على الرغم من الأحداث الجسيمة التي تشغل اللبنانيين منذ اندلاع انتفاضتهم في17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي لا زالت مستمرة ولو بزخم أقل، وبالرغم من انشغال المواطنين إضافة لهمومهم المعيشية المتدهورة بشكل خطير، بتداعيات إعلان «صفقة القرن» على بلادهم وعلى اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على أراضيهم، إلا أن عيوناً كثيرة لا زالت تراقب بعين الحذر والترقب، فصول محاكمة عامر الفاخوري، العميل المشهور بلقب “جلاد معتقل الخيام”، والذي ألقي القبض عليه لدى عودته إلى لبنان في 11 سبتمبر/أيلول الماضي. وقد كان الفاخوري ضابطا في جيش لبنان الجنوبي ومسؤولا عن معتقل الخيام، أسوأ سجون إسرائيل السرية فيما كان يسمى “الشريط الحدودي” جنوب البلاد، وهي منطقة طولها 79 كيلومترا احتلتها إسرائيل ابتداء من 1978. وقد تعرض مئات الأشخاص للتعذيب في الخيام، ومنهم من اختفى.
تعددت المحاولات الأميركية لإنقاذ الفاخوري من العدالة اللبنانية، بحجة كونه يحمل، إضافة الى هويته اللبنانية وجواز سفره الإسرائيلي، الجنسية الأميركية. وهي محاولات يبدو أنها واجهت، لمرة نادرة، مقاومة قضائية قوية أدت إلى اصدار المحكمة قرارها الاتهامي ضد الفاخوري بارتكاب جرائم تصل عقوبتها الى الإعدام. ويعيد هذا الأمر طرح الجدل الذي قام حول قرار دمج الميليشيات التي حاربت مع إسرائيل بالجيش اللبناني بعد الحرب الأهلية (1975-1989)، من دون أي تدقيق او إجراءات تأهيلية لتلك الميليشيات التي لوثت أيديها بدماء اللبنانيين. إذ لم يتم ملاحقة العملاء والمتعاونين مع إسرائيل «جدياً» عبر القضاء، حتى بعد تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي سنة 2000.
شطب اسمه من لائحة المطلوبين
صعق اللبنانيون لتفاصيل الخبر الذي أضاف أن الأمن العام في المطار، وبعد التدقيق في ملف الفاخوري -المحكوم عليه 15 عاما غيابيا في 1996 بجرم التعامل مع العدو- لم يستطع احتجازه. فقد تبين أن “جهة ما” حذفت اسمه من النشرة “303” التي تعمم فيها مخابرات الجيش أسماء المطلوب القبض عليهم لدى اجتيازهم الحدود.
كل ما استطاع أمن المطار أن يقوم به هو احتجاز جواز سفر الفاخوري الأميركي، وتركه يخرج حراً، على أن يزور مديرية الأمن العام في بيروت في اليوم التالي للتدقيق، كونها تحتفظ بسجل أسماء المطلوبين من العملاء والإرهابيين حتى بعد سحب الاسم من النشرة. أما بالنسبة لعقوبته، فيبدو أنها سقطت بمرور الزمن، وفق القانون اللبناني الذي أفلت “بفضل” ثغراته الكثيرة العديد من مجرمي الحروب من القضاء.
في سفارة لبنان بواشنطن
مقابل “جهة ما” التي شطبت الاسم، يبدو أن “جهة ما” أخرى سربت الخبر. ما كان له وقع القنبلة على الرأي العام، الذي عبر بأشكال متعددة عن غضبه، خصوصاً في المنطقة التي كان الفاخوري يرتكب جرائمه فيها، أي في قرى وبلدات الجنوب. وما زاد الطين بلّة، تسريب صور تجمع الفاخوري بقائد الجيش اللبناني الحالي جوزيف عون (المحسوب على التيار الوطني الحر، حزب رئيس الجمهورية ميشال عون، والمرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية) في السفارة اللبنانية في واشنطن، أثناء احتفال السفير غابي عيسى (القريب من التيار نفسه) بمناسبة عيد الاستقلال.
