منذ 1979

أربعون سنة من الصراع الإيراني-الأمريكي في العراق

إن الأزمة التي تأججت في الأسابيع الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية ليست سوى حلقة جديدة في تاريخ لا يحصى من الأزمات، كانت العراق أهم مسرح لها منذ 1979.

كان لمقتل قاسم سليماني أثر شديد ونتجت عنه ردود فعل قوية حول العالم. ففيما كانت الحلوى توزع في منطقة إدلب أو في غزة احتفالا بموته، توالت الخطابات الرسمية لمسؤولين موالين لإيران تنادي بالانتقام، واجتمعت الحشود في جنازة القائد العسكري الإيراني، بينما كانت التظاهرات في الساحات الغربية بمثابة الإنذار لسلطات هذه البلدان من خوض حرب مع طهران.

يجب القول بأن الحدث غير مألوف، فنحن أمام رئيس أمريكي يعترف باغتيال مستهدف لمسؤول سامي لبلد عدو للولايات المتحدة الأمريكية. هل يعني هذا شرارة انطلاق حرب عالمية أو إقليمية؟ أم أننا بكل بساطة نعيش عودة التاريخ الذي يربط منذ سنة 1979 الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على المسرح العراقي؟

نهاية مذهب كارتر

كانت 1979 سنة مفصلية بالنسبة للشرق الأوسط، فقد انطلقت برحيل شاه إيران بعد أشهر عديدة من التعبئة المتواصلة، وعودة آية الله روح الله الخميني من المنفى. وفجأة، شهدت الإيديولوجيا الأمريكية التي نضجت بروية منذ الحرب العالمية الثانية شرخا مهما. إذ يمثل هذا الحدث نهاية منطقية لسياسة جميع الرؤساء الأمريكيين منذ الرئيس فرانكلين روزفلت -وهي سياسة “شرطيي الخليج” كما عينهما مذهب الرئيس كارتر، أي إيران والمملكة العربية السعودية-، حيث يتمرد أحد “الشرطيين” ضد حاميه، بل ويتحداه من خلال ثورة مناهضة للإمبريالية وبتأسيس الجمهورية الإسلامية.

بل وأسوأ من ذلك، تجرأ الفاعلون الأساسيون في هذه الثورة على التهجم على رمز هذه القوة العظمى من خلال السطو على سفارتها. وهكذا بدت الأزمة الإيرانية في أعين الرأي العام الأمريكي كآخر درج مؤد إلى السعير، بعد الهزيمة الفيتنامية وفضيحة ووترغيت. فكانت الإجابة من خلال التخطيط التدريجي لسياسة الاحتواء، كتلك التي وضعت ضد الاتحاد السوفياتي سنة 1945: يجب ردع هذه القوات الثورية.

بدأت هذه المراجعة للسياسة الأمريكية دون تعديل الأهداف الأساسية المتمثلة في حماية مصادر الطاقة الأساسية في المنطقة والمحافظة على دعم ثابت لإسرائيل. ووجب التصدي للتأثير الإيراني في كل مكان.

أرضية الصراع الأولى كانت لبنان. إذ بات “بلد الأرز” منذ اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 ومع الوجود العسكري للجارين السوري والإسرائيلي، مسرح “حرب للآخرين”1. وفي هذا الإطار، تكبدت الولايات المتحدة الأمريكية أقسى هزيمة لها خلال هجوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، والذي أسفر عن مقتل 220 عنصرا من القوات البحرية الأمريكية. وهكذا أعلنت قوة إرهابية ناشئة -وهي الجهاد الإسلامي- وجودها من خلال مهاجمة أقوى جيش في العالم. وفي الإبان، أمر الرئيس رونالد ريغن بانسحاب القوات الأمريكية.

