المغرب: “يد الله” ويد الملك في زمن كورونا

بينما يعاني الاقتصاد من الجفاف، جاء فيروس كورونا ليزيد الوضع تعقيداً. رغم بنية صحية هشة، تحاول السلطات تدبير الأزمة، لكن الفترة الراهنة تدفع الكثيرين نحو مساءلة السياسة النيو ليبيرالية المتشددة التي يتبعها النظام منذ عقود.

الرباط، 25 مارس/آذار 2020. عناصر من القوات المساعدة لوزارة الداخلية تجوب حي التقدم في العاصمة للتأكد من احترام شروط الحجر الصحي.
Fadel Senna/AFP

بينما يعاني الاقتصاد من الجفاف، جاء فيروس كورونا ليزيد الوضع تعقيداً. رغم بنية صحية هشة، تحاول السلطات تدبير الأزمة، لكن الفترة الراهنة تدفع الكثيرين نحو مساءلة السياسة النيو ليبيرالية المتشددة التي يتبعها النظام منذ عقود.

ظهرت رسمياً أولى حالات كورونا في المغرب في الثاني من شهر مارس/آذار، ويتعلق الأمر وِفق السّلطات بمغربي مقيم بإيطاليا، تلته حالتا سائحين فرنسيين، ليصل الوضع بتاريخ الأول من أبريل/نيسان إلى 575 حالة توفي منها 37. سارعت السلطات المغربية في وقت مبكر نسبياً إلى اتخاذ مجموعة من التدابير وُصفت بالاستباقية والجريئة. فقد قامت منذ موفى يناير/كانون الثاني بتعليق الرحلات الجوية مع الصين وتشديد المراقبة في الموانئ والمطارات الدولية.

خلال المرحلة الأولى من انتشار الفيروس، أمرت السلطات بإغلاق المساجد والمقاهي والمطاعم وكافة المرافق الترفيهية، كما ألغيت جميع الملتقيات الرياضية والفنية. وقد تمّ تعليق الرحلات الجوية الدّولية بشكل تدريجي قبل أن تتوقف في منتصف مارس/آذار “إلى حين إشعارٍ آخر”. وفُرض “حجر صحي” على المواطنين تم تشديده تدريجياً ليصل إلى حالة طوارئ صحية تمتد من 20 مارس/آذار إلى غاية 20 أبريل/نيسان المقبل.

وبمجرد فرض الحجر الصحي، نزلت قوات الأمن ومدرعات الجيش والسلطات العمومية إلى الشارع من أجل بث الاطمئنان وإبراز القوة. وقد استخدمت السلطات أبواق المساجد ومكبرات الصوت في الشارع واستعانت حتى بالـ “برّاح” (المُنادي)، أملا منهم في إقناع من لم يقتنع بعد بالتزام منزله، مع تكييف الخطاب بحسب المناطق واللهجات المتكلمة.

وتعامل القوات العمومية مع المواطنين بلين وفعالية غير معهودين، بسبب ظرفية تهدد حياة الأفراد والمؤسسات. فكرة عبّر عنها وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت في نداء مؤثر قال فيه: ”لم يسبق أن كنا في حاجة إلى بعضنا البعض أكثر من اليوم… نحن في مركب واحد، إما أن نغرق جميعاً أو ننجو جميعاً" (مع وضع فرضية الغرق قبل النجاة). غير أن هذا لم يمنع من حصول عدة تدخلات عنيفة ومهينة، كالرّكل والصفع.

المخزن يدير الأزمة

كما جرت العادة خلال الأزمات السياسية، عمل النظام على حجب عمل الحكومة والأحزاب السياسية التي انزوت إلى الخلف واكتفت بالمراقبة ومباركة التدابير المتخذة، في حين برز الملك ووزراء السّيادة -الذين فرضهم القصر على الحكومة- بمعية عدد من التكنوقراطيين. فقد انزوى وزير الصحة وعوّضه محمد اليوبي مدير مديرية الأوبئة التابعة لوزارة الصحة، في حين تحول رئيس الحكومة سعد الدين العثماني إلى شبه مرؤوس تحت سلطة وزير الداخلية، إذ يكتفي بنشر بلاغات الأخير على صفحته الرسمية على فيسبوك وإعطاء بعض التصريحات التي غالباً ما تنال تهكماً واسعاً على الشبكات الاجتماعية.

