أفغانستان: الحرب الخاسرة ضد “الشمولية الإسلامية”

إن الاتفاق الذي أبرمته واشنطن مع طالبان لا يشمل أفغانستان فقط، بل يدل على فشل “الحرب على الإرهاب” التي تم شنها غداة أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 والتي شاركت فيها فرنسا فعليا.

جنود ومدرعات أمريكية في التربة الطينية لقاعدة العمليات الأمامية المحمولة جوّا بمحافظة وردك، في 6 مارس/آذار 2009.
أرشيف قسم الدفاع الأمريكي.

ذُكر الخبر بسرعة -أحيانا بشيء من التعجب- ثم كأمر ثانوي قبل أن يختفي من شاشات رصد وسائل الإعلام، رغم أن الاتفاق المبرم في 29 فبراير/شباط 2020 بين طالبان والحكومة الأمريكية -وهي أول مرة في التاريخ المعاصر تتفاوض دولة مع حركة “حرب عصابات” أجنبية أو بالأحرى مع “منظمة إرهابية”- ينهي أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها. لا يزال الوقت مبكرا لمعرفة إلى أي مدى سيتم تطبيق هذا الاتفاق فعليا في المستقبل، لكن المؤكّد هو أنه كان يجدر بنصّ كهذا أن يسفر عن نقاشات متحمسة ونقد ذاتي لا يخلو من الندم، إن كان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية أو في البلدان الأوروبية التي شاركت طوال عقدين في هذه البعثة، لا سيما في صفوف جميع المفكرين وشرذمة المستشرقين الذين برّروها.

أّولا، لأن هذا الاتفاق يؤكد حماقة العبارة التي تكررت على مسامع الجميع حتى الغثيان: “لا تفاوض مع الإرهابيين”. والحكومة الإسرائيلية التي لا تفوت أي فرصة للتنديد بتساهل الآخرين، تتفاوض هي الأولى مع حماس حول غزة منذ سنوات. ثانيا، لأن الأرجح هو أن الانسحاب الأمريكي يعني تسليم البلاد لطالبان -وهو ما اعترف به مؤخرا الرئيس دونالد ترامب-، أي أننا سنعود إلى الوضع الذي كنا عليه قبل شن الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحرب غداة 11 سبتمبر/أيلول. فلا أحد يصدق أن حكم كابول سيدوم، وهو المعروف بفساده وانقساماته، ناهيك أن انتخاب الرئيس لا يتحقق كل مرة إلا بعد عمليات احتيال ضخمة (يوم الإثنين 9 مارس/آذار، أعلن مرشحان للانتخابات الرئاسية فوزهما). كل هذا للوصول إلى هكذا نتيجة؟

هكذا يظهر بعد 18 سنة من اندلاع “الحرب على الإرهاب” -هذه الحرب الصليبية التي قامت خلالها واشنطن بتعبئة جيوش 40 دولة تحت مظلتها- أن نتائجها كارثية، وبالدرجة الأولى على أفغانستان1. فقد تسببت في تواصل هدم البلاد الذي مضى فيه التدخل السوفياتي شوطا، ومقتل عشرات آلاف الضحايا الذين كنا ننوي “تحريرهم”، وتشريد ونزوح ملايين اللاجئين، علاوة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي قامت بها واشنطن (وطالبان) والتي قررت المحكمة الجنائية الدولية أن تفتح تحقيقا حولها في مارس/آذار 2020، واستقرار تنظيم الدولة الإسلامية في البلد وتعزيز دوره.

لم تدم هذه الحرب طوال كل هذه السنين إلا بفضل الأكاذيب المتواصلة للحكومات الأمريكية المتتالية، والتي أكدتها جريدة “واشنطن بوست” في ديسمبر/كانون الأول 2019. فقد تعمدت هذه الحكومات كتم حقيقة الوضع عن الرأي العام، فيما كانت تتباهى بالتطورات الخيالية التي كانت تقوم بها خلال هذه الحرب.

عراق أجمل بألف مرة

صحيح أن وسائل الإعلام الأمريكية شاركت على نطاق واسع في هذا الصمت، لكن بعض المفكرين لم يترددوا في إعطاء هذه الحرب مبررات “علمية”. برنارد لويس -الذي توفي سنة 2018- يعدّ أشهر هؤلاء، وهو مستشرق مشهور من أصل بريطاني، يعرف المنطقة حق المعرفة وقد ألّف كتبا كثيرة حول الإمبراطورية العثمانية وتركيا. كل هذا لم يمنعه من الالتحاق بركب الدجالين الذين يُقادون بجهلهم، وهو الذي أعماه كرهه الشديد للإسلام -حتى أنه سبق صامويل هتنغتون بفكرة “اصطدام الحضارات”، إذ هكذا كان يقرأ الصراع العربي-الإسرائيلي. فمنذ وصول جورج بوش الابن إلى رئاسة الولايات المتحدة، بات لويس مستشارا تصغى له الآذان، وقريبا من المحافظين الجدد، لا سيما من بول فولفوفيتس. وقد قدّم له فولفوفيتس عندما كان مساعد وزير الخارجية للدفاع تحية مؤثرة خلال الحفلة التي أقيمت على شرفه في تل أبيب في مارس/آذار 2002، إذ أعلن: “علّمنا برنارد لويس فهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط، واستعماله للاهتداء إلى المرحلة المقبلة حتى نبني عالما أفضل للأجيال القادمة”2.

