ضعف لغتهن أو بطأهنّ في التعلّم لا يتوقّف. «هنالك مجموعة من الممارسات التي تتمحور حول كيفيّة التحدث إلى (وعن) عاملات المنازل، والتي تشكّل جزءًا محوريًّا من بنية العنف الموجّه نحوهن، وأكثره باللغة العربيّة طبعًا»، تكتب لنا سميّة. شعرت مايا بذلك. «تفهمين أحيانًا أنهم يتحدثون عنك عندما يتحدّثون فيما بينهم، ويغضبون إن لم تفهمي كلمة بسيطة من أصل جُمَل عديدة. إنه شعور سيّئ». احتاجت مايا إلى شهرين لتعلّم الكلمات والأوامر الأساسية، وستة أُخَر لتتمكّن من اللغة ومن إفهام الآخرين ما تقوله. في حين يقضي معظم المغتربين القادمين من الغرب أشهر - إن لم يكن سنوات - إقامتهم في لبنان من دون الحاجة لتعلّم العربيّة للعمل أو العيش. «تكون الأمور صعبة أثناء الأشهر الستة أو الثمانية الأولى؛ فأنتِ تتعلّمين اللغة من الصفر، كأنكِ طفل. تشرح [ربُّة العمل] لكِ الأمر مرة واحدة فقط»، تقول رشا التي كانت في الـ21 حين تعلّمت اللغة العربيّة.

لكلّ عاملة طريقتها في تعلّم العربيّة. بعضهن يشاهد المسلسلات العربيّة يوميًّا، وأخريات يتحدثن مع عاملات منازل أخريات بالعربيّة للتمرين، ويكتبن الكلمات العربية بأحرف لغاتهن، ويطرحن الأسئلة. السبيل الذي ساعد الكثيرات على التعلّم هو الممارسة. لدى رشا صديقة تعمل في لبنان منذ ست سنوات، حيث تعتني بعجوز مريضة قلّما تنطق بكلمة. «لم يتسنَّ لها أن تتمرّن، أو تتحدّث لأي شخص. سوف يخيّل إليك أنها وصلت البلد للتوّ بسبب العربيّة التي تتحدّثها»، تقول رشا.

يتكوّن معظم قاموس من تعلّمنَ اللغة العربيّة من العاملات المهاجرات، إضافة إلى مفردات الأوامر والتوجيهات، من مفردات المطبخ والأعمال المنزلية إذ أن ذلك هو مجال عملهنّ في المنازل. عملت رشا في منزل يعيش فيه أطفال، مما ساعدها على التعلّم بسرعة أكبر. «كلما جاؤوا إليّ كانوا يطلبون مني شيئًا، مثل الماء، في هذه الحالات يمكنني التعلّم بالحديث معهم»، تقول رشا.

مسألة بقاء

يسهم التحدّث باللغة العربيّة في تسهيل التواصل عند بعض الناس الذين يتحدّثون بلغات أخرى. «كما تعلمين، أفادني تعلّم اللغة العربية كثيرًا في هذا البلد»، تقول مايا. «جارتي إثيوبية أيضًا، لكنها من قرية مختلفة لا تتحدّث الأمهريّة». في إثيوبيا، هنالك ما يزيد عن 80 لغة. تكتب لنا باتريشا، التي تعمل مع صفحة الفيسبوك التي تحمل اسم «This is Lebanon»: «يعدّ إتقان اللغة العربيّة في الغالب وسيلةً للبقاء»، وتتابع مفسّرة: «كلما كانت العاملة تتحدّث العربيّة بطلاقة، كلّما شعرت أنّها أقوى». بعض ممن قابلناهنّ لكتابة هذه المقالة اتفقن مع هذا الكلام.

معظم عمالة المنازل المهاجرة من النساء، وتُضفي هذه الحقيقةُ طبقةَ تمييز جنسيّ على العنصريّة التي يعانين منها، إذ يتعرّض بعضهنّ للتحرّش والاعتداءات الجنسيّة أثناء مشيهنّ في الشوارع. يساعدك تعلّم العربيّة في الدفاع عن نفسك. «لو تحرّش بكِ أحدهم أثناء مشيك في الشارع سوف تعرفين حينها كيف تردّين عليه»، تقول رشا. يعدّ تعلّم العربيّة وسيلة مفيدة لتسيير الحياة اليومية؛ من التجوّل في أرجاء بيروت، وركوب سيارات الأجرة، ووصولًا إلى التسوّق ومفاصلة البائعين، بحسب إستيلّ*. «من الجيّد أن تتعلّمي العربيّة، إذ تبدأين تعلّمها أوّل وصولك إلى البلد لتحمي نفسكِ شوي [بعض الشيء]»، تقول إستيلّ.

