في تركيا، استيلاء أردوغان على تراث الأقليات

تقوم الحكومة التركية في جنوب شرق البلاد -غير بعيد عن الحدود السورية- بإعادة كتابة التاريخ، من خلال إضفاء طابع إسلامي على أماكن ثقافية ودينية، وإعادة التنظيم الإقليمي. وهي مبادرات تسعى من خلالها السلطات إلى فرض الإسلام السني كمحرك للهوية التركية، وطمس آثار كل الأقليات العرقية والدينية.

كنيسة كهف القديس بطرس في أنطاكية التي باتت متحفا.

أسفر الترويج للقومية التركية والإسلام في ظل إرادة رجب طيب أردوغان أن يتميز كرئيس مشيّد على خطاب رسمي يسعى إلى التشديد على فكرة تجانس المجتمع في بلد متنوع السكان بالأساس. وفعلا، حرصت الحكومة التركية منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة على إعادة قراءة التاريخ الوطني. وتميزت هذه المراجعة التاريخية بترميم المواقع الثقافية والدينية في المناطق الطرفية لتركيا الواقعة على الحدود السورية، وقد أخذت هذه المبادرة شكل الاستيلاء.

رسميا، تشكل حرب الاستقلال التي خاضها مصطفى كمال أتاتورك في العشرينات حجر الأساس لتركيا الحديثة. وقد أشادت هذه الحرب بوحدة الشعب التركي ضد احتلال الأراضي من طرف القوى الإمبريالية الأوروبية. ويؤكد عدة مؤرخون أن الانتفاضة انطلقت من جنوب تركيا قرب هاتاي، وهي محافظة من ولاية حلب التي كانت تخضع آنذاك للانتداب الفرنسي. بيد أن كون هذه المحافظة لم تصبح جزءا فعليا من الأراضي التركية إلا بعد عدة محاولات استقلالية (كان ذلك سنة 1939 أي بعد 12 سنة من إنشاء الجمهورية) يبين أنه لم يكن للسكان هدف واحد مشترك خلال هذه الانتفاضة الوطنية، بل كان لديهم أيضا مطالبهم الخاصة.

التراث الشفوي لصدمات الهوية

قرر أتاتورك في 1923 التراجع عن اتفاقية لوزان1 التي تضمن حق الاستقلال الذاتي للأقليات الأرمنية والكردي، بحجة أن هذه الاتفاقية جعلت تركيا تخسر أراض مهمة في الجنوب كما في الشرق.

لا يزال تاريخ صدمات الهوية والقمع الذي عاشه سكان المناطق المهمشة سواء في ظل الإمبراطورية العثمانية أو الأنظمة الاستبدادية التركية يتناقل من جيل إلى آخر عبر التراث الشفوي2. ويساهم ذلك في الحفاظ على سرد تاريخي بديل خاص بالسكان المحليين ومؤسس لهويتهم كأفراد، وكذلك في إدامة الميزات المجتمعية المؤسسة لهوية المجموعة (كاللغة والمعتقدات والشخصيات). إذ تُعرف جل الأقليات الاجتماعية العرقية والدينية التي لا تلتزم بتعريف الهوية التركية السنية بمعاداتها في نفس الوقت للدولة وكذلك للأحزاب السياسية المرتبطة بها في الانتخابات، اعتبارا منها أن السلطة في جميع الأحوال حصرية وتمارس التمييز.

حاول حزب العدالة والتنمية أول الأمر حلّ هذه الانشقاقات الموروثة من خلال سياسة تسعى إلى ضم هذه الأقليات، وذلك في إطار سياسة “انفتاح” أخذت منذ 2013 شكل اهتمام جديد بالتراث الثقافي التركي المتنوع. لكن ما لبثت الحكومة أن فهمت أنه من صالحها أن تقسم المجتمع وتضع نفسها من جهة الأغلبية السنية.

ازدهار بناء المساجد

لا تعدو إذن الأمة التركية التي يتحدث عنها ويحلم بها أردوغان أن تكون شبحا مبهما وغير ملموس، لا سلطة له عليه إلا بتغيير آثار التاريخ، أي بالتدخل على مسرح أحداثه. بيد أن ممارسات وعادات السكان المحليين مرتبطة بوثوق بفضائهم الجغرافي. صحيح أن هذه الممارسات تُقدّم عادة على أنها عابرة للزمن، لكن هذه الخاصيات الثقافية تشهد تغيرات وتتطوّر بتطور المجتمع.