يرى المعطي منجب، المؤرخ والمحلل السياسي، أن السرعة التي يقتضيها تدبير الأزمات تقتضي من النظام الخروج من الظّل ومعها “تظهر طريقة اشتغاله والتي يبرز معها المتحكمين الحقيقيين في السلطة”. غير أن الأمر ينطوي في نظره أيضاً على مسألة سيكولوجية، إذ “لا يخشى المخزن1 أن يُظهر للشعب، تحت الضغط، أنه من يحكم2، لأن الذي نظن أن بيده السلطة تُصبح لديه السلطة.”

لجأ المغرب على غرار العديد من الدول التي تعيش نفس الأزمة إلى“شهادة تنقل استثنائية”. لكن عوض أن يعبئها أي مواطن (تصريح بالشرف) لقضاء أغراضه الحيوية كالتسوق أو اقتناء الأدوية، اختارت السلطات أن يتم استصدار رخصة التنقل الرسمي هذه لدى المقدمين والشيوخ، وهم أعوان سلطة على صعيد الأحياء والقرى تجمعهم علاقات جد متوترة بالمواطنين منذ عهد إدريس البصري، وزير داخلية الحسن الثاني في الثمانينيات والتسعينيات، بسبب صورة التسلط والرشوة التي ظلت لصيقة بهم بالإضافة إلى دورهم كمُخبرين (إذ يلقّبون بـ“عيون المخابرات”). حدّدت الوثيقة عدد المستفيدين من هذا الإذن بالتنقل في “فرد واحد من كل أسرة”، ما فتح الباب أمام التلاعب والرشوة، خاصة أن مدة صلاحية الوثيقة تمتد إلى غاية انتهاء حالة الطوارئ الصحية.

بين المؤامرة والقضاء والقدر

في الأثناء، تفشت نظريات المؤامرة والإشاعات. وكما اعتقلت السلطات كل من يبث أخباراً تثير الهلع بين صفوف المواطنين، فإنها لا تتوانى أيضا في اعتقال كلّ من يشكك في عدم وجوده أو عدم خطورته. فقد اعتقلت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، على سبيل المثال، الشيخ السلفي المعروف بـ ”أبو النعيم” بشبهة التورط في التحريض على الكراهية وتهديد المواطنين والمواطنات بارتكاب أفعال تنطوي على المس بالنظام العام ، وفق بلاغ للمديرية العامة للأمن الوطني، بعد ظهوره في شريط فيديو يصف فيه وباء كورونا بـ “الوهم والخيال والسّراب”، منتقداً إقفال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمساجد، واصفا البلد الذي يفعل ذلك بـ “المرتد عن الدين” وبـ “دار الحرب”. كما خرجت مسيرة في طنجة تنادي “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، فيما تم تصوير مشاهد لمواطنين يعتبرون فيروس كورونا “ابتلاء إلهيا”.

يعتبر المعطي منجب أن هناك جهازا مفاهيمياً غنياً حول موضوع الأمراض والأوبئة عبر تاريخ المغرب، وأن المخزن يخشى كل ما يمكن أن يعبر عن “غضب الله” أو يظهر على أنه كذلك. “على المستوى الفقهي، لا يمكن لله أن يغضب من شعب مؤمن وإنما فقط من المتجبرين وممّن لا يحترمون الدين والعدالة وإرادة الله”. وفي دولة تؤمن الأغلبية الساحقة من مواطنيها بأن إرادة الله أقوى من إرادة الملك والسلطة، لا يمكن لهذا سوى أن يضعف من المشروعية الدينية للنظام“. بالنسبة للمؤرخ،”إذا كان النظام جيدا وفي هداية الله، حسب العقلية التقليدية، فلا يمكن أن تحصل أشياء خطيرة تهدد الجماعة البشرية الاسلامية“. ويعطي منجب مثال الزلزال الذي دمّر مدينة أكادير (1960) وكيف أرجعه بعض المحافظين إلى”الملحدين الذين يحكمونناّ" (في إشارة إلى الحكومة التي يتزعمها يساري).

هشاشة الجهاز الصحي

أمام تردي البنيات والخدمات الصحية، يبقى التضرع إلى الله الملجأ الوحيد بالنسبة للكثيرين، فقد هتف مواطنون تجمعوا في طنجة وفاس وتطوان (شمال البلاد) “الله أكبر، وهو الوحيد القادر على مساعدتنا”، كما يقوم السكان في العديد من المدن بالدعاء الجماعي، من أسطح ونوافذ المنازل، وطلب الرحمة والمغفرة من الله في جو من الخشوع تمتزح فيه أصوات النساء والرجال والأطفال.