يتحدّث كثيرون في لبنان بالفرنسيّة أو الإنجليزيّة، فبذلك تستطيع العاملات المهاجرات اللواتي يتحدّثن تلك اللغات تدبير أمورهنّ، حسب مكان عملهنّ. «شخصيًّا، عندما قَدِمتُ إلى لبنان كان كلّ من اضطررت إلى التعامل معهم يتحدّثون الفرنسيّة بعض الشيء»، تقول نتالي*، القادمة من مدغشقر، والتي قضت الـ23 سنة الماضية وهي تعيش وتعمل في لبنان. «كنت أحدّثهم بالفرنسيّة. وبرغم أنها أحيانًا كانت صعبة عليهم، لكنهم كانوا يصرّون على محادثتي بتلك اللغة». لكنها تعلّمت أساسيّات العربيّة، «لا أفهم اللغة العربيّة، لكنني في الحقيقة لست مضطرّة للتحدّث بها، بما أنني لم أحتج يومًا لتعلّمها. لكن إن اضطررت، أستطيع أن أُفهم الناس ما أريده بالعربيّة، لكن أن أخوض حوارًا؟ لا أستطيع ذلك باستخدام تلك اللغة»، تقول نتالي.

من العامية الى الفصحى

تتعلّم العاملات العربيّة من خلال ربّات المنازل، فيستنسخنَ لهجاتهنَ ولغاتهنّ المحكيّة، مما يخلق أحيانًا حكايات مدهشة. هذا ما جرى مع ميرا* التي عملت لسنتين لدى عجوزين من مدينة زغرتا الشماليّة، اللواتي تتحدّثان بلهجة ذلك المكان، الثقيلة جدًّا والمميّزة. بين كلّ عبارة تقول ميرا «يرحم مواتك»، وهو تعبير حزين وقديم بعض الشيء، ويرتبط بتلك المدينة، حيث يستَخدَمُ تعبيرًا عن الشكر الجزيل.

اللغة التي تتعلّمها عاملات المنازل المهاجرات أثناء عملهنّ هي المحكيّة اللبنانيّة، المغايرة تمامًا للعربيّة الفصيحة. ونتيجة لذلك، ليس من الشائع أن تستطيع كلّ من تعلّمت العربيّة القراءةَ والكتابةَ أيضًا. لذلك، يتبادلن مراسلاتهنّ النصيّة باللغة العربية لكن باستخدام الأحرف اللاتينيّة.

اتخذت رشا قرارًا مختلفًا، إذ قرّرت تعلّم القراءة والكتابة والتحدّث بالعربيّة الفصيحة برغم انشغالها في العمل. «يضحكني سماع العربيّة الفصيحة، لأن الأمر يبدو كما لو أنني لم أتعلّم الكلام بالعربيّة أصلًا، إنها لغة مختلفة تمامًا»، تقول رشا، «قلتُ لنفسي عليّ أن أتعلّم كيف أكتب وأقرأ بالفصيحة، لذلك تعلّمتُ كيف أكتب الحروف، وتدرّبتُ على ذلك».

«كلّما أردت مشاهدة نشرة أخبار المساء، كنت أدرك أنني، في بعض الأحيان، لا أفهم ما يُقال.. لأنهم يتحدّثون بكلمات فصيحة، لا الكلمات التي نستعملها في الحياة اليوميّة. دائمًا ما أحتاج تركيزًا شديدًا حتى أستوعب ما يُقال»، تشرح رشا. تضيف أنّ تعلّم القراءة والكتابة أفادها «لمعرفة ما الذي نوقّع عليه على الأقل».

