إيران إلى أين؟

فوز المحافظين في الانتخابات التشريعية · بعد خسارة الإصلاحيين وفوز المحافظين في الانتخابات التشريعية، يبقى إيران في مواجهة تحديات ضخمة، إن كانت فيروس كورونا أو العقوبات الأمريكية. ولا يبدو النظام فعلا قادرا على مواجهتها.

جرت الانتخابات التشريعية الإيرانية لـ 21 فبراير/شباط في ظل تحديات هائلة بالنسبة للنظام. وقد انتهت بنتيجة منتظرة بشكل واسع: انتصار معسكر المحافظين - والذي يطلق عليهم أيضا تسمية “الأصوليون” (اصولگرایان) حيث يلتقي المحافظون والمحافظون المتشددون. ما ساهم على الخصوص في هذا الفوز هو الإقصاءات التي طالت منافسيهم من الإصلاحيين والمعتدلين (بما في ذلك 80 نائبا سابقا) على يد مجلس صيانة الدستور المحافظ المتشدد، والذي تعود إليه مهمة الموافقة على أهلية المترشحين. وكرد فعل على ذلك، لم يدعم الإصلاحيون أيا من المترشحين الذين تقدموا في 22 محافظة من محافظات البلاد الـ31، بما في ذلك العاصمة طهران حيث كان 30 مقعدا متوفرا.

وعلى الرغم من كون هذه الانتخابات التي تفتقر لأي منافسة حقيقية قد أثبتت تصميم أنصار الخط المتشدد على احتكار السلطة داخل مؤسسات الجمهورية الإسلامية، فقد شكل ضعف نسبة المشاركة ضربة لشرعية النظام وأظهر قلة الثقة التي يحظى بها عند الشعب. من شأن هذه النتيجة إذن إعاقة طموحهم في احتكار السلطة وهو ما يجعل من نجاحهم نصرا باهظ الثمن.

في هذا السياق، من الممكن تصور عدة سيناريوهات بخصوص تقاسم السلطة، خاصة في أفق الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في يونيو/حزيران 2021. وهي سيناريوهات تتراوح بين احتكار السلطة من طرف “المتشددين” وعودة الإصلاحيين لضمان بقاء النظام. وفي مجال السياسة الخارجية، من شأن القبضة المتزايدة للمحافظين على جميع المؤسسات تسهيل تسوية مع واشنطن، وذلك على عكس المنطلقات المسبقة المعتادة التي ترى أن ذلك يؤدي إلى توتر أكبر في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة.

كثرة المترشحين وقلة المنتخبين

شهدت هذه الانتخابات بعض الغرائب غير المسبوقة في أي من الانتخابات البرلمانية الإحدى عشر التي تم تنظيمها في ظل الجمهورية الإسلامية. ففي حين كان هناك عدد قياسي للمترشحين (حوالي 16000) لم يوافق مجلس صيانة الدستور سوى على جزء صغير منهم (44٪). بصفة إجمالية وصل عدد المقصيين إلى ثلاثة أضعاف عددهم في الانتخابات التشريعية لسنة 2016، في حين كانت نسبة المترشحين الذين تم اعتمادهم آنذاك في أعلى مستوى. يختار مجلس صيانة الدستور - وهي هيئة جد محافظة يتم اعتماد أعضائها من طرف المرشد الأعلى بصفة مباشرة أو غير مباشرة- المترشحين للانتخابات البرلمانية والرئاسية ومجلس خبراء القيادة بصفة فعلية بناء على ولائهم للنظام. ويعد معظم الذين تم استبعادهم من الإصلاحيين، وهو ما يناقض تأكيد المجلس على أنه يعمل بطريقة غير متحزبة، وأن أغلب من استبعدوا هم من الذين كانوا على وشك التعرض لمتابعة قضائية بتهمة الفساد المالي.

تمثل الحدث التاريخي الآخر في ضعف نسبة المشاركة في التصويت والتي كانت رسميا 42،6٪. في الواقع، يفترض أن النسبة أضعف بكثير وربما بالنصف، كما هو حال انتخابات أخرى في الجمهورية الإسلامية. كانت نسبة المشاركة المعلن عنها رسميا في الانتخابات البرلمانية لسنة 2016 مثلا 61،8٪. في العادة، تقدر نسبة المدافعين عن الخط المتشدد بـ 15٪ فقط من المواطنين، وهم أولئك الذين يبقون أوفياء للنظام بدافع القناعة الأيديولوجية و/أو بسبب مزايا مادية. وعندما تكون نسبة المشاركة كبيرة في الانتخابات، فهي في العموم لصالح الإصلاحيين.

