“السلم الروسي” في الشرق الأوسط: ما هي احتمالاته؟

بعد أربع سنوات من شنّ عمليتها العسكرية في سوريا، تمكّنت روسيا من تحقيق استقرار في الوضع. وتتمتع بموقع الوسيط، إن لم يكن الحكم، في كل القضايا الإقليمية. وهو موقع فازت به بفضل نوعية العلاقات التي سهرت على إقامتها مع غالبية الأطراف الفاعلة. من جهة أخرى، يندمج الشرق الأوسط ضمن استراتيجية القوة الشاملة التي ينتهجها الكرملين.

ماذا تريد روسيا في الشرق الأوسط؟ يعود هذا السؤال بانتظام، ليس لنجاح موسكو في إعادة النظام السوري ضمن اللعبة من جديد فحسب، بل لأنها أصبحت جهة فاعلة أمنيا ورائدة في المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط. ومع ذلك، ليس من نوايا موسكو إقامة أي نوع من “السّلم الروسي” كبديل “لسلم أمريكي” يحتضر، إذ ليس لها لا الوسائل ولا الرغبة في ذلك. لقد استخلص الكرملين الدروس من الحقبة السوفيتية، عندما قام الاتحاد السوفياتي -بدافع أيديولوجي - بتقديم مساعدات عسكرية ومادية واقتصادية مكثفة إلى البلدان التي انضمت إلى المعسكر الاشتراكي. فذكرى تلك المليارات من الدولارات التي أنفقت بسخاء في قضية خاسرة والوسائل المالية التي انحسرت كثيرا في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي تجعل الكرملين يعتمد نهجا أكثر واقعية. إذ نجمت عن المساعدة العسكرية-التقنية السوفياتية وحدها ديون متراكمة بلغت عدة مليارات من الدولارات لدى بلدان مثل ليبيا وسوريا والعراق، وقد اضطرت روسيا إلى التفاوض بشأنها، وفي كثير من الأحيان محوها في سنوات 2000 (مقابل إبرام عقود جديدة لبيع الأسلحة).

ويرى البعض في موسكو بأن مبلغ الخمس مليارات دولار من القروض التي تفكر روسيا في منحها لإيران استثمار محفوف بالمخاطر في ظل الركود الكبير للاقتصاد الإيراني، الذي سيشهد ركودًا بنسبة 9.5٪ في عام 2019 وفقًا لصندوق النقد الدولي1 وتنامي مظاهرات الاحتجاجات في البلاد.

“بطاقة العمل” السورية

يلعب انسحاب واشنطن من الشرق الأوسط -والذي ترك المجال لاثنين من حلفائها الرئيسيين هما إسرائيل والسعودية- بصفة جلية لصالح روسيا. وفي مقابل هذا المجال الدبلوماسي المتروك والتذبذب الذي أظهرته إدارتا أوباما وترامب في سوريا، أظهرت موسكو عزيمة قوية في نفس الملف. وقد باتت موسكو تقدّم المثال السوري -سواء في المنطقة أو أبعد من ذلك في أفريقيا وحتى في فنزويلا- ضمن منطق شامل لإعادة تشكيل النفوذ وتحدي الزعامة الأمريكية.

كما يلعب صدى النجاح العسكري الروسي في سوريا دور الموازن للقوة أمام الهيمنة العسكرية التي لا تزال تشكلها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويبقى للولايات المتحدة 60 ألف رجل مرابطين في قواعد تنتشر في جميع أنحاء المنطقة، بينما تطوف منذ أسابيع في مياه الخليج مجموعة بحرية-جوية تقودها حاملة الطائرات النووية “أبراهام لنكون”. لم يسبق أن أرسلت البحرية الأمريكية هذا العدد من القوات الى الشرق الأوسط ، بل أن واشنطن تفكر بإرسال 14,000 جندي إضافي.

لا تقاس الأرباح التي جنتها روسيا في الشرق الأوسط بفضل حملتها العسكرية السورية باسترجاع مكانتها كقوة عظمى فحسب، بل أيضا وبشكل متزايد بالجانب الاقتصادي. ففي سياق نمو حجم التجارة الخارجية الروسية منذ 2015، تتزايد باستمرار حصة شركاء موسكو التجاريين في الشرق الأوسط: فإذا كانت تمثل 6،1٪ في سنة 2016، فقد وصلت إلى 7،1٪ في 2018. وفيما يتعلق بمبيعات الأسلحة، وعلى الرغم من انخفاض حجم الصادرات السنوية من المعدات العسكرية الروسية، هناك زيادة واضحة في حصة بلدان الشرق الأوسط خلال الفترة 2014-2018، فهم يتلقون ما بين 45٪ و48٪ من مجمل صادرات الأسلحة الروسية، وهو ما يعادل حصة الزبائن الآسيويين الذين كانوا يمثلون في السابق من 60٪ إلى 70٪ من حقيبة صادرات المعدات العسكرية الروسية.