هكذا، اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي برمز #لا_لعودة_العملاء و#الإعدام_لجزار_الخيام، للمطالبة بمحاكمة الفاخوري لما ارتكبه خلال إدارته للمعتقل بإشراف الشاباك (جهاز الأمن العام الإسرائيلي). وكلها جرائم ترقى لمستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب القانون الدولي. إلا أن القانون اللبناني خالٍ من أي نصّ يوازي هذا الوصف والعقوبات المترتبة عليه، فقد امتنع لبنان عن تعديل قوانينه وفق الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي سبق أن وقع عليها، ومنها تلك التي كانت لتتيح توقيف الفاخوري ومحاكمته بجرائم حرب فور دخوله أراضي لبنان.
ما أن اقترح محامو فاخوري ـ وبينهم أميركية أذنت لها نقابة محامي بيروت حضور المحاكمات دون التدخل، كون الموقوف حائز على الجنسية الأميركيةـ إطلاق سراح موكلهم وفقاً لمبدأ تقادم الزمن، حتى انتفض الأسرى المحررون من معتقل الخيام لإيجاد ما يلزم قانونياً لمحاكمة الرجل ومعاقبته على جرائمه بحقهم. وقد تطوّع عدد كبير من المحامين لهذه المهمة. وهكذا ادعى هؤلاء بالحق الشخصي على الفاخوري، ومثلوا أمام القضاء للإدلاء بشهاداتهم تباعاً، وقص ما خضعوا له من تعذيب على يد العميل السابق وأعوانه، خلال جلسات التحقيق معهم وأحياناً بحضور مسؤولين إسرائيليين.
نساء يعذّبن أثناء فترة الحيض
في مقابلة مع إحدى المعتقلات النادرات اللواتي قبلن التحدث عن ظروف اعتقالهن والتحقيق -شرط عدم ذكر الاسم-، روت السيدة كيف كان الفاخوري يستمتع وأعوانه بتعذيب الأسيرات وهن في فترة الحيض. حيث كن يضربن بعنف على ظهورهن وبطونهن وأثدائهن، ما كان يتسبب بنزيف دمائهن على الأرض مختلطة بالمياه الباردة التي كن يرشقن بها طوال ساعات التعذيب، أمام هزء وسخرية الجلادين. ومع أن فعل الاغتصاب التام لم يحدث، إلا أنها تتذكر بقوة كيف كانوا يستمتعون بتعريتهن وملامستهن خلال التعذيب، إن كان ذلك عبر كابلات الكهرباء أو بقبضاتهم.
أما الأسرى الذكور، فقد كانوا يصلبون على عمود من الحديد لأيام في العراء من دون نوم أو طعام حتى توفي اثنان منهم. ولا ينسى الناجون من معتقل الخيام للفاخوري ومعاونيه رمي القنابل المسيّلة للدموع داخل الزنازين الضيقة التي لا نوافذ لها، يوم قمعوا انتفاضة للأسرى عام 1998، ما أدى إلى وفاة أسيرين وإصابة الباقين بعلل مزمنة في التنفس وإعاقات أخرى.
انتقدت المعتقلة السابقة سهى بشارة1 التي ادعت بالحق الشخصي على الفاخوري في تغريدة لها “البعض وبينهم التيار الوطني الحر، المطالبين بعودة المبعدين قسراً”، وتساءلت: “من أبعدهم بالأصل؟ وهم قد التحقوا بإرادتهم بجيش الخائن أنطوان لحد وفروا خلفه إلى إسرائيل”. وتساءلت: “كيف يمكن أن يدخل (فاخوري) إلى لبنان وتسقط عنه صفة العمالة؟ هل ان هذه صفة تسقط بمرور الزمن؟”.
تداعيات تبييض الماضي
ولم يتأخر بعض العونيين“-الذين ذُكروا بالاسم هذه المرة في تلميح لمسؤوليتهم- عن الرد بشراسة وابتذال مدهشين على تغريدة من يعتبرها اللبنانيون أيقونة المقاومة الوطنية. فقاموا بحملة”سحل“معنوي ضدها على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن اللبنانيين يتساءلون عن المسؤولية غير المباشرة لميشال عون وحزبه الذين نادوا بـ”عودة المبعدين قسراً" في عودة الفاخوري وتبييض ماضيه وذلك لأسباب طائفية -أي انتخابية.