يتوجّب على جميع العاملات المهاجرات، قبل انضمامهن لكفلائهن، توقيع عقدٍ رسميّ يُكتَب باللغة العربيّة. ويفترض أن يُترَجم ذلك العقد إلى عدّة لغات، إلا أن ذلك لا يتمّ، وفقًا لتقريرٍ لمنظمة العفو الدولية. إلى جانب العقود، قد يصعب عليهنّ أحيانًا تدبير أمورهنّ اليوميّة، مثل الاستدلال على وجهاتهنّ من خلال إشارات الطرق المكتوبة بالعربيّة والفرنسيّة، والتسوّق من البقّالة، وإنجاز الأوراق الرسميّة، إضافة إلى أمور بسيطة مثل تفقّد تاريخ انتهاء تصاريح إقاماتهنّ.

لدى رشا أهداف أخرى لتعلّم العربيّة الفصيحة. «طالما أنكِ موجودة في هذا البلد، قد ترغبين في بناء حياة هنا، وإنجاب أطفال. كيف ستعلّمين أطفالك كتابة وقراءة الحروف إن كنتِ لا تعرفين ذلك بنفسك؟». تأخذ رشا دروسًا في اللغة العربية لدى مركز العمّال الأجانب منذ أربعة أشهر، إذ توفّر المؤسسة دروس اللغة العربية بالمجّان، إضافة إلى الإنجليزية والفرنسية. تُعطى تلك الدروس من قِبل متطوّعين عدّة مرّات في الأسبوع، مع التركيز على نهايات الأسبوع، لأن إجازة معظم العاملات تصادف أيام الآحاد فقط. يتولّى سبعة متطوّعين إعطاء 21 درسًا بالإجمال، لما يقارب 180 طالبًا. مايا، على سبيل المثال، تأخذ دروسًا أسبوعيّة في اللغة الإنجليزيّة. «عادة ما نتحدّث باللغة العربيّة فقط في المركز، ما عدا خلال دروس اللغة الإنجليزيّة، حيث لا نتحدّث بسواها مع المعلّم، من أجل أن نتعلّم اللغة بشكل أفضل»، تقول مايا.

الدفاع عن الحقوق

عودةً إلى مركز العمّال الأجانب في ظهيرة يوم الأحد ذاك. توضح رهف (منسّقة منطقة بيروت) للأعضاء مزيدًا من التفاصيل حول التسجيل للماراثون ورحلات الشاطئ التي رُتّبت للجميع. تطرح بعض الأعضاء الأسئلة بالعربيّة، وتجري أحاديث جانبيّة بالهمس، أيضًا بالعربيّة، إلا أن بعض الكلمات تُتَرجم إلى الأمهرية عندما تحتاج إحداهنّ ذلك.

صحيح أنّ اجتماعات المركز تُعقَد باللغة العربيّة بأغلبها، لكن هناك استثناءات. عند مشاركة من لا يتحدّثون العربيّة، عادة ما يُتَرجم الاجتماع إلى الفرنسيّة أو الإنجليزيّة. «بحضور كلّ هذه الجنسيّات في لبنان، والتي تخضع للنظام نفسه، فإن الوسيلة الوحيدة لحل مشاكلهم هي في تغيير ذلك النظام. والوسيلة الوحيدة لتنظيم تلك الجهود تكمن في بناء صلة بين كلّ تلك المجموعات. بناء على ذلك، تلعب اللغة دورًا مهمًّا»، تشرح لنا رهف. مع إتقان اللغة أو بدونها، تحاول العاملات المهاجرات أخذ حقوقهنّ بأيديهنّ. بعدما قضين سنوات تحت نظام الكفالة، وبعضهنّ عقودًا، بتن يعرفن خباياه وأين يجدر بالتغيير أن يحدث، وماهية المساعدة والدعم الذي يحتجنه لتحقيق ذلك.

تتحدّث العديد من العاملات عن ظروف عمل سيئة، وعن حالات تنام فيها العاملات في الصالونات أو على الشرفات، أو يُمنَعنَ عن الطعام، أو يعملنَ في عدة منازل أخرى من دون موافقتهنّ. يَصعبُ أن تُنهي العاملات عقودهنّ في نظام الكفالة، بل إنّ ذلك أقرب إلى المستحيل. يقرّر بعضهنّ الهرب من المنزل، لأسباب تنطلق من ظروف العمل الصعبة، وامتناع أرباب العمل عن دفع الراتب، وتصل إلى الهرب من الاستغلال الجسديّ أو العاطفيّ. كلّ من تفعل ذلك تصير مهاجرة غير شرعية برسم الاعتقال والترحيل عند الإمساك بها. «الكلمة الأخيرة في هذا النظام، دائمًا، لربّ العمل. حتى عندما نكون على حقّ، فإننا نظلّ مذنبات في عيون هذا النظام. حتى وإن ارتكب ربّ العمل خطأ، فإننا من يُرَحّل»، تشرح لنا نتالي.