وهكذا نرى بأن المركب العسكري-الصناعي الروسي استفاد من “العامل السوري”.

في مثلثات الشرق الأوسط

منذ حلول “الربيع العربي” وتخفيض الوجود الأمريكي ثم دخول روسيا في سوريا، برزت ثلاثة “مثلثات” على الساحة الاستراتيجية في الشرق الأوسط.

ففي السياق السوري دون-الإقليمي ظهر ثلاثي أستانة ـ المشكل من روسيا وإيران وتركيا ـ منذ نشأته في نهاية 2016 كالمنتدى الأكثر نشاطا من أجل استقرار الأزمة. وقد بدا هذا المثلث مفيدا جدا خلال المحادثات بين الروس والأتراك والإيرانيين بخصوص كيفية استسلام مختلف مناطق “خفض التصعيد” في 2017 ـ 2018.

فمنتدى “أستانة” الذي له قبل كل شيء بعد عملي وتقني مع تأثير ميداني قوي على المستوى التكتيكي بل حتى العملياتي، قد استمر بعد اختفاء المناطق التي أنشأها. وتعود استمراريته وقدرته على التكيف في طرق تسييره بصفة كبيرة إلى مرونة موقف عرَّابيه.

وقد برز اتجاهان منذ نشأته: غلبة الفرع الروسي-التركي ضمن مثلث أستانة وتبلور التنافس الروسي-الإيراني حول مركز المثلث والذي يجسده بشار الأسد. تعد الغلبة الروسية التركية الملاحظة في 2018-2019 نتاجا لسياق مزدوج: التوترات القائمة حول آخر منطقة خفض التصعيد الباقية -أي إدلب- من جهة، وتلك المرتبطة بتبعات الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية من الشمال الشرقي السوري في خريف 2019 من جهة أخرى. وفي كلتا الحالتين، كان التفاهم بين موسكو وأنقرة، المبني دوما على قاعدة الصفقة والأجل القصير، حاسما في تفادي تصعيد الوضع دون أن يحلّ مع ذلك المشاكل الأساسية.

من جهة أخرى، من شأن انطلاق اللجنة الدستورية2 تحت إشراف الأمم المتحدة نهاية أكتوبر-تشرين الأول أن يزيد في التنافس القائم بين الروس والإيرانيين في سوريا. وبالفعل سيُطلب من دمشق، في إطار هذه اللجنة، تقديم تنازلات سياسية مرتبطة بتعديل جزئي أو كلّي للدستور السوري. وفي هذا السياق، وأمام الضغط الذي قد يتعرض له النظام السوري من طرف حليفه الروسي، لن يكون أمامه بديل آخر غير البحث عن هامش مناورة لدى عرّابه الآخر -أي إيران- المهمش في عملية اللجنة الدستورية.

قوة تحافظ على استمرار الوضع القائم

المثلث الثاني الذي ظهر هو ذلك الذي شكلته على المستوى الإقليمي ثلاث قوى شرق أوسطية: المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا. لهذه الجهات الفاعلة الثلاث أجندات إقليمية وهي تتنافس على الزعامة التي أخذت شكلا حادا في سوريا. وتبرز هذه المنافسة أيضا بقوة في مسارح اخرى، كليبيا واليمن، وبشكل أقل عنفا في لبنان.

تتموقع روسيا في وسط هذا المثلث كونها تتمتع بعلاقات بنّاءة -على الرغم من أنها تخضع لديناميكيات خاصة- مع الأطراف الفاعلة الثلاث.

وشهدت الأخيرة من جهة أخرى تطورا في علاقاتها مع واشنطن خلال السنوات الأخيرة. فالروابط بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، وإن بقيت قوية، أخذت طابعا تجاريا ملحوظا منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. أما العلاقات بين أنقرة وواشنطن، فقد تدهورت بشكل كبير بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس التركي في صائفة 2016. وأخيرا، فإن الهدف بين الإيرانيين والأمريكيين هو تفادي وقوع حادث قد يتحول إلى نزاع مفتوح.

من وجهة نظر موسكو من الضروري الحفاظ على علاقات عمل جيدة مع هذه العواصم الثلاث، مع العلم أن هذه العلاقات لا تستند إلى بناء الثقة بل تستند إلى منطق المصالح. لدى السعوديين في الواقع وسائل تأثير قوية يأخذها الروس بعين الاعتبار: إنتاج النفط وقوة مالية ضاربة معتبرة تريد روسيا أن تستفيد منها والعامل الديني. نفس الحال ينطبق على تركيا: فهناك عامل النطق باللغات التركية في المجال ما بعد الاتحاد السوفياتي والتحكم في المضايق (البوسفور والدردنيل) والنفوذ التركي في البلقان… كما تخشى بقوة كل من إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية بروز حركات احتجاج شعبية في بلدانها شبيهة بـ“الربيع العربي”.