بعدها بسنة، كان برنارد لويس “يهدي” الإدارة الأمريكية نحو “مرحلتها المقبلة”، أي العراق. وقد فسّر أنه سينبثق عن اجتياح هذا البلد فجر جديد، وأن الجيوش الأمريكية ستُستقبل كما يُستقبل المحرّرون، وأنه سيتم بناء عراق أجمل بألف مرة.

في هذه الحرب الطويلة وغير المجدية، لا يمكن وضع مسؤولية فرنسا جانبا. فلطالما انساق اليمين الفرنسي كما اليسار الاشتراكي وراء واشنطن، وقد أرسلا جنودا بقيت هناك حتى سنة 2012. ففي رسالة وجهها للقادة الاشتراكيين في 16 أكتوبر/تشرين الثاني 2009، كتب الرئيس نيكولا ساركوزي:

أشعر بالسعادة أمام تأكيدكم أن المعارضة لا تستنكر مشاركة فرنسا في هذه العملية الأساسية. فهذا الالتزام مهم جدا بالنسبة لبلادنا.

لكن المشاركة الفرنسية ضعفت على مر السنين، فالرأي العام كان أكثر فأكثر مناهضة لهذه المغامرة البعيدة. وفي 11 مارس/آذار 2010 خلال رئاسة أوباما، اقترحت وكالة المخابرات المركزية في مذكرة لها “غرس شعور بالذنب عند الفرنسيين -لا سيما النساء- لإهمالهم وتجاهلهم لمصير الأفغان”.

“بعد الانتصار على الفاشية والنازية والستالينية”

كان من السهل على بعض المفكرين الذين تستضيفهم وسائل الإعلام بانتظام أن يروّجوا لخطاب يقنعنا بأننا في حرب عالمية ثالثة، يمتد مسرحها من جبال أفغانستان حتى ضواحي مدننا. وهو ما جاء في البيان الذي أمضاه فيليب فال وكارولين فوراست ونحو اثني عشرة مفكر في الأول من مارس/آذار 2006 تحت عنوان "معا ضد الشمولية الجديدة“، إذ كتبوا فيه:”بعد الانتصار على الفاشية والنازية والستالينية، هاهو العالم يواجه خطرا جديدا شاملا وشموليا: الإسلام السياسي“. وكان من بين الممضين أسفل البيان طبعا بيرنارد هنري ليفي الذي كتب في جريدة”لوموند" بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 2001، غداة سقوط نظام طالبان:

لقد انتصر الأمريكيون في هذه الحرب التي كان ثمنها في آخر المطاف سقوط بضع مئات أو ربما ألف قتيل مدني... من يقدر على فعل أفضل من ذلك؟ كم عدد الحروب التحريرية السابقة التي كانت على هذا المنوال؟ وماذا ينتظر أصحاب التكهنات ليقرّوا بخطئهم؟

لن ننتظر منه أن يقرّ اليوم بخطئه!

لكن الوزير الأول السابق مانويل فالس هو بلا شك أفضل شخص عبّر عن العقيدة التي غذّت خيال هذه “الحرب العالمية الثالثة”:

لمحاربة هذه الفاشية-الإسلامية -إذ هكذا يجدر بنا تسميتها-، يجب أن تكون الوحدة قوتنا. لا يجب أن نخضع لا للخوف ولا للانقسام. لكن في نفس الوقت، يجب طرح جميع المشاكل: محاربة الإرهاب، تعبئة المجتمع حول العلمانية، محاربة معادة السامية [...]. يجب إحداث قطيعة. يجب أن يتحمل إسلام فرنسا جميع مسؤولياته بالكامل.

غذّى هذا العمى كما فكرة أن الحرب التي نخوضها “هناك” تمكّن من تفادي وصول الإرهاب “هنا”، وأنه يوجد تواصل ما بين “هناك” و“أراضي الجمهورية المفقودة”3 عشرين سنة من المغامرات الحربية. وكانت آخر هذه المغامرات الحرب في مالي التي قرر الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند شنها، والتي نعرف الآن حق المعرفة أنها لن تعرف مصيرا أحسن من ذلك الذي عرفته حرب أفغانستان. وفي الحالتين، تسبب التركيز على “الخطر الإسلامي” وإهمال الظروف المحلية والبؤس الاجتماعي وفساد السلطات المحلية، وتجاهل السخط ضد الغرب في وضع استراتيجية مآلها الفشل لا محالة.

مؤسفة كانت تزكية بعض المستشرقين لهكذا حسّ مغامرة إجرامي. لكن توجد دواع للفرح، فبرنارد لويس كان منعزلا جدا ضمن المجتمع العلمي الأمريكي. كذلك هم اليوم شرذمة المستشرقين الفرنسيين أمثال برنارد روجييه أو هوغو ميشرون الذين تصغي لهم آذان السلطة والإعلام اليميني، والذين يعتبرون استعادة “أراضي الجمهورية المفقودة” جزءا من حرب صليبية عالمية، قد بات فشلها واضحا منذ فترة طويلة.

1حول فشل الحرب على الإرهاب بصفة عامة، اقرأ مقال “لإنهاء الإرهاب (حقا)”، لوموند ديبلوماتيك، أبريل/نيسان 2015.

2ذُكر التصريح في مقال “برنارد لويس وجينة الإسلام”، لوموند ديبلوماتيك، أغسطس/آب 2005.

3عنوان كتاب نشر سنة 2002 يتهم الشباب الفرنسي ذي الأصول المغاربية والذي يعيش في الضواحي الفرنسية بعداء السامية والعنصرية والتمييز ضد النساء.