العراق: حين يطغى العامل الوطني على العامل الديني

الرهان الذي تدور حوله اللعبة السياسية اليوم في الانتفاضة العراقية ليس مستقبل السلطة في البلاد فحسب بل نفوذ إيران داخل العراق كذلك والعلاقة بين منظومة رجال الدين في كلا البلدين.

“أهلاً وسهلاً بإخواننا الإيرانيين”.. هكذا يهتف المُدَلِّك بينما يتمدد الحاج على الطاولة. ويبدأ بتدليك كتفه بقوة ثم ظهره ورجليه، قبل أن ينتقل إلى الحاج التالي. على الطريق بين النجف وكربلاء يستمر تدفق المارة دون هوادة، والعديد منهم يأتي من إيران المجاورة.

هناك مجموعات كاملة من العراقيين، من العائلات والقبائل والأحياء السكنية، ممن ينظمون أمورهم في موسم الحج حول ما يجلب لهم القوت: فتراهم يوفرون المياه والشاي والغذاء والعناية الطبية وتصليح الأحذية والسرير لقضاء الليلة وجلسة التدليك لإزالة التعب. وتقترن هنا الضيافة العراقية التقليدية بالواجب الديني المتمثل ب“خدمة الإمام حسين” وكل من يزوره، خاصة خلال زيارة الأربعين، التي تحيي ذكرى انتهاء فترة العزاء بشهادة الإمام وأقربائه في كربلاء عام 680.

ولقد توافد الإيرانيون بأعداد كبيرة هذه السنة بعد فتح الحدود في موسم الزيارة: كانوا 1,8 مليون عام 2018 حسب الأرقام الرسمية، أما عام 2019 فلقد بلغ عددهم ال2,5 مليون. ويتيح الاختلاط بين كافة الناس خلال المسير في تلك الأجواء الودية الهادئة نحو ضريح الإمام فرصة حقيقية لكسر الصور النمطية عن الشعوب واللقاء بين البشر. ولكن اللغة الفارسية مسموعة أكثر من غيرها في شوارع كربلاء، والمؤسسات الإيرانية أكثر بروزاً من ذي قبل. بعض السكان يتهربون من أي سؤال حول الموضوع، في حين يتذمر آخرون بشكل متكتم، في المحادثات الخاصة، بالرغم من الظهور بمظهر الترحيب أمام الحجاج الأجانب: وذلك حباً بالحسين الذي يجمع شمل كل الشيعة فلا بد من الترحيب بالزوار بشكل لائق.

هدنة خلال الاحتجاجات

زيارة الأربعين التي استقطبت حشود المتدينين الى كربلاء حتى ال 19 من أكتوبر 2019 شكلت نوعاً من الهدنة. فالاحتجاجات التي هبت في بداية الشهر هدأت لفترة وجيزة لا بسبب القمع، بل بهدف السماح بإتمام الزيارة على أكمل وجه وللأجانب القادمين من كل أنحاء العالم بسلوك الطرق المؤدية الى كربلاء بشكل آمن.

بالنسبة للمتظاهرين وكذلك بالنسبة للسلطات، لم يكن الوقت مناسباً لاستخدام الدين لأغراض سياسية. وحده مقتضى الصدر كان قد طلب من أتباعه السير هاتفين بالشعارات السياسية: ولقد ظهر هؤلاء في مسيرتهم لا بلباس الحداد الأسود التقليدي كغيرهم بل ملتفين بكفن أبيض، وهاتفين بشعارات معادية لإسرائيل والولايات المتحدة. أما وحدات الحشد الشعبي فلقد اتخذت مكانها الى جانب الجيش وقوى الشرطة لضمان الأمن. وكان أعضاء بعض الميليشيات الملثمين بلثام أسود يتمركزون على الطرق الفرعية لا الرئيسيّة، ولا يظهرون داخل المدن.

حال انتهاء الهدنة، وعودة الحجاج الى ديارهم، عادت الاحتجاجات الى الساحة. حاول مقتضى الصدر أن يطرح نفسه كزعيم وحدد تاريخ 25 أكتوبر لاستئناف الاحتجاجات، إلا أن الحركة الشعبية سبقته بتنظيمها مظاهرة عشية ذلك التاريخ. وكما في موجة الاحتجاجات الاولى كانت الشعارات سياسية بامتياز “لبيك يا عراق!” كان شعاراً منحوتاً على وزن “لبيك يا حسين!” وهو من الهتافات الدينية المعروفة خلال زيارة الأربعين.