لم يشفع لبشارة مسيحيتها عند هؤلاء المتعصبين الذين اعتبروها “خائنة للطائفة”، ما يشير إلى عمق الانقسام الهوياتي البنيوي القديم بين اللبنانيين، المترجم تارة أيديولوجياً وتارة طائفياً. وهو انقسام ازداد حدة بعد الحرب الأهلية التي انتهت بإعلان جميع من تورطوا فيها “فائزين”، أولاً بعفو عام أصدروه عن أنفسهم، ثم بحصّة في سلطة ما بعد اتفاق الطائف الذي أمضي في المملكة العربية السعودية في 1989 والذي عزز المنطق الطائفي في ممارسة السلطة.
عندما يصبح الفارّون “مبعدين قسرًا”
إلا أن جملة محددة في تغريدة سهى بشارة كانت الأهم في وصف الانقسام الهوياتي لبنانياً، حين تساءلت عن معنى تعبير “المبعدين قسراً” التي تستخدمها الأحزاب المسيحية في إشارة الى من فروا بإرادتهم عشية التحرير، إلى إسرائيل خوفاً من انتقام مواطنيهم.
تجدر الإشارة الى أن هذا “الانتقام” لم يحصل ولو بأدنى مستوى، تلبية لنداء أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي تمنى على الأهالي يومها ترك هذا الأمر للقضاء، درءاً لفتنة كانت إسرائيل تراهن عليها بخروجها المفاجئ من دون تحذير عملائها من الجنوب. كما دعا حسن نصر الله “العائلات البريئة”، يقصد عائلات العملاء، للعودة من إسرائيل الى أرض الوطن دون خوف. وطوال السنوات التي تلت تحرير الشريط الحدودي، عاد الكثير من هؤلاء بصمت نسبي متفق عليه وطنياً، ولو على مضض شعبي، مقابل أحكام قضائية مخففة.
إلا أنه في المقابل، كان هناك من يعمل على تأجيج مظلومية طائفية مسيحية في هذا الملف، لاستخدامها سياسياً، عبر استبدال كلمة فارين بـ«مبعدين قسراً». وفي الحقيقة، لم يتطرق حزب لله طوال السنوات الفائتة (علناً على الأقل) إلى هذا العبث اللغوي، هو المعروف بدقته في التعاطي مع المصطلحات السياسية، إلى أن عاد الفاخوري. هكذا، خرج حسن نصر الله في خطاب خصص معظمه لهذه القضية ليشدد على أن «حساب العملاء يجب أن يكون شديداً وقاسياً (…) ومصطلح المبعدين إلى كيان الاحتلال خاطئ. هناك فارّون، وعلى الفارّ تسليم نفسه إلى السلطات اللبنانية إذا أراد العودة». واضاف إنّ المقاومة “تُميّز بين العميل وعائلته، وقد التزمت بهذه القواعد خلال الاحتلال (..) وسلمت العملاء للقضاء (..) وأي عميل يعود يجب أن يسلم نفسه للمخابرات كي يتمّ التحقيق معه”.
انتصار أول أمام القضاء
سمح الادعاء الشخصي بتهم “التعذيب وحبس الحرية ونقل معلومات الى العدو أضرت بمواطنين لبنانيين، فضلاً عن القتل والإخفاء القسري” للمعتقلين المحررين بتحقيق انتصار أول أمام القضاء، بعد استرداد المحكمة العسكرية قراراً سابقاً لها قضى بمرور الزمن على جرائمه. وربما كان الإخفاء القسري النقطة الأهم، كونها أتاحت لمحاميّ الادعاء أن يستفيدوا من بند “استمرار الجريمة”.