دُفعت العاملات في حالات عدّة، بعد أن وصلن لنهاية حدود احتمالهنّ، لمحاولة الهرب بطرق خطرة جدًّا إن كنّ محتجزات في البيت، وأخريات حاولن الانتحار أو انتحرن بالفعل. تتكرّر تلك الحوادث بمعدّلات خطرة؛ فبحسب تقرير لـ«هيومن رايتس ووتش» يعود لعام 2008، فإنّ عاملة منازل مهاجرة واحدة أسبوعيًّا تموت في لبنان، وتتراوح الأسباب بين دفعها على الانتحار، أو حادثة في العمل، أو قتلها. وبحسب تقرير آخر لـ«نيو هيومانيتاريان» يعود لعام 2017، فإن عاملتين منزليّتين تموتان كلّ أسبوع، بالمعدّل، في لبنان.

أول أيار عيد العمال

في يوم العمّال، أو في أقرب يوم أحد إلى تاريخ الأول من أيّار/مايو، وبهدف إشراك أكبر قدر ممكن من عاملات المنازل، تنظّم مسيرة سنوية لمحاولة تغيير الوضع الراهن. وكل سنة، تتّخذ المسيرة طريقًا جديدًا، عادة ما يمرّ بأحياء سكنيّة شعبيّة، بهدف نشر المزيد من التوعية. وبينما تمشي الناس في الشوارع، وتهتف وتصفّق، فإن العديد من العاملات يلوّحنَ من الشرفات، غير قادرات على الالتحاق بالمسيرة.

كثيرةٌ هي الأعلام، والشعارات، والهتافات، وبلغات متعدّدة: العربيّة، والإنجليزيّة، والفرنسيّة، والأمهريّة، وغيرها. «نحن نستهدف الشعب اللبنانيّ، لذلك تكون الهتافات في المظاهرات بالعربيّة»، تفسّر لنا رهف. تُلقى الخطابات بلغات مختلفة، لكن الإعلام اللبنانيّ التقليديّ الذي يغطّي المسيرة عادة ما يهتمّ بالخطابات العربيّة فقط.

إلى جانب المسيرة السنويّة، فالبعضُ يساعدن في الميدان. قرّرت نتالي، على سبيل المثال، أن تنشئ بنفسها شبكة عاملات وناشطات يشاركنها نفس الأفكار، إضافة إلى مشاركتها في العديد من الفعاليّات والورشات. وأسّست، برفقة سبع عاملات منازل أخريات، اتحاد عاملات المنازل عام 2016، والذي يجمع 70 مشارِكَةٍ ينتمين لما يزيد على سبع بلدان. يؤمنون في هذا الاتّحاد بتمكين المرأة على مجابهة العنصرية والتمييز الجنسيّ. تعمل نتالي بدوام كامل في المنزل الذي عملت فيه منذ وصولها إلى لبنان، وتمارس أنشطتها أيام السبت والأحد.

أما رشا، فتديرُ شبكة دعمٍ للعاملات الإثيوبيات تحت اسم “نَيَالي نَيَالي”، والتي تعني بالأمهريّة «أنتَ عوني، وأنا عونُك». وتعمل هذه الشبكة على دعم العاملات الإثيوبيّات اللواتي تركنَ أرباب أعمالهنّ ولا يعرفنَ مكانًا يذهبنَ إليه. واستطاعت تانيا أيضًا أن تحوّل تجاربها السابقة إلى مصدر قوّة، وأسّست مجموعة تضمّ 35 عاملة سيرلانكيّة. وإلى جانب هذه الأنشطة، تعمل تانيا طاهية في أحد المطاعم بعد أن تخرّجت من كليّة للطبخ، وتنظّم موائد عشاء وفعاليّات للعديد من المؤسّسات.