كما كانت الرموز أيضاً سياسية والأساليب معبرة عن غضب الشعب. كانت الرايات المرفوعة تقتصر على العلم العراقي دون غيره. كما ظهر مجدداً الحذاء الذي تحول سلاحاً حين رماه أحد الصحفيين على رأس جورج بوش عام 2008. فبات يستخدم لتحقير صور الزعماء السياسيين. وللتهكم علناً على النخب الفاسدة والمطالبة بأبسط الخدمات والأمور الأساسية كالكهرباء والعمل. وللمطالبة، في نهاية المطاف، بإعادة تأسيس النظام الذي تم إحلاله عام 2003، في ظل الاحتلال الأمريكي، والنأي به عن الانقسامات الطائفية وسياسة المحاصصة. وإن كان الشيعة من وسط البلاد وجنوبها هم الذين يحتلون الشوارع، فذلك لأن العديد من السنة لا يجرؤون على التعبير عن غضبهم خشية وصمهم باتباع داعش أو البعث.

هذا الشعب خرج من تلقاء نفسه، لا يركب أي موجة

لم تعد الأيديولوجية تسيطر على المتظاهرين، ولم تعد الحكايات الأسطورية تلهمهم، ولا نظريات المؤامرة تستهويهم، ولا موازين القوى بين الأقوياء تهمّهم. همّهم الأكبر بات الحاضر، الحياة اليومية، فهي التي تولد أبطال الاحتجاجات، ومنهم سوّاقي سيارات التوك توك الذين يتسللون بين الناس لإغاثة الجرحى. لا يريدون من الأحزاب السياسية وزعمائها وعلى رأسهم مقتضى الصدر، الزعيم الذي لا يمكن التكهن بتصرفاته، ، أن “يركبوا الموجة” لاحتواء الحراك.

ما زال صوت السيستاني، المرجع الديني الأعلى لدى الشيعة في العراق، مسموعاً، سيما أنه يقف إلى جانب المتظاهرين، لكنه لا يبادر بالموقف ولا يحدد المسار. قد يعتبر البعض أن الحراك تجاوزه، بما يزخر به من طاقات شابة باتت الطرف الرئيسي الفاعل.

وفي الواقع تختلف المواقف حيال آية الله السيستاني، حسب نوعية المتظاهرين، فلديك أولئك الأكثر علمانية الذين لا ينتظرون منه أي شيء على الإطلاق، ولديك من يتمنى أن يستمر في لعب دور المرجع الديني الذي يتدخل في السياسة في فترة الأزمات، ولديك أخيراً، وفي أوساط رجال الدين خصوصاً، من ينتظر منه موقفاً واضحاً حول ما يتعين على الحكومة أن تفعله، كأن تستقيل أو لا تستقيل.

بغض النظر عن المرجع الديني فهناك الممارسات العملية، وأسلوب التعامل مع الدين لدى الناس، في التعبير عن مشاعرهم وتنظيم أمورهم. فالمجموعات التي تشكّلت لزيارة الأربعين كانت قد ساهمت قبل ذلك في جهود الحرب على داعش، وتطوعت لتأمين الأغذية والأدوية وتنظيم الخدمات لصالح المتظاهرين، ناهيك عن التبرعات التي تدفقت لمساندتهم. كما تم التخلي عن بعض الشعارات السياسية-الدينية الطنانة. ومع ذلك فإن التديّن العادي، اليومي، تدين رجل الشارع، أو سمّه ما شئت، هذا التدين بات يوظف في خدمة الاحتجاجات. وذلك حتى في حرم ضريح الإمام الحسين، في كربلاء، حيث يتصاعد صوت المنشد الديني الرسمي (الرادود الحسيني) بكلمات:“يا نبينا الشعب ثار وطلع يرفض المذلة، اللي جاب قناص على شعبه هذا خارج عن الملة، الدولة ما بيها شريف، والشريف اللي فيها قلة... لا تصدق بحكي الإشاعة ...كلهم حرامية الجماعة”، في هذا الشريط الذي يدور على اليوتيوب يتوجه الرادود الحسيني الى جمهور من المتدينين المتدثرين باللون الأسود، معبراً عن حسرته حسب الأصول، وبالأشعار الموزونة. وبلغ النشيد المتظاهرين في لبنان فطوّعوه على مزاجهم، وغيروا بضع كلمات فيه:

نفوذ متعاظم ولكنه يصطدم بمقاومة الشعب

أما “الشقيق” الإيراني فيخضع للتحقير والاستهزاء، من بغداد الى البصرة مروراً بكربلاء والنجف، المدينتين المقدستين الأساسيتين في الوسط الجنوبي للبلاد. حيث يُتّهم بالتغلغل داخل أجهزة الدولة على كل المستويات، والمشاركة بالفساد المستشري، وبتضييق الخناق على الاقتصاد العراقي بحجة مساندته. ومن هتافات المتظاهرين، باللهجة العامية، “إيران برا برا، العراق حرة حرة”.