ذلك أن أحد معتقلي الخيام، علي حمزة، فُقد خلال اعتقاله، بعد أن قام فاخوري بوضعه في صندوق سيارته -وفق شهود عيان-إثر جلسة تعذيب قاسية. كما يذكر هؤلاء أن حمزة كان يصيح باسم أولاده أثناء ذلك، أي أنه كان حياً. وعليه، ووفق سجلات القيد اللبنانية، فإن حمزة لا يزال على قيد الحياة، وقد انضم أهله إلى الدعاوى المرفوعة على أمل إيضاح مصيره.
لا جرائم حرب في بلاد الحروب
يؤكد أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية د. حسن جوني أن مفهوم “جريمة الحرب” غير موجود في القانون اللبناني، شارحاً أن “القضاء العسكري قبل التحرير وبعده، كان يتخذ احكاما مخففة، وفق اتفاق بين المقاومة والجيش، لتشجيع اللبنانيين تحت الاحتلال على العودة بأحكام شكلية لغير المرتكبين” -أي عائلات العملاء. لكنه يستدرك قائلاً إن “جانباً تمادى في تخفيف تلك الأحكام حتى إن بعض المجرمين لم يحكم بأكثر من 3 أشهر!”.
أما بالنسبة للفاخوري، فهو “لن يحاكم على جرم العمالة الذي حكم به سابقاً، فهناك نص قانوني يمنع محاكمة المتهم مرتين على الجرم نفسه». لكنه ارتكب جرائم عدة بعدها كالتواصل مع العدو ومعاونته أثناء نزاع مسلح. كما أنه مثبت أنه دخل أراضي العدو وحاز، حسب أقواله هو، على الجنسية الإسرائيلية بعد فراره الى إسرائيل العام 2000. لذلك تعتبر جرائمه وحسب قانون العقوبات اللبناني وقوانين العالم أجمع: جريمة مستمرة”.
لكن، ماذا عن الولايات المتحدة التي وهبته جنسيتها وهو محكوم في بلاده بجرم العمالة؟ يجيب جوني: “هناك مبادئ عامة في القانون الدولي تتناول تعقب وتسليم مرتكبي جرائم حقوق الانسان، وحسب الفقرة ٢ من قرار الجمعية العامة 49/36 لعام 1948، يمنع حق الملجأ لأي شخص توجد أسباب جدية للظن بارتكابه جرائم حقوق إنسان وجرائم حرب”. ويشدد على أن الجنسية الأخرى التي يحملها المتهم “مهما كانت، لا تحميه من الخضوع لمحاكم بلده. فحسب قانون العقوبات اللبناني، إذا كان المجرم أو الضحية لبنانياً او وقع الجرم على الأراضي اللبنانية، فهذا يكفي لمحاكمته في لبنان”.
في الثالث من فبراير/شباط، كانت هناك جلسة تحقيق مقررة مع الفاخوري، إلا أنها أجلت “بسبب خضوعه لعلاج كيميائي من السرطان” كما قال بيان المحكمة. ولقد بدا لفترة أن الجلسات ستؤجل مراراً في ظل مماطلة جهة الدفاع ربما بانتظار الوقت المناسب لتستطيع الضغوط الأميركية إطلاق سراحه. إلا أن قاضية التحقيق العسكري أصدرت في اليوم التالي لإلغاء الجلسة قرارها الاتهامي لفاخوري بجرائم تصل عقوبتها الي الإعدام، كنوع من الإشارة الى أن المحاكمة ماضية في طريقها. كما رُفعت دعوى أخرى أمام القضاء المدني ضد الفاخوري من قبل المعتقلات المحررات، من بينهن سهى بشارة. وجب الآن انتظار ما ستؤول إليه هتان المحاكمتان اللتان قد تدومان طويلا، على أمل أن يقوم لبنان المنتفض اليوم على نظامه الفاسد، بإنصاف ضحايا هذا الجلاد.
1في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، أطلقت سهى بشارة النار على الجنرال أنطوان لحد قائد ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” المتعامل مع إسرائيل في المنطقة المحتلة التي كانت تسمى الشريط الحدودي، بتكليف من جبهة المقاومة الوطنية والحزب الشيوعي، ما أدى إلى إصابته بجراح غير قاتلة، واعتقالها على الفور بمعتقل الخيام.