التقرب من صدام حسين

نتج عن هذا التغيير في المنهج السياسي تطور جديد في المنطقة. إذ بدأ الرئيس العراقي صدام حسين -الذي احتكر جميع السلطات في صيف سنة 1979- في التقرب من واشنطن، رغم أن البلدين قطعا علاقاتهما الدبلوماسية منذ حرب يونيو/حزيران 1967. وعندما شنت الجيوش العراقية هجوما على إيران في سبتمبر/أيلول 1980، حظي العراق بدعم أمريكي غير معلن. وهكذا بدأت علاقة ثلاثية جديدة، إذ باتت الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لتسليح ودعم ومد القوات العراقية بالمعلومات في حربها ضد إيران، وذلك باسم عداوة واشنطن لطهران. بل أكثر من ذلك، وبعد نقاشات مطولة، أعادت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع بغداد سنة 1985، بينما كانت الحرب مع طهران قد بلغت ذروتها.

هل انتهت هذه العلاقة الثلاثية -التي أدت إلى خراب العراق وإيران- بانتهاء الحرب؟ سنة 1988، توفي الخميني، رمز المعركة ضد أمريكا. وبعدها بسنتين، أرسل صدام حسين جيوشه لغزو الكويت، ما جعل واشنطن تؤسس لتحالف واسع لطرده من هذه الإمارة. وهكذا أضحت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران -بطريقة غير معلنة إذ لم تكن طهران طرفا في هذا التحالف- في نفس المعسكر المعادي لصدام حسين. لكن هذا لا يكفي لتصالح أعداء الأمس، كما برهنت على ذلك الأحداث التي تلت سنة 1990.

فرضت الأرضية العراقية نفسها كمسرح لهذا الصراع غير المباشر. وقد رحبت إيران بلاجئي الانتفاضة الشعبانية لسنة 1991، والتي قمعها صدام حسين بعنف شديد دون أن يحرّك ذلك للتحالف الدولي ساكنا. وبعد تحرير الكويت والانتفاضة، عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى وضع العراق تحت الوصاية من خلال فرض مناطق حظر الطيران في الشمال والجنوب وحصار شديد على الشعب العراقي. كما سعت أن تدفع باتجاه تغيير النظام. لكن النظام العراقي اغتنم الموقف لإيجاد موارد جديدة ضرورية لبقائه. من ثمة أصبح العراق يتعرض بانتظام لحملات قصف لكن دون جدوى. وبات صدام حسين بالنسبة للأمريكيين -كما للإيرانيين- تشخيصا للمعضلة الحقيقية لمنطقة الخليج.

“مسألة الشرق” الجديدة

سنة 2003، وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، قررت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش تغيير النظام العراقي، وهنا يبدأ فصل جديد في العلاقات الإيرانية الأمريكية. إذ كما ذكر مؤخرا المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو، كل تراجع أمريكي وسط الفوضى التي سببها الاجتياح العنيف يعود بالمنفعة على إيران.

فقد استفادت طهران من التناقضات الأمريكية غداة عزل صدام حسين، إذ أن رحيل هذا الديكتاتور يريحها من عائق مهم يمنعها من بسط نفوذها، وقد كانت الحكومة الإيرانية من بين السلطات النادرة التي احتفلت سنة 2006 بإعدامه. ثم إن إعادة الهيكلة الداخلية للبلاد وفق المعايير الأمريكية للديمقراطية فتحت شروخا نجحت إيران في التسلل من خلالها. وهكذا ظهرت في العراق “مسألة شرق”2 جديدة، أي أن الفاعلين المحليين شرعوا في البحث عن حلفاء أجانب بهدف تعزيز مكانتهم على الساحة الوطنية. وبات الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية يحتد من خلال ممثلين عنهم.

استفادت إيران كليا من إعادة الهيكلة السياسية، إذ ما لبثت الشعارات التي تحث على التحول الديمقراطي في العراق أن أسفرت عن تقسيم طائفي شديد للمشهد السياسي. وقد نجح “تجار الهوية” الجدد3 -وهم شخصيات سياسية بنوا صورتهم على انتمائهم العرقي أو الطائفي (شيعي، سني، كردي، إلخ)- في فرض أنفسهم، بصفتهم الفائزين الكبار في هذا النظام الجديد. وقد شجعت واشنطن هذه الظواهر، لا سيما خلال الانتخابات التشريعية، ظنا منها أنها تكسر بذلك قمع السنوات السابقة ولا تحد من حرية أحد، دون أن تعي أن المشهد البرلماني سينقسم وفق هذه الانتماءات البدائية، الطائفية والعرقية.