يمثل ضعف نسبة المشاركة هذه المرة ضربة قوية لكامل النظام وخاصة للمرشد الأعلى علي خامنئي الذي سبق وأعلن أن الانتخابات ستحدد “هيبة” النظام الحكومي. ولم يكن للحملة الاستثنائية التي شنتها وسائل الإعلام الحكومية والتي قادها كذلك المرشد الأعلى لحث الناس على الانتخاب أي تأثير على عدد المشاركين، بعد أن قدم التصويت على أنه واجب ديني ووطني لصد أعداء البلد. كما استعمل النظام عدة وسائل لحث الناس على الصويت، كتعبئة الحافلات أو تغذية مخاوف العائلات الفقيرة التي تخشى الحرمان من المساعدات الحكومية في حال عدم مشاركتها في الانتخابات. ناهيك عن التمديد في توقيت فتح مكاتب الانتخاب.

برر وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي ضعف المشاركة بأنها نتيجة للمناخ الاجتماعي السائد في البلاد والسخط العميق والاستياء لدى المواطنين (وقد أبرزت ذلك في مقام آخر في الفترة التي سبقت الانتخابات)، باستثناء طبعا وباء فيروس كورونا والذي لم يتم الكشف عن حجمه إلا بعد الانتخابات. تم التعبير عن هذا السخط وهذه الخيبة خلال المظاهرات الوطنية ضد النظام في يناير/كانون الثاني 2018 ونوفمبر/تشرين الثاني 2019، ومؤخرا بعد حادثة الطائرة التي أسقطت ما تسبب في مقتل 176 شخصا، وهو حادث كذبت بشأنه السلطات لمدة ثلاثة أيام كاملة.

فوز المحافظين

فاز المحافظون بـ 230 مقعدا من أصل 290 مقعدا برلمانيا، بما في ذلك المقاعد الثلاثين لطهران (حيث لم تتم إعادة انتخاب أي عضو من البرلمان الحالي) في حين تحصل الإصلاحيون على 16 مقعدا. كان هناك إجماع على أن حزب الأمل المؤيد للرئيس حسن روحاني والذي يقوده الإصلاحي محمد رضا عارف (والذي وصل إلى المرتبة الأولى في طهران خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2016 ولكنه قرر عدم الترشح هذه المرة)، سيخسر 90٪ من مقاعده ( له 7 مقاعد في البرلمان المقبل بدل 120 في البرلمان الحالي). أما معسكر المعتدلين، فينتظر أن يحصل على 50 مقعد كحد أقصى. وسيكون هكذا التغيير شاملا في تركيبة البرلمان، مع أقل من خمس عدد البرلمانيين المنتهية عهدتهم ممن سيكونون حاضرين في المجلس المقبل.

يتشكل المعسكر المحافظ بالمعنى الواسع للكلمة من عدة فصائل منها حرس الثورة الإسلامية، وهي المؤسسة الأكثر قوة. ويمكن للحرس الثوري من خلال السيطرة على البرلمان أن يوسع نطاق هيمنته إلى المجالات العسكرية والاستخبارية والاقتصادية على حساب السياسيين، مما يزيد من إبراز المكون العسكري للجمهورية الإسلامية.

ومع ذلك، على الرغم من انتصارهم، أظهر المحافظون قبيل الانتخابات مستوى كبيرا من الغطرسة إلى درجة إثارة مواجهات شرسة داخل صفوفهم والتي قد تكون لها آثار على المدى الطويل.

يتشكل معسكر المحافظين من جبهات تتنافس وتتعاون في نفس الوقت وهي:

  • -“الولائيون”، وهو المعسكر المهيمن الذي يدافع عن الولاء المطلق للمرشد الأعلى.
  • -“الپایداريون” (جبهة ثبات الثورة الإسلامية)، وهي جبهة أصغر موال لرجل الدين المحافظ المتشدد، آية الله محمد تقي مصباح يزدي. وكان هذا الفصيل هو من قدم في نهاية 2018 قانونا لإقالة وزير الشؤون الخارجية جواد ظريف.
  • “الأصوليون الجدد”: والذي يجمع تشكيلات لمحافظين شباب أوفياء للثورة الإسلامية ولديه برنامج اجتماعي وتنموي يدعمه رئيس بلدية طهران السابق، محمد باقر قاليباف.

هل يكون قاليباف الرئيس القادم؟

يعد قاليباف الشخصية البارزة منذ الانتخابات والذي قدم قائمة “الفخر لإيران” (فيار إيران) التي تعد 30 مرشحا. وقد فاز بالمرتبة الأولى في طهران وبالتالي يمكنه أن يطمح في أن يصبح رئيسا للبرلمان، كما يمكنه التموقع كي يكون رئيس الجمهورية القادم.

