لا يكترث كثيرا في موسكو ملاحظو السياسة الروسية في الشرق الأوسط للخرجات الصاخبة لرجب طيب أردوغان، بقدر ما هم مهتمون بالمخاوف المحتملة المتعلقة بإيران فيما يخص الملف السوري. بالطبع لم يكن الرئيس التركي يتظاهر بالغضب بعد مقتل نحو 40 جنديا في جيب إدلب وأمام أفق هزيمة تكون مرادفة لتهميش أنقرة في المفاوضات حول مستقبل سوريا، إضافة إلى هاجس عدم السماح بنشوء كيان كردي على أبواب تركيا. لكن وعلى الرغم من التوتر الشديد الذي وصلت إليه الأوضاع في أواخر فبراير/شباط 2020، يسود اعتقاد في العاصمة الروسية بأن الحوار سيستمر بين موسكو وأنقرة. يقول ليونيد إيساياف، المختص في الشرق الأوسط بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو: “في إمكان الكرملين التحدث مع تركيا. ومن بين أسباب ذلك كون هذه العلاقة أيضا اقتصادية وطاقية واستراتيجية. غير أن الأمر أكثر تعقيدا مع الإيرانيين، الذين يعدون سوريا في صميم استراتيجيتهم ومسألة الخروج من الأزمة غير مطروحة بالنسبة لهم.”
يشرح كيريل سيمينوف، وهو محلل على موقع “المونيتور” ومختص في المجلس الروسي للشؤون الخارجية: “تبقى موسكو في إدلب وفية لالتزاماتها الأولية بدعم بشار الأسد ومحاربة هيئة تحرير الشام1 حتى النهاية”. وهو التزام حازم حيث وفر الطيران الروسي في إدلب دعما قد يكون حاسما للقوات المجندة على الأرض من طرف إيران والقوات الموالية لدمشق. هناك نزاع بين موسكو وأنقرة بخصوص شرعية تدخلاتهما في جيب إدلب بالشمال الغربي لسوريا. تلوم الأولى الثانية على عدم الالتزام بوعدها بنزع سلاح جماعة هيئة تحرير الشام. أما الأتراك فهم يدينون سقوط مناطق خفض التصعيد الواحدة تلو الأخرى، وهي المناطق التي تم إنشاؤها بموجب اتفاق أستانا في مايو/أيار 2017 (الرستن ودرعا والغوطة الشرقية). وتعد إدلب آخر هذه المناطق حيث تم السماح للمقاتلين المهزومين في الجيوب الأخرى وعائلاتهم باللجوء إليها.
الفوز بوسام القوة العظمى
قد تكون إدلب آخر أكبر معركة في الحرب الأهلية السورية، لهذا ينظر كثيرون في موسكو إلى ما بعد إدلب. يقول ليونيد إيساياف: “نحن في هذه المرحلة (ما بعد إدلب) نوعا ما. لقد حقق بوتين أهدافه في سوريا والتي كانت تتمثل أساسا في عودة روسيا إلى الصدارة على الساحة العالمية. لهذا من الممكن للكرملين أن يقبل تسويات مع تركيا إذا لزم الأمر ذلك، خاصة وأن سوريا لم تعد ذات أولوية قصوى، مع وجود نية للبقاء بصفة مستدامة في البلاد”. فالعلاقة مع الأوروبيين وبناء خط أنبوب نوردستريم 2 أو حل الأزمة الأوكرانية كلها ملفات صار بوتين يعتبرها أكثر أهمية من الملف السوري. ولكن مسألة الانسحاب الروسي من سوريا ليست مطروحة. ويترتب على ذلك وجوب التفكير في تسوية سياسية قصد استكمال الطموح الأول في كسب صفة القوة العظمى المسؤولة. ويتعين القيام بذلك مع الإيرانيين.
تعد العلاقة بين موسكو وطهران تكتيكية في الأساس وليست استراتيجية، على الرغم من أن الطرفين متفقان على نفس الخط الأساسي: العمل على بروز عالم متعدد الأطراف ومواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية. يلاحظ أليكسي خليبنيكوف، الخبير والمستشار المختص في الشرق الأوسط: “لقد رأينا أن موسكو لم تعلق كثيرا على اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني. التزمت روسيا الحذر ولم تكن ترغب في إظهار دعمها لإيران ولا أن تتركها مطلقة اليدين في سوريا.”