من جهة أخرى، تبنى أولئك الذين أُبعدوا عن اللعبة السياسية -وهم بصفة أساسية الممثلون عن المناطق السنية مثل الأنبار، حيث رفض السكان المشاركة في انتخابات 2005- الخطاب الطائفي ذاته، وباتوا يمثلون السنة الذين طردهم غرباء من الحكم لوضع غرباء آخرين مكانهم (إذ يرى هؤلاء الشيعة كممثلين عن إيران). هذا والحال أن المجموعات البرلمانية التي تسعى وراء دعم إيراني ليست حليفة للولايات المتحدة الأمريكية البتة.

الكل ضد الكل

كان الفائز الأساسي بانتخابات 2005 في العراق داعيا لعنف طائفي أدمى البلاد. وهكذا بدأت سلسلة متعددة من الاصطدامات أفقدت الأمريكيين السيطرة على البلاد. سنة ضد شيعة، وشيعة ضد شيعة، وعناصر من تنظيم القاعدة ضد الأمريكيين، ومتمردون عراقيون ضد الأمريكيين: لم تفتأ نقاط التشابك في التزايد لتجبر القوة الراعية على مراجعة جهاز سلامتها ثم نظرتها لفترة ما بعد صدام4.

غيّر وصول الجنرال ديفيد بتريوس في يناير/كانون الثاني 2007 من توجه السياسة الأمريكية، إذ أعطيت الأولوية للتأطير الحضري -على نموذج التمردات الاستعمارية المضادة- للحفاظ على استقرار المدن، كما تمت دعوة قادة العشائر للمشاركة في الحرب على تنظيم القاعدة -وهو العدو الوحيد الذي تم التعرف عليه منذ سنة 2008- بمقابل مالي، أو ما عرف بتجمعات “الصحوة”. وفي سياق قتال الميليشيات بين 2004 و2009، كانت الولايات المتحدة الأمريكية في صراع مع حلفاء سياسيين لإيران التي امتد تأثيرها إلى المعاقل الشيعية، فيما كانت القوة المحتلة غارقة في العمليات الأمنية. زد على ذلك عودة الأحزاب الحاكمة القريبة من إيران إلى ممارسات استبدادية باسم الحرب على الإرهاب. ممارسات غضت واشنطن الطرف عنها أمام الفوضى العارمة...

في 2010، واصلت الحكومة الجديدة التي يترأسها نوري المالكي -وهو بذاته عضو في حزب الدعوة الذي ينادي بهويته الشيعية- سياسة الانتماء الإقليمي وعودة الاستبداد. وقد استفاد المالكي من رحيل القوات الأمريكية المزمع في 2011 واعتزم تهديد القوات الأخرى الفاعلة في البلاد، بناء على خطاب مكافحة الإرهاب. وهكذا توقف فجأة نشاط تجمعات “الصحوة” التي كان زعماء العشائر يستفيدون منها، فرحل كثير منهم إلى بلدان الخليج حيث يمكنهم التمتع بالثروة التي جمعوها، وتركوا وراءهم أفراد عشائرهم في مواجهة مضايقات وتهديدات القوات المكافحة للإرهاب. وفي هذا السياق، نجح بعض الناشطين الإسلاميين في جمع مؤيدين وأنصار وتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الذي نما بسرعة واستولى على عديد المناطق.

خطر تنظيم الدولة الإسلامية

يبدأ فصل جديد في هذا الصراع عندما تجد الحكومة العراقية نفسها في ربيع سنة 2014 في مواجهة التقدم السريع لتنظيم الدولة الإسلامية التي نجحت في الانتصار على القوات الحكومية التي نخرتها السياسات القمعية والانقسامات، في الفلوجة أولا ثم في الموصل. وقاد توسع رقعة تنظيم الدولة الإسلامية -لا سيما في سوريا- وبداية الإعدامات المثيرة لغربيين، إلى عودة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وشهدت “مسألة الشرق” في نسختها العراقية تطورا خاصا، إذ باتت إيران والولايات المتحدة الأمريكية -رغم اختلافهما حول جميع الملفات في المنطقة- تساندان نفس الفاعلين العراقيين وباسم قضية مشتركة، وهي مكافحة الإرهاب.