قرّر بعضهم نقل أنشطتهم إلى العالم الافتراضيّ بهدف إيصال صوتهم إلى أكبر قدرٍ من الناس. على سبيل المثال، تحظى صفحة This is Lebanon بما يزيد عن 47 ألف متابع لحظة كتابة هذه المقالة. وهي صفحة أنشأها ديبندرا أوبيرتي لتسليط الضوء على استغلال العمالة المهاجرة. عاش أوبيرتي في لبنان لسنوات، وتطوّع مع القنصليّة النيباليّة قبل أن يغادر إلى كندا. دفعَهُ ما يعايشه هناك إلى بذل المزيد من المجهود لتحسين الأوضاع في لبنان. تعمل تلك الصفحة على التشهير بأرباب العمل الذين يستغلّون العمالة المهاجرة بشكل أو بآخر. وتعتمد هذه الصفحة التعاونيّة على أخبار من قِبل الجيران مع الحفاظ على سريّة هويّاتهم، وعلى أخبار من زملاء أو زميلات في العمل، أو على من شهدوا حوادث الاستغلال، وتحاول من خلال عملها تأدية الدور الذي تخلّت عنه السلطات.

بدأت الصفحة بنشر كتاباتها باللغة الإنجليزيّة، إلا أنها اليوم تنشر بالعربيّة أيضًا بسبب «الأعداد المتزايدة لمصادر المعلومات العربية»، بحسب باتريشا من الفريق الذي يدير الصفحة، عبر الإيميل. ومع تزايد المنشورات المكتوبة باللغة العربيّة، «فقد وَصَلَتنا هذا الأسبوع تبليغات من ثلاثة أشخاص يتحدّثون العربيّة عن أرباب عملٍ استغلاليّين». ويدلّ هذا التزايد أنّ الجمهور الذي تصله الصفحة قد توسّع ليشمل المزيد من متحدّثي العربيّة.

الانعتاق من العبودية الحديثة

برغم الوضع الراهن، تنتشر هذه المنشورات والرسائل على امتداد السوشال ميديا والإعلام التقليديّ. برأي نتالي، فإن الطريق ما يزال طويلًا، لكنها ليست متشائمة تمامًا، فبعدما قضت في هذا البلد ما يزيد على عقدين، فإنها تشعر بأن بعض الأمور تغيّرت، مع إدراكها أن المعاملة التي تتلقّاها العاملات المهاجرات ما تزال بعيدة تمامًا عن الإنصاف. «تغيّرت الأوضاع قليلًا. بدأت الناس تفهم أننا بشر مثلهم، وأن النساء تحتاج لأن تأكل، وأن تنام، وأن النوم في الشرفات غير مناسب، وأننا أحيانًا نحتاج الحماية»، تقول نتالي.

قد يكون هنالك بعض الأمل في نهاية المطاف. قبل بضعة أشهر، صرّح وزير العمل اللبنانيّ، كميل أبو سليمان، أن نظام الكفالة يعدّ «عبوديّة حديثة» وأنه يؤمن بضرورة تغيير النظام. كانت تلك أوّل مرة يصرّح فيها مسؤول حكوميّ عن النظام بتلك النبرة، لكن يجب أن نصبر لنرى إذا أُنجز أيّ شيء على أرض الواقع. لكنّ هذا التصرّف على النقيض تمامًا من تصرّفات الوزير السابق الذي حظر إنشاء نقابة للعمالة المهاجرة ووقف سدًّا في وجه أي تغيير. في الخلاصة، تقول نتالي بحماسة: «أصدقكِ القول أنني ما زلت على أمل. نشطتُ في مجال حقوق العمالة المهاجرة منذ 10 سنوات إلى اليوم، وسعدتُ بتصريح الوزير. أشبعني ذلك الفتات، إذ لم يسبق لنا أن أكلنا حتى الفتات من قبل، وأنا لا أفقد الأمل». بانتظار تغيّر الأحوال، باتت أعداد كبيرة من المواطنين المهاجرين تتحدّث لغة جديدة الآن، ويجعلونها لغتهم.

تمزج بعض من التقيناهنّ لكتابة هذه المقالة بين العربيّة ولغاتهنّ الأم، حتى أثناء حديثهنّ مع عوائلهنّ في بلدانهنّ. «أمزجُ بين اللغتين عندما أتحدث مع أهلي. أقولُ “يعني” كثيرًا عندما أتحدّث الأمهريّة، كما أقول “شو”، و“مثلًا”. أستخدم الأخيرة بكثرة»، تقول مايا. وذلك هو الجمال والقوّة الكامنة في تعلّم لغة جديدة، وفي جعلها لغتك الخاصة.