ويذهب إيساياف أبعد من ذلك: “دون أن تبتهج موسكو لمقتل سليماني فهي تعتبر أن ذلك لا يطرح لها مشكلا في حد ذاته، بل يخدم نوعا ما مصالحها كون هذا الجنرال كان المهندس في الميدان لسياسة طهران السورية المتصلبة.” ولا يهم إن كان سليماني هو الرجل الذي عرف كيف يقنع فلاديمير بوتين في 2015 بالتدخل في سوريا عن طريق الطيران الروسي بشكل أساسي، دعما للقوات على الأرض من حراس الثورة الإسلامية والعشرات من الميليشيات التي تشرف عليها طهران (حزب الله اللبناني، لواء ذو الفقار وأبو الفضل العباس القادمين من العراق، إلخ) والقوى الموالية لدمشق.
إصلاح الجيش السوري
هذا الوجود العسكري المكثف يجعل إيران في وضع يمكنها من المطالبة بالكثير في المستقبل، بالنظر إلى التكلفة البشرية والمالية الضخمة للصراع السوري التي تكبدتها الجمهورية الإسلامية. ووفقا للخبراء الروس في الشرق الأوسط، فإن السلطة السورية مخترقة من طرف الإيرانيين. ويعود ذلك دون شك إلى كون طموحات إيران تتوافق أكثر مع طموحات دمشق. ويبدو أن الإيرانيين حاضرون بقوة حول ماهر الأسد، شقيق بشار المسؤول عن جزء كبير من الأجهزة العسكرية والأمنية. وهذا من شأنه إعاقة خطة روسيا لإصلاح الدولة السورية بدءا بجيشها. يوضح كيريل سيمينوف قائلا: “هذه ليست مشكلة”سياسية“في حد ذاتها، فالإيرانيون والروس متفقون على إبقاء بشار الأسد في السلطة، المسألة تتعلق فعلا بالتأثير على بشار.”
تعول روسيا كثيرا على إصلاح الجيش السوري. يقول آليكسين خليبنيكوف: “تتمثل فكرة موسكو في جعل هذا الجيش أكثر احترافية واستقلالية من أجل تخفيض وزن الإيرانيين، علما أن روسيا تنوي البقاء في سوريا على المدى الطويل بقواعدها العسكرية والبحرية. يرى الكرملين أن إعادة بناء الجيش فقط ستمكن البلاد من الاستقرار بإدماجها مجموعات متشتتة -وأحيانا تلك التي كانت معارضة لوقت ما لنظام الأسد- والانطلاق في الحل السياسي للنزاع. لكل هذه الأسباب شرعت موسكو فعليا في تكوين الفيلق الرابع الذي كان يجمع ميليشيات مختلفة وجماعات مسلحة من منطقة اللاذقية، ثم الفيلق الخامس بقوى الدفاع الوطني.”
يُتداول بموسكو أن السؤال الحقيقي الذي يطرح وراء هذه المسألة هو مستقبل عصبة الأسد. فأصحاب القرار الروس لا يحرصون بصفة خاصة على بقاء بشار الأسد في السلطة -الكثير يفهم أنه فقد كل شرعية- لكنهم يرون أنه على الأقل ليس بين يدي طهران تماما، على عكس أخيه ماهر. يوضح كيريل سيمينوف: “في الميدان وعلى المستوى العملياتي، هناك مستشارون عسكريون روس في كل ألوية وفرق الجيش السوري تقريبا”.
كما يمكن للتفاهم الإيراني الروسي أن يتصدع حول ملف إعادة الإعمار. يلاحظ كيريل سيمينوف: “أعتقد أن هذه المسألة قد حُلت، فإيران تدفع بشركاتها المتوسطة وروسيا بشركاتها الكبرى”. في المقابل يرى إيساياف أنه “قد تظهر مشكلة، كون موسكو تود مساهمة البلدان الغربية في إعادة إعمار سوريا، ويعد حضور قوي لطهران حول الأسد رادعا بالنسبة للأوروبيين أو الأمريكيين”. ولكن صورة بشار الآن لدى الغرب تجعل من الصعب تصور مشاركة البلدان الغربية في إعادة إعمار سوريا تحت قبضته.
1النصرة سابقا، تيار القاعدة