لكن هذه المساندة تقتصر فقط على الخطابات ولا تصل إلى حد التعاون الفعلي على أرض المعركة. بل وإن النقاشات التي كانت تدور بالموازاة حول الملف النووي لإيران أبرزت مدى فصل إدارة أوباما بين ملف سياسة إيران في الشرق الأوسط وبين الملف النووي. وعمليا، يوجد فريقان في وزارة الخارجية الأمريكية لمتابعة الملفين.

في آخر المطاف، تم طرد تنظيم الدولة الإسلامية من الأراضي العراقية بفضل تعبئة هائلة لوسائل تقنية غربية وموارد بشرية عراقية، لكنها لا تزال تحظى بوجود سري ناشط.

لكن انتخاب دونالد ترامب غيّر الوضع، فخطابه يختلف عما سبق، لكنه في نفس الوقت لا يبدو صاحب رؤية ذات أهداف سياسية واضحة. وقد أظهرت الإدارة الجديدة -لأسباب داخلية- ارتباطا قويا بحكومة بنيامين نتانياهو ودعمتها في أكثر من مناسبة، وقد كان الحد من التأثير الإيراني أحد مظاهر هذا الدعم. كما تجسد ذلك من خلال السماح لإسرائيل بمضاعفة الضربات ضد حزب الله أو ضد المنشآت الإيرانية في سوريا. لكن الثقل الروسي -وهي أيضا حليف إسرائيلي- حد من هذا التصعيد.

بيد أن الأمر كان على عكس ذلك في العراق، حيث ترك الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية فراغا للتعمير. نهاية سنة 2017، كانت القوات العراقية المنتصرة تقوم بعرض عسكري في بغداد، وبدأت المعارك بين المنتصرين أنفسهم، فيما أعلن الرئيس ترامب عن نيته في الانسحاب من المنطقة. ظهرت قوتان رئيسيتان في المعسكر الشيعي، الأولى -وهي الحشد الشعبي- تساند فكرة تحالف وثيق مع إيران، والثانية -بمساندة المرجع آية الله السيستاني- تنادي بالدفاع عن العراق. وقد تجلى هذا التنافس في ظل غضب شعبي متزايد طال أعمق المناطق الشيعية، نتيجة المشاكل الاجتماعية الي ظهرت بعد أحداث سنة 2003. فانتفضت البصرة وما لبثت حركة اجتماعية واسعة أن ظفرت بالفضاء العام في المدن الكبرى للتنديد بإخفاقات وفشل هؤلاء المنتصرين على تنظيم الدولة الإسلامية.

في هذا السياق، كان للوضع السوري مرة أخرى تداعيات على المسرح العراقي، إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بقصف مجموعة كتائب حزب الله على الحدود السورية العراقية. خلال الجنازة في بغداد، خرجت الأمور عن السيطرة في المنطقة الخضراء وتم الهجوم على السفارة الأمريكية، ما دفع بالرئيس ترامب إلى إعطاء الأمر باغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، قائد الحشد الشعبي. بعدها بأيام، قصفت إيران قواعد أمريكية في العراق... لتصبح بلاد الرافدين مجددا مسرح العبث الإيراني الأمريكي.

بينما يشهد العراق انتفاضة مهمة تدعو الشعب إلى استعادة السيطرة على مصيره، ها أن 40 سنة من التاريخ تعود فجأة وبعنف إلى الصفحة الأولى من أخبار الساعة. إذ ما فتئت إيران كما الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1979 في استعمال الأرضية العراقية لتعديل نفوذهما وتأثيرهما في المنطقة. وها هي طبول الحرب تقرع أمام شعب يتخبط مع موروث استبدادي منذ سنة 1979 ومع وضع إقليمي معقد.

1وفق عبارة الصحفي اللبناني غسان طويني.

2وفق تعريف هنري لورنس، “مسألة الشرق”، فايار، 2017.

3فنار حداد، “الطائفية في العراق: رؤى مضادة للوحدة”، منشورات هورست، لندن، 2011.

4لؤلؤة الرشيد وإدوارد ميتينيي، "عن العنف “العراقي”، بعض مواد للتفكير حول فكرة معهودة"، منشورات أكونتراريو، 2008/1، الجزء الخامس، ص.114-133.