فشل قاليباف عدة مرات (2005، 2013 و2017) في الوصول إلى الرئاسة. وقد بدأ مساره في المجالين الأمني والعسكري ثم توجه إلى الاقتصاد والسياسة وبقي تقريبا على علاقة وثيقة جدا مع الحرس الثوري الإسلامي على الدوام. كما شغل خلال الحرب الإيرانية العراقية عدة مناصب قيادية في عدة ألوية وفيالق. وبعد الحرب ترأس فرع الهندسة للحرس الثوري، “خاتم الأنبياء”، وهو أهم هيكل اقتصادي للحرس عندما كان رفسنجاني رئيسا للبلاد والذي أدمجه في إعادة الإعمار الاقتصادي بعد الحرب. ومنذ ذلك الحين نمت شركة “خاتم الأنبياء” إلى درجة أنها تحولت إلى إمبراطورية اقتصادية في حد ذاتها.

تم تعيينه في وقت لاحق من طرف خامنئي قائدا للقوات الجوية للحرس الثوري (1997-2000)، ثم رئيسا للشرطة مكلفا بالحفاظ على النظام العام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو “ناجا” في اختصار باللغة الفارسية (2000 ـ 2005). وتقلد في الفترة الأخيرة من 2005 إلى 2017 منصب عمدة طهران. كما يشغل حاليا منصب نائب رئيس اللجنة الاقتصادية لمجمع تشخيص مصلحة النظام.

قاليباف له تجربة أمنية، وبإمكانه طرح برنامج اقتصادي يجمع بين شعبوية اقتصادية وإدارة تكنوقراطية (وكان ينظر إليه بصفة واسعة من هذه الزاوية عندما كان عمدة لطهران) وقومية عسكرية (خلال الحملة الانتخابية أثنى على علاقته الوثيقة بالجنرال الراحل قاسم سليماني خلال الحرب العراقية الإيرانية). ونظرا لوجود عناصر أكثر تطرفا داخل المعسكر المحافظ، يمكن أن تكون له فرص جيدة ليصبح رئيسا باعتباره الأقل سوءا من بين الاختيارات الممكنة.

تسهيل المفاوضات مع واشنطن

لم يفت على أصدقاء وأعداء إيران الإقليميين والدوليين بأن المشاركة الضعيفة التاريخية في الانتخابات كشفت بوضوح عمق أزمة الشرعية للنظام وأن انتصار التيار المتشدد يشير إلى اتجاه سياسي منتظر.

بالنظر إلى هذه الانتخابات من المستبعد أن تتغير السياسة الخارجية للبلد. وحتى موعد الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، من المرجح أن نستمر في الاستماع إلى صوتين قادمين من طهران: الأول معتدل يأتي من إدارة روحاني، والآخر متشدد يأتي من مؤسسات أخرى (الحرس الثوري، والبرلمان). في الواقع يعمل الصوتان بتناغم، وقد أظهرا فائدتهما للنظام وللمرشد العام.

على عكس الفكرة السائدة، فإن القبضة المتزايدة “للمتشددين” على السلطة يمكنها في الواقع تسهيل المحادثات مع واشنطن والتي تبقى ضرورية بالنظر إلى حاجة إيران لإنهاء العقوبات الأمريكية باسم استقرار النظام. أحد أسباب مثل هذا السيناريو (والذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية أو الإيرانية) هو أن العقبة الرئيسية التي يشكلها رفض “المتشددين” الانفتاح على الغرب أو التفاوض مع واشنطن ستفقد الكثير من نجاعتها. يتمثل هاجس المدافعين عن الخط المتشدد في كون من شأن الانفتاح على الغرب -وهو مسار يمكن أن يتم التفاوض عليه من طرف نخبهم المعتدلة المتنافسة عندما ينتمي الرئيس مثلا إلى هذا المعسكر- أن يعرض للخطر أو لا يضمن بالقدر الكافي مصالحهم الأيديولوجية والسياسية الاقتصادية.

يمكن أيضا النظر إلى هذا القلق على أنه هوس ارتياب. فمهما يكن الحال فإن المرشد الأعلى يشرف ويراقب كل عملية انفتاح أو تفاوض من هذا النوع، مما يجعله الضامن لمصالح حلفائه المتشددين.

قد يكون البرلمان المقبل المحافظ ميالا للإطاحة بشخصيات في الإدارة المعتدلة، ولكن من غير المرجح أن يدعم المرشد الأعلى مثل هذه المحاولات الجريئة نظرا للمزايا المذكورة أعلاه بخصوص ازدواجية أصوات النخبة بالنسبة للنظام.