وإن التحق طلاب العلوم الدينية في المدينتين المقدستين بالمظاهرات فليتذمروا من نفس الآفات التي يعاني منها سائر فئات الشعب. فالشعارات السياسية الدينية لم تعد تلتف حولها الجماهير والإسلام السياسي لم يعد الإطار المرجعي للحركة الاحتجاجية. ولقد عززت إيران في السنوات الأخيرة من نفوذها في العراق على الصعيدين السياسي والاقتصادي وكذلك العسكري، عبر الروابط التي تقيمها مع بعض وحدات الحشد الشعبي. يصعب أحياناً تحديد مواقف هذه الوحدات. عادة، عندما كان العراقيون يتحدثون عن الحشد الشعبي، كانوا يعربون عن اعتزازهم لكون هذا التنظيم، الذي يكاد يكون جيشاً موازياً، قد انتصر على داعش، بمساندة الشعب. أما اليوم فيصعب عليهم التمييز بين الحشد وبين بعض العناصر المنتمية إليه والتي يتهمونها باستهداف المتظاهرين وقتلهم أو بالقيام بعمليات اختطاف. من ناحية أخرى فجنود الحشد الشعبي هم أيضاً عراقيون ولهم مآخذهم على المؤسسة إياها. ولقد أتت دراسة إنترسبت لمئات الوثائق السرية المسربة من وزارة المخابرات الإيرانية بين عام 2014 و2015 في وقتها لتلقي ضوءً كاشفاً على أوضاع أقل ما يقال فيها إنها غامضة، وبينت الوثائق النفوذ الإيراني في العراق بعد الانسحاب الأمريكي عام 2011. وفي الواقع لم تكن هذه التسريبات سوى تأكيد علني على الملأ لما كان العراقيون يشتكون منه بشكل متكتم وهي بالتالي لم تفاجئ أحداً.

مقاومة رجال الدين لسيطرة طهران

لقد قاوم عدد لا يستهان به من أوساط رجال الدين السيطرة الإيرانية المتعاظمة في المدن الشيعية المقدسة، ولا سيما مرجعية النجف المرجعية الدينية المؤلفة حالياً من أربعة من كبار رجال الدين وعلى رأسهم علي السيستاني. ولقد استغرقت عملية عودة النشاط الى حوزة النجف وهي المعين العلمي المفضل لدى رجال الدين الشيعة، بعض الوقت بعد الضربات التي وجهها إليها صدام حسين، وما عانته من الأوضاع المترتبة على الحرب. في حين أن حوزة قم، التي حظيت بتأييد الجمهورية الإسلامية، كانت تزدهر. أما اليوم فحوزة النجف عادت تؤكد سماتها المميزة في التعليم الديني التقليدي إلا أن إيران مستمرة في زرع نموذجها وتعاليمها العقائدية شيئاً فشيئاً.

وكان محمود الهاشمي الشاهرودي، أحد كبار رجال الدين الإيرانيين، المتوفي منذ بضعة أشهر، قد حاول أن يستقر في النجف ليظهر كمن يخلف السيستاني فيها إلا أن هذا الأخير لم يسمح له بذلك.

ولكن إيران نجحت في دسّ مؤسساتها داخل المدن المقدسة العراقية، وبات عدد الزوار الإيرانيين في المناسبات الدينية يزداد مع الأيام، ناهيك عن التجار والشركات والبنوك وكافة الجمعيات العاملة فيها. كما تشارك إيران بكثافة في توسعة أضرحة الأئمة وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم دون موافقة السلطات الدينية وعلى وجه الخصوص وزارة الأوقاف. حاول بعض المتظاهرين في كربلاء إشعال القنصلية الإيرانية. في النجف أعيد إطلاق اسم آخر على شارع الإمام الخميني: شارع ثورة أكتوبر. هكذا تبين أن ما يمكن تصوره على أنه وحدة شيعية عابرة للأوطان ظاهرة لها حدودها كما أن لكل بلد ثورته.

ولقد اضطر آية الله السيستاني شيئاً فشيئاً الى توضيح موقفه. ولقد كذّب مكتبه المعلومات التي نشرتها إحدى وكالات الأنباء بأن ابنه محمد رضا قد شارك في اجتماع مع كل من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس ومقتضى الصدر ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي، للاتفاق على مبدأ تأييد الحكومة. وأعلن تأييده للمتظاهرين وللإصلاحات التي يطالبون بها، دون أن يذهب إلى حد تبني مطلب إعادة صياغة الدستور. ولكن بعد احتراق القنصلية الإيرانية في النجف، في 28 نوفمبر، والقمع الوحشي الذي تلاه، تخلى السيستاني عن الحكومة وأعلن عبد المهدي نيته الاستقالة في اليوم التالي، واستخدم نفس الكلمات التي تفوه بها أحمد الصافي في خطبة الجمعة. ويمكن القول إن الشارع العراقي، بعد سقوط 400 قتيل وإصابة آلاف الجرحى ناهيك عن جموع المعتقلين، قد كسب شوطاً. ولكن المعركة لم تنته بعد، وشأنهم شأن اللبنانيين الذين يهتفون بالعامية “كلن يعني كلن”، فالعراقيون أيضاً ما زالوا يهتفون بسقوط الطبقة الحاكمة بأسرها.