حِراك...

كيف نشأت الكلمة وانتشرت · منذ بضعة أشهر ظهرت بشكل مكثف كلمة “حِراك” كوصفٍ للتحركات المتعاظمة في العالم العربي. وهي كلمة جديدة من حيث النطق، تثبت لنا أن اللغة العربية لغة حيةّ، شأنها شأن العالم الذي تعيش فيه وتواكب تحولاته.

الجزائر، وسط المدينة، نيسان/أبريل 2019

منذ ال22 من شباط فبراير يتظاهر الشعب الجزائري مرتين على الأقل في الأسبوع، فيخرج الطلاب والطالبات الى الشوارع كل يوم ثلاثاء في حين تخرج سائر فئات الشعب في أيام الجمعة. نشأ هذا الحراك الوطني المسالم إثر الاعتراض الشعبي العارم على للولاية الخامسة للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، ويطالب اليوم بتغيير عميق في النظام السياسي. موجة الاحتجاجات هذه التي اشتهر أحد شعاراتها باللهجة العامية “يتناحاو كاع” (فليرحلوا جميعاً) بات لها مسمى يستخدمه المسؤولون الرسميون أنفسهم، ألا وهو “حِراك”.

الكلمة مشتقة من الجذر ح-ر-ك وتحمل بطبيعة الحال نفس المعنى. إلا أن اللفظ بكسر الحاء بدعة لغوية، حتى لو كان المبنى سليماً من حيث تركيب الأحرف. ولقد بدأ استخدامه منذ زمن قريب، عام 2007 بنشوء “الحِراك الجنوبي” في اليمن، وهو تشكيل سياسي انفصالي تزود عام 2009 بجهاز عسكري.

وقبل قيام التحرك الأخير في الجزائر في أكتوبر 2016 كان المغاربة في شمال أفريقيا قد استخدموا هذا اللفظ في منطقة الريف عبر ما سمي ب “الحراك الشعبي في الريف”. ومنذ أكتوبر /تشرين الأول بدأ الناس يستخدمون هذا اللفظ لوصف ما يجري في لبنان وكذلك في العراق إشارةً إلى الاحتجاجات الشعبية ضد السلطات الحاكمة. كما نجد اللفظ في عدد من التقارير الصحفية المتعلقة بالمظاهرة التي جمعت بضعة آلاف من الكويتيين ضد الفساد في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 .

أصبح بالتالي هناك توافق عام بالآراء حول هذه الكلمة كتعبير عن مرحلة جديدة من الانتفاضات الشعبية في العالم العربي. ومع ذلك ثمة بعض التحفظات على اللفظ وتعميمه، إذ حاولت قنوات فضائية مثل الجزيرة والعربية إسباغ طابع الفصحى عليه، فنطق الصحفيون به بفتح الحاء أي “حَراك”. وهو لفظ سليم موجود أساساً في الفصحى. وبالطريقة نفسها ينطق به مصطفى بوشاشي، وهو من الشخصيات الإعلامية في حركة الاحتجاج.

هذا النطق بالفتحة يسمح بالاقتراب من كلمة أخرى شائعة في الشأن العام ألا وهي “حركة”، بالإشارة إلى أي تحرك سياسي أو اجتماعي. ففي الجزائر مثلاً، يشار بعبارة “الحركة الوطنية” إلى التحرك الوطني الذي أدى إلى استقلال البلاد.

وسواءً أكان الخيار “حِراك” أم “حَراك”، أي أحد هذين اللفظين في صيغة المذكر، يجدر بنا أن نتساءل لماذا تم تفضيلهما على كلمة “حَرَكة” (في صيغة المؤنث)؟ من المستحيل الإجابة بدقة على هذا السؤال. فقد يُعزى الأمر إلى إيقاع كلمة حِراك، إيقاع وجيز مدوٍّ كطلقة نارية، قد يقترب من إيقاع كلمة “حريق”، بما يفيد معنى الحركة التي تفيض عنفواناً وتتأجج جمراً.

وثمة تفسير آخر ممكن، فيما يخص الجزائر تحديداً، حيث يفضل البعض لفظ “حِراك” (بكسر الحاء) لأن نطق حَراك (بفتح الحاء) يعيد إلى الأذهان كلمة أخرى مشتقة من نفس الجذر، وهي كلمة “الحَرْكة” (مع تسكين حرف الراء) التي تشير الى “الوحدات المتحركة” خلال حرب تحرير الجزائر. وكانت هذه الوحدات تتكون من “الحَرْكيين” (بتسكين حرف الراء)، أي المتعاونين مع الاستعمار، وهم من المسلمين المنضمين إلى الجيش الفرنسي في حربه ضد جبهة التحرير الوطنية.

أما السينمائي والكاتب الجزائري قدور نعيمي فهو يعترض على لفظ “الحِراك” الذي يجده مبهماً وبليداً، لا طعم له ولا لون كال“العلكة” التي تلوكها الأفواه، ويفضل عليه كلمة “انتفاضة” وهو الأمر الذي يشرحه لنا في مدونته الناطقة بالفرنسية.

فكلمة انتفاضة تحتوي على فكرة الهزّة الشافية أو الزلزال الذي يتيح الخلاص. كما يندد الكاتب بإعجاب الجمهور بأغنية “الحرية” لمغني الراب سولكينغ التي يهتف بها المتظاهرون في مواكب الحراك. ويعتبر أن “ما يسمى بالحراك إنما هو تحرك شعبي جزائري قام عام 2019 على شكل”انتفاضة“ضد طغمة انتهازية أوليغاركية حتى ينفض الشعب عن نفسه كل ما علق به من غياب الوعي ومن القاذورات الإجتماعية التي وقع ضحيتها، فيستعيد كرامته” . وكما يلاحظ الكاتب، فإن هذا اللفظ مرتبط بشكل عضوي بالقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي حال دون تبنيه من بعض الجزائريين، مع أن الصحافة المستقلة تلجأ إليه من حين إلى آخر، كمرادف لكلمة حِراك.

في الجزائر كما في لبنان والعراق نجد كذلك عبارات “عصيان مدني” و“مظاهرات سلمية” و“اعتصام” وأخيراً وليس آخراً الكلمة الأثيرة “ثورة”. ولكن في الحالة الجزائرية بالذات، لم تنجُ هذه الكلمة من الصفة الملازمة لها، في البداية على الأقل، ولأغراض الترويج الإعلامي، ألا وهي “ثورة الابتسامة”، كما كانت الثورة التونسية عام 2011 قد وصفت ب “ثورة الياسمين”. وهي صفات لا علاقة لها بقساوة القمع الذي يتعرض له المتظاهرون. ولقد تخلى أصحاب الحِراك بسرعة عن عبارة “ثورة الابتسامة” هذه وفضلوا عليها عبارة “ثورة سِلمية” نسبة الى السلام. بل وتبقى الصفة وحدها أحياناً، “السلمية”، لترفرف عالياً كرايةٍ معبّرة بحد ذاتها. مما يدل على الطابع الإبداعي في هذا التحرك الاحتجاجي الذي لا ينوي التدمير والتحطيم بل السير في مواكب واثقة تصدح بالغناء، بعيداً عن الأضرار المادية والبشرية، للمطالبة بالتغيير الحقيقي.