وفيما يتعلق بالعلاقات بين الدولة والمجتمع، فإن الفجوة بين الطرفين ستزداد لأنه من غير المرجح أن تتم تلبية المطالب الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين على المدى القصير، حيث تستمر العقوبات الأمريكية دون هوادة ولا يلوح في الأفق أي تغيير مهم في السياسة الاقتصادية.

فعلى المستوى الوطني، يمكن لمعسكر متشدد موحد أن يوفر بصفة مثالية نوعا من الارتياح الاجتماعي والاقتصادي للطبقات الدنيا من المواطنين وذلك باستخدام وصولهم غير المتكافئ إلى موارد الدولة وما شبه الدولة (والتي يسيطر عليها إلى حد كبير) وذلك حتى في غياب تخفيف للعقوبات الأمريكية.

يعد توقيت وضع تدابير إعادة توزيع احتكاراتهم الاقتصادية على الفئات المستضعفة من المجتمع عاملا هاما. فمن شأن العمل الذي سيتم قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة تحسين الصورة المتدهورة لإدارة روحاني المعتدلة وزيادة حظوظ المعسكر المعتدل/ الإصلاحي في خلافته وبالتالي التقليل من حظوظ المتشددين. إذا من المرجح أكثر أن يؤدي الانتصار البرلماني للمتشددين إلى تعزيز أوضح لنجاعة الإدارة التي ستدخل قريبا عامها الأخير من أجل الحفاظ على مصيرهم السياسي.

في غضون ذلك يمكن أن تؤدي أزمة فيروس كورونا في إيران إلى عرقلة التعبئة الشعبية الواسعة، وخاصة عند الطبقة الوسطى، وهو أمر سيعزز الإحساس بالاستكانة واليأس لدى الكثيرين.

إصلاح الإصلاح

أدت نتائج الانتخابات أيضا إلى إحياء النقاش حول مصير الإصلاح في إيران، ولاسيما مسألة ما إذا كان فشل معسكر المعتدلين والإصلاحيين سيؤدي في النهاية إلى الاختفاء النهائي للإصلاحيين والذين هم أصلا في أزمة. أو بعبارة أخرى، قد يؤدي ذلك إلى نهاية ثنائية الإصلاحيين والمحافظين داخل نخب الجمهورية الإسلامية.

فقد الإصلاحيون الإيرانيون على مر السنين من شرعيتهم لدى القواعد الاجتماعية التقليدية التي كانت تدعمهم، ليس فقط بسبب المعارضة والقمع والتخريب من طرف المعسكر المعارض من المتشددين ضدهم، بل أيضا وعلى الخصوص بسبب فشلهم في الوفاء بوعودهم السياسية والاقتصادية. ومن هنا تأتي القناعة بأن الإصلاحيين بدل أن يكونوا عامل تغيير من الأعلى تموقعوا بصفة مباشرة إلى جانب المؤسسة الحاكمة وضد قطاعات واسعة من المواطنين. وصاروا منذ المظاهرات الوطنية ضد النظام في ديسمبر /كانون الأول 2017، أهدافا للغضب الشعبي تماما مثل المحافظين.

في هذا السياق يمكن أن يكون للإصلاح خياران: “إصلاح الإصلاح”، والذي يؤدي بالإصلاحيين إلى عدم رفض حركات التعبئة في الشارع والمطالب الراديكالية وأن يكفوا عن تجاهلهم للـ“مسألة الاجتماعية”. بعبارة أخرى أن يقدموا سياسات اقتصادية تساهم في تخفيف المظالم الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الدنيا من جهة، ومن جهة أخرى إعادة دمج الإصلاحيين في أعلى مستويات السلطة والتي يسهلها منافسيهم المتشددين حتى تستعمل كصمام أمان أو بالون أوكسجين للنظام.

ويتمثل هذا السيناريو، المرتبط بحسابات بقاء النظام، في إعادة الاعتبار وإدماج أولئك الذين، داخل المعسكر الإصلاحي، مستعدون للتعاون مع المتشددين في النظام في حال استمرار أو تفاقم الغضب الشعبي والذي يغذيه عدم قدرة المعسكر المحافظ في أخذ طلبات المواطنين بعين الاعتبار.

أدى الاستبعاد الجماعي الجريء لمرشحيهم على يد مجلس صيانة الدستور إلى انقسام داخل المعسكر الإصلاحي، حيث قاطع بعضهم الانتخابات في حين شارك فيها بعضهم الآخر، مما يدل على رغبتهم في تشكيل ائتلاف مع المتشددين في النظام، أو على الأقل مع أقربهم من المعتدلين.