تعي السلطات جيداً أن رهان الانتصار على الجائحة يمر عبر خيارات أخرى غير أسرة المستشفيات، التي صرح رئيس الحكومة أنها مجهزة بـ 250 سرير إنعاش عبر التراب الوطني لـ35 مليون ساكنا، قبل أن يرفع الرقم إلى 1600 إثر التخوفات التي بثتها تصريحاته الأولى “توضيحا لمعلومة أسيء فهمها” على حدّ تعبيره قائلا أن “المغرب يتوفر على 1600 سرير إنعاش عبر التراب الوطني” وأن الـ 250 هي مخصصة فقط لمرضى محتملين بفيروس كورونا، وهي “قابلة للزيادة حسب الحاجة”.

من جهته، أعطى الملك محمد السادس تعليمات بإحداث “الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا” من أجل “التكفل بالنفقات المتعلقة بتأهيل الآليات والوسائل الصحية”. وأعلن الملك عن دعم الاقتصاد الوطني من خلال مجموعة من التدابير التي ستقترحها الحكومة من أجل دعم المقاولات المتوسطة والصغرى التي تواجه صعوبات" والعاملين.

كما وُضع رابط على موقع الخزينة العامة للمملكة رهن إشارة الأشخاص الذاتيين والاعتباريين الراغبين في تقديم تبرعاتهم عن طريق تحويلات مصرفية. سعياً وراء تحفيز التبرعات، أعلنت المديرية العامة للضرائب، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، أن الأموال الموجهة إلى صندوق "تدبير جائحة كورونا سيتم التعامل معها كنفقات قابلة للخصم من النتيجة الضريبية. وبالفعل، سرعان ما أعلنت عدة شركات عمومية وخاصة ومؤسسات وطنية وهيئات مهنية عن مساهمتها في الصندوق. كما تمت الدعاية لمساهمة كل من المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (جهاز المخابرات) بـ 40 مليون درهم (حوالي 3,7 مليون يورو) وشخصيات سياسية ورجال أعمال على غرار عزيز أخنوش، وزير الفلاحة والصيد البحري، وعثمان بن جلون، الرئيس المدير العام للبنك المغربي للتجارة الخارجية لإفريقيا، وهما أيضا مليارديرين صنفتهما مجلة “فوربس”، تباعاً، في المرتبتين 18 و19 ضمن قائمة الـ 100 رجل أعمال المؤثرين في الشرق الأوسط.

جمع المغرب حتى الآن 23.5 مليار درهم (2.11 مليار يورو)، أي حوالي 2.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 108.5 مليار يورو في 2019). في 27 مارس/آذار، أعلنت السلطات أن المساعدات ستطال الفئات الأكثر هشاشة من المجتمع والتي يصل عددها إلى 8 ملايين شخص بحسب الأرقام الرسمية. وبداية من 6 أبريل/نيسان، سيتحصل الأفراد والعائلات التي تعد شخصين على مساعدة قدرها 800 درهم (72 يورو) والعائلات التي تعد بين 3 و4 أفراد على مساعدة بألف درهم (90 يورو)، أما العائلات التي يفوق عددها أربعة أفراد فستتحصل على 1200 درهم (108 يورو).

40 سنة من سياسة التقشف تجاه المرافق العمومية

ما زاد الطينة بلة أن أزمة كورونا تزامنت مع سنة جافة في بلد ترتبط زراعته بالتقلبات المناخية. يقول أقصبي: “قبل كورونا، ظهرت بوادر سنة اقتصادية واجتماعية سيئة بسبب الجفاف، إذ كانت التوقعات تتكلم عن 40 مليون قنطار من القمح، وهذا يعني سنة جد سيئة أي أقل بنسبة 42٪ مقارنة بالموسم السابق (2018/2019) وأقل بـ 34٪ مقارنة بمتوسط الخمس سنوات. نحن إذن إزاء صدمتين في آن واحد”. ووفق المعطي منجب “يعمل التأثير النفسي على مضاعفة التأثير المادي للجفاف لأن العائلات تتوقف عن الإنفاق وتفضل الادخار فيما يتفادى رجال الأعمال الاستثمار وهذا يخلق تأثيرا سلبياً متسارعاً يؤثر سلباُ على باقي القطاعات، بما فيها حتى السياحة التي يُفترض أن تزدهر أيام الحرّ والجفاف. إذ يبقى المغربي في المقام الأول فلاحاً”.