على مرّ السنين، أثبت حزب العدالة والتنمية قدرته على التأقلم وعرف كيف يحارب الموروث الكمالي العلماني بحجة حرية المعتقد. صحيح أن الدستور التركي يعتبر العلمانية ركيزة أساسية، لكن الدولة تتحكم في المؤسسات الدينية وتتمتع بجميع الوسائل المتاحة لاستغلال هذه المؤسسات كما يحلو لها. وخلال عهدات حزب العدالة والتنمية، لوحظت زيادة هائلة في موارد وعدد العاملين في إدارة الشؤون الدينية التي تخضع مباشرة لسلطة الرئيس.

وبين 2007 و2017، بُني قرابة 000 10 مسجد، ما رفع عدد المساجد في تركيا إلى 021 88 مسجدا، وهو عدد يفوق بكثير احتياجات السكان. كما أن قانون 6002 لسنة 2010 والذي يعوض قانون 633 لسنة 1965 “يحدّ بصفة معتبرة من استقلالية المساجد ويعطي لإدارة الشؤون الدينية المزيد من الوسائل لمراقبة تدفق الأموال على الصعيد المحلي”3. وهكذا تظهر عملية فرض النموذج السني بالأساس من خلال بناء عدد هائل من المساجد، وهو ما أثبته تصريح الرئيس خلال افتتاح مسجد القصر الرئاسي المثير للجدل في 2015: “نعرف أنه حيث ما توجد قبة أو صومعة، فذلك وطن المسلمين”. زد على ذلك أنه من الصعب جدا الحصول على تفويضات لبناء كنائس جديدة، بينما لا يجدي اللجوء إلى القضاء ضد بناء المساجد نفعا.

حد من نفوذ السلطات المحلية

ليست هذه فقط كل الوسائل المستعملة. إذ يبذل حزب العدالة والتنمية ما في وسعه ليكون أكثر حضورا ويشارك أكثر في التنمية، على أمل توسيع رقعة نفوذه لتطال الفئات الريفية بمختلف مكوناتها العرقية واللغوية والموجودة على طول الشريط الحدودي مع سوريا. ويتحقق ذلك في جميع مجالات الحياة اليومية (التربية والنشاطات الاجتماعية والإعلام) وكذلك من خلال إعادة التنظيم الإقليمي للإدارة والمدن. إذ يسمح القانون 6360 المصادق عليه في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 بخلق 13 محافظات في مناطق كانت تعتبر إلى حد ذلك الوقت طرفية (تيكيرداغ، بالق أسير، مانيسا، أيدين، دنيزلي، موغلا، طرابزون، هاتاي، سانليورفا، كاهرمنمراس، ماردين، وان). هذا القانون المشجع للمركزية يحد من نفوذ السلطات المحلية مقارنة بالممثلين المباشرين للحكومة. عمليا، وبداية من 2014، تغير اسم أنطاكية ليصبح اسم المحافظة هاتاي، وهذا الاسم -التركي حصريا- يهدف لربط المنطقة مباشرة بالأمة التركية.

دفعت هذه التغيرات الإقليمية تدريجيا نحو تغيير في الموازين الاجتماعية التي كانت هشة بالأساس، وذلك تسهيلا لبروز هيكل سياسي موال للسلطة في هاتاي. إذ تتطور المشاريع الحضرية والترميمات والمساعدات والخدمات البلدية بطريقة أسهل في الأحياء السنية. أما الأحياء العلوية، فعلاوة على كونها لم ترتبط بشبكة الغاز إلا بعد ثلاث سنوات، فهي تعاني من قلة الوصول إلى شبكات النقل العمومي. وكانت نتيجة هذه السياسة ارتفاع عدد المصوتين لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 2014 و2015. وتمثل هذه السياسة التي كانت محل دراسة في تقرير للمعهد الفرنسي للبحث الدولي ذريعة لتأطير نمو المدينة في هذا النموذج الجديد الذي يفرضه الحزب، بتعلة إعطاء قيمة وحفظ الخصوصيات الثقافية لهذه المنطقة السياحية.

ترميمات “نظيفة وملساء”

لم تكن هناك حاجة لتغيير الدستور، إذ كان صعود الخطاب الديني من خلال نشر القيم الأخلاقية والإسلام القومي كافيا لتغيير العادات، لا سيما من خلال الترهيب والضغط الاجتماعي. وقد عزز ترميم أماكن العبادة والمواقع التاريخية فكرة انتقال الدين من الدائرة الخاصة إلى الفضاء العام. ففي هاتاي ورغم التغيرات الديمغرافية التي شهدتها المنطقة4، توجد عدة أماكن تشهد على انصهار الثقافات الدينية وعلى وجود هوية مرتبطة بتاريخ المحافظة وتتجاوز الطوائف. ثلاثة أمثلة على ذلك: ضريح الشيخ يوسف الحكيم في حربية، والموقع التاريخي للخضر في سمندق ومسجد حبيب النجار في أنطاكية.