وفي هذا الصدد، من شأن الخطاب المحافظ الذي تتبناه روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ـ حيث تظهر موسكو كقوة تعمل على الحفاظ على الوضع القائم ـ أن يطمئن كلاّ من الرياض وأنقرة وطهران. ولكنه يُعدّ عامل التقارب القوي الوحيد بين روسيا وإيران، إضافة ربما إلى مسألة استقرار الوضع في أفغانستان. ففضلا عن تقدير مختلف حول طرق تسوية النزاع السوري، فإن الروس لا ينخرطون أيضا في الأجندة الإيرانية في الخليج (اليمن والموقف الإيراني بخصوص مضيق هرمز ومياه الخليج) في حين يلاحظ الطرفان تقلصا مستمرا في حجم تبادلهما التجاري منذ عشر سنوات3.

بين الولايات المتحدة والصين

يتكون المثلث الثالث الذي يبرز في الشرق الأوسط من قوى من خارج المنطقة، وهي روسيا والولايات المتحدة والصين. ولهذه الأطراف الفاعلة أجندات إقليمية وكذلك عالمية شاملة تندمج فيها المنطقة. إذا كانت القوة الأولى - روسيا- تمتاز قبل كل شيء بقدرتها الموسعة في التحاور مع كل الفاعلين، تبقى الثانية قوة عسكرية لا يمكن تجاوزها والثالثة فاعلا اقتصاديا من الصنف الأول.

يتوافق هذا المثلث تماما مع ذلك الذي رسمه هنري كسنغر، الذي كان وزيرا للخارجية ومستشار الأمن القومي في إدارتي نيكسون وفورد. وقد أقام نظرية مفادها أنه من المستحسن أن تكون لواشنطن علاقات أفضل مع موسكو وبكين من العلاقات التي يمكن أن يقيمها الصينيون والسوفيات فيما بينهم. ويطبق الرسم هنا في سياق الشرق الأوسط.

ولكن يبدو أن الفرع الصيني-الروسي لمثلث كيسنجر هو -إلى حدّ بعيد- الأكثر متانة. إلى أي مدى يمكن لهذه الشراكة الديناميكية الروسية الصينية أن تتحول إلى عامل مهيكل في المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط؟ إلى حد الآن، لا يوجد دليل يدعم فرضية عمل صيني روسي متناغم. كل ما يمكن ملاحظته على مستوى مجلس الأمن الدولي هو أن الصينيين يتركون الروس “يصعدون إلى الجبهة” لمواجهة الغربيين في الملف السوري ويكتفون، عندما يحين الوقت وليس بصفة دائمة، باستخدام حق النقض مع موسكو. استخدمت الصين أربع مرات حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منذ عام 2012 للتصدي لمشاريع قرارات تتعلق بسوريا. وكان ذلك آخر مرة في سبتمبر- أيلول 2019. بالمقارنة، استخدمت روسيا حق النقض مرتين في عام 20184.

في انتظار التسوية السياسية للأزمة السورية، توجد موسكو في مفصل هذه المثلثات الثلاثة. وتشمل قدرتها العابرة على الحوار المستويات الثلاثة -دون الإقليمية والإقليمية “والعالمية-المحلية”. ومن شأن دور موسكو في حل الصراع السوري -أو في أية أزمة أخرى في الشرق الأوسط- أن يعزز هذا التوجه. بالمقابل، ليس بمقدور روسيا أن تضيف إلى قوتها الدبلوماسية القدرة العسكرية اللازمة والإمكانات الاقتصادية المناسبة التي من شأنها أن تسمح بفرض “باكس روسيكا” (سلام روسي) في الشرق الأوسط.

1“روسيا تستَثْمر في انعدام الاستقرار في إيران”، نيزافيسيمايا جازيتا، 21 نوفمبر-تشرين الثاني 2019

2ولد مشروع إنشاء هذه اللجنة خلال انعقاد “مؤتمر شعوب سوريا” الذي نظمته روسيا بسوتشي في نهاية جانفي-كانون الثاني 2018. وقد استغرق الأمر ما يقارب السنة والنصف من المفاوضات الصعبة حتى تمكن الروس والمعارضة السورية وممثلو دمشق والأمم المتحدة من التفاهم حول تشكيلتها

3إذا كان حجم التبادلات التجارية الروسية الإيرانية قد وصل إلى 3,3 مليار دولار في 2008، فقد بلغ 1,7 مليار في 2018 أي تقريبا النصف. المصدر: إحصائيات المصلحة الفيدرالية للجمارك الروسية

4اقرأ عن هذا الموضوع لويس بالموند وجان فرانسوا جيلهاوديس، “روسيا في الأمم المتحدة في 2018”، روسيا 2019. نظرات المرصد الفرنسي الروسي، ص ص49-59