كما هو الحال في بلدان أخرى تعاني تحت وطأة الفيروس، أبرزت هذه الأزمة للطبقة السياسية المغربية مدى ضعف الدولة وخطأ تهميشها لقطاعات حيوية من حجم الصحة والتعليم على اعتبار أنها “غير منتجة”. يقول منجب: “لقد ظل النظام يهتم بالأمن حتى باتت وزارة الداخلية تتحكم في الوزارات الأخرى، على اعتبار أن الولاة والعمال ينسقون عمل المصالح التقنية الجهوية بل ويحدث أن يتخذوا القرارات إن اقتضى الأمر”.

رؤية يتقاسمها معه أقصبي، الذي يرى بأن الأزمة برهنت على الفشل الذريع للإيديولوجيا النيوليبرالية المتوحشة التي حاولت إيهامنا بأنه بإمكان السوق والقطاع الخاص القيام بكل المهام. “منذ 40 سنة ونحن نتتبع السياسات التقشفية التي تمليها المؤسسات الدولية. لقد فتحت هذه الأزمة أعين الجميع”.

في حوار له مثير للجدل على الموقع الاقتصادي “ميديا 24”، صرّح أحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، أن “سنة 2020 ستكون الأسوء بالنسبة للاقتصاد المغربي منذ 1999” إذ يتوقع أن لا تتجاوز نسبة النمو الـ 1 بالمائة (في حين توقع بنك المغرب في منتصف شهر مارس/آذار نسبة نمو 2,3 في المائة). بحسبه، أظهرت أزمة فيروس كورونا “نقاط ضعف النظام وغياب الإيرادات النيوليبرالية التي فرضها علينا صندوق النقد الدولي”، مستنتجاً أن “العودة إلى الدولة الاجتماعية أمر حتمي”.

هجرات معاكسة ومساءلة للمنظومة القائمة

على صعيد ديمغرافي، أسفرت أزمة كورونا على هجرتين معاكستين، وهما هجرة من أوروبا نحو المغرب وأخرى داخلية من المدن إلى القرى. فأمام تدابير الأزمة، لا يزال المغاربة يشعرون بالأمان وبالثقة في بلدهم، حتى أن مواطنين من أوروبا قرروا “الفرار” من بلدان إقامتهم التي تأثرت بالفيروس رغم نداءات لا تخلو من عنف لفظي من بعض المغاربة يطلبون منهم البقاء حيث هم خوفا من نقل الفيروس إليهم.

من جانب آخر، أدّى تأخر تدابير دعم اقتصادي موجه للعائلات الفقيرة والتي توقفت مواردها بتوقفها عن العمل، إلى إنتاج هجرة معاكسة من المدن نحو البوادي التي لم تُسجل فيها حتى الآن -رسمياً- إصابات بالفيروس، وحيث يمكن الاعتماد على شبكات التضامن العائلية والقبلية وأيضا إمكانية العيش من منتوج الأرض، ولو على قلته.

وفي ظل انتشار الوباء، وأملاً في إطلاق “مسارٍ جديد من المصالحة الوطنية” والتخفيف من الاكتظاظ الذي تعرفه السجون، طالبت عريضة حقوقية بـ “بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والحِراكات الاجتماعية بما في ذلك حراك الريف” وإصدار عفو إنساني على فئات من سجناء الحق العام كالأمهات والمُسنين والمرضى، إلخ. كما وجهت أكثر من 200 شخصية سياسية وأكاديمية وحقوقية نداءً مماثلاً، أسمته “نداء الأمل”، تدعو فيه إلى إصدار عفو ملكي شامل على كافة المعتقلين على خلفية حراك الريف، وعلى الصحفيين المحكومين منهم والمتابعين.

في انتظار ردود فعل السلطة، يبقى “المكسب” الوحيد حتى الآن هو إلإلغاء المؤقت لتقليد تقبيل يد الملك برأس مطأطأ، وهو بروتوكول طالما وصفته فعاليات سياسية ومدنية مختلفة بالـ “البائد” و“المُهين”، ونادت بإلغائه. وإن كان الهدف من تعليق هذا العرف حماية صحّة الملك، إلّا أن العودة إليه قد يشكل بعض الإحراج للقصر.

1تطلق الكلمة على نظام بيروقراطي يتألف أساساً من الملك وأعوانه

2إذ يفترض ألا يتجاوز القصر صلاحياته وهو يمارس هنا صلاحيات الحكومة