أثبتت ترميم هذه المواقع مؤخرا تغيرا في المنظور، إذ اختفت المساحات الطبيعية حولها وكثرت الآيات القرآنية المنقوشة، في مشهد “نظيف وأملس” بات يعتبر إمضاء حزب العدالة والتنمية. فالحجارة المستعملة دائمة في الترميمات ملساء وبيضاء وذات زوايا قائمة، الهدف منها “تطهير” الواجهات والجدران والأرض من خلال إضفاء مظهر موحد على الموقع. فهي إذن لا تشير فقط للتاريخ بأنه غير طاهر، بل تمحو جميع المراحل التاريخية لبناء الموقع وبذلك، فهي تمحو كذلك التاريخ المحلي لمواقع تديرها اليوم بلديات باتت أكثر فأكثر في قبضة السلطة المركزية.

وأخيرا، أثبتت عدة أمثلة -من هاتاي لديار بكير- أن “الترميم” قد يعني الإصلاح ولكن كذلك المحو للكتابة من جديد إن كان الأمر يخدم السلطة. ويظهر ذلك بطرق مختلفة: “وفق عدة شهادات حصلنا عليها على الأرض، قامت الحكومة في مرات عديدة بالاستيلاء على أماكن عبادة لتجعل منها مساجد، أو استغلت جاذبية الموقع لتجعل منه متحفا كما كان الحال بالنسبة لكهف القديس بطرس”، والذي يقع في إحدى أقدم كنائس العهد المسيحي. كما أغلقت أماكن أخرى بتعلة أسباب أمنية لأن الحكومة لم تكن قادرة على مراقبتها. كما تُستعمل الحرب في سوريا والهجمات الإرهابية المرتبطة بها وكذلك القمع الذي تلا “انقلاب” يوليو/تموز 2016 لتبرير قرارات استثنائية مثل التمديد سبع مرات في حالة الطوارئ.

في أنطاكية، تم غلق الكنيسة الأرثوذكسية والكنيس اليهودي. وقد دفع استيلاء الدولة التركية على أماكن عبادة تابعة لأقليات مثل الكنيسة السريانية الأرثوذكسية لمريم العذراء التي تعود للقرن الثالث وغيرها من كنائس جنوب شرق تركيا، بالبرلمان الأوروبي ليندد بـ“قلة احترام حرية الدين، والتمييز ضد الأقليات الدينية”. ويضيف البرلمان في قرار بتاريخ 13مارس/آذار 2019 أن هذه الانتهاكات وصلت لأوجها خلال "التدمير المتعمد للموروث الثقافي في جزيرة ابن عمر وديار بكير واللتان تصنفان ضمن التراث العالمي لليونسكو، وكذلك من خلال بناء سد إليسو في حصن كيفا والذي دفع بالسكان لهجر مدينة أجدادهم التي غطاها نهر دجلة. وتدل محاولات الحكومة لمحو آثار ماض غني على عزم حزب العدالة والتنمية تحويل أماكن العبادة غير الإسلامية السنية هذه إلى تراث ثقافي بالٍ، بجعل الناس غير قادرين على الوصول إليها من جهة، وبالدفع نحو نسيانها من جهة أخرى.

فالهدف هو توحيد المجتمع التركي حسب نموذج وحيد وأوحد وهو الإسلام التركي، وهو ما يصبو إليه حزب العدالة والتنمية. وتسمح هذه العملية للدولة بإعادة فرض سلطتها على هيئات ومجتمعات هامشية لم تكن الحكومة قادرة على التحكم فيها في بادئ الأمر. وفي هذا السياق، يبدو العمل التوثيقي على التراث الثقافي في مناطق محددة ومجهولة من تركيا أمرا عاجلا، قبل أن يندثر كل أثر لهذا العالم القديم الذي يتلاشى شيئا فشيئا.

1اتفاقية سلام أمضيت في 24 يوليو/تموز 1923 في قصر رومين في لوزان، بسويسرا. وهي آخر اتفاقية أسفرت عنها الحرب العالمية الأولى، وتعرّف بحدود تركيا الناتجة عن الإمبراطورية العثمانية كما تنظم ترحيل السكان للحفاظ على تجانسهم الديني.

2Esra Demirci Akyol, The Role of Memory in the Historiography of Hatay : Strategies of Identity Formation through Memory and History, VDM Verlag, 2009.

3Samuel W. Watters, « Developments in AKP Policy Toward Religion and Homogeneity », German Law Journal, Vol. 19, No. 02, 2018.