الشركات العسكرية الروسية. كم فرقة تعد مجموعة “فاغنر”؟

ظهرت الشركات العسكرية الروسية، المتورطة في سياق التدخلات العسكرية لموسكو في أوكرانيا ابتداء من 2014 ثم في سوريا ابتداء من 2015، في الآونة الأخيرة في ليبيا وفي كثير من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء. ترتكز الأنظار بصفة خاصة على مجموعة “فاغنر” الغامضة التي يقودها يفغيني بريغوجين المقرب من فلادمير بوتين. خاصة وأن هذا الكيان ذي الملامح غير الواضحة يُنشر لأغراض مختلفة وفقا للوضعيات والبلدان.

مرتزقة روس في سوريا (الفيلق السلافي)

انتظمت بسرعة في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي سوق الأمن الخاص المتمحورة حول أنشطة الحراس الشخصيين والحراسة. أما الشركات العسكرية الخاصة، التي تقدم خدمات الحماية في المناطق الحساسة وإزالة الألغام والتكوين والتدريب، فقد ظهرت فيما بعد مع نهاية عام 2000. تزامن تطور الشركات العسكرية الخاصة في روسيا مع اهتمام متزايد من طرف المجتمع الاستراتيجي الروسي بهذه الظاهرة. فعلى غرار نظيراتها الغربية، تم تسجيل الشركات العسكرية الروسية -والتي يبلغ عددها حوالي 20- كشركات تجارية بسيطة كونها لا تتمتع بأي وضع شرعي، حتى لو كانت إمكانية توفير إطار قانوني لها موضوع نقاش منتظم في روسيا. وقد استعملت هذه الشركات العسكرية خاصة في تأمين حركة السفن التجارية في خليج عدن وفي عمليات إزالة الألغام في البلقان وليبيا، كما تم توظيفها أيضا من طرف منظمة الأمم المتحدة في تأمين قوافل اللاجئين في سوريا. قانونيا، يحظر نشاط المرتزقة في روسيا كما تنص عليه المادة 359 من قانون العقوبات الروسي.

الوجوه المتعددة ليفغيني بريغوجين

والمفارقة أن الاهتمام الذي حظي به خلال السنوات الأخيرة دور الشركات العسكرية الروسية الخاصة في سوريا وليبيا وأماكن أخرى، لا يتعلق كثيرا بالشركات التقليدية المذكورة أعلاه بقدر ما يخص كيانات أخرى وعلى الخصوص مجموعة “فاغنر” التي ليس لها صفة تجارية محددة ولا حتى وجود قانوني. تبدو مجموعة “فاغنر” بعد 5 سنوات من ظهورها بأنها تتشكل بالأساس من مجموعات من المرتزقة الروس المجندين بشكل خاص لخدمة رجل معين -وهو يفغيني بريغوجين- والذي يتعين اعتباره “تابعا مخلصا” للكرملين أكثر من كونه صاحب شركة.

بريغوجين الذي حقق ثروته في التسعينيات في مجال الوجبات السريعة، هو رجل أعمال مقرب من فلاديمير بوتين، وتقوم شركاته خاصة بتنظيم المآدب والمناسبات للرئاسة الروسية. وقد تم إدراجه في قائمة العقوبات الأمريكية حيث تتهمه واشنطن بالمشاركة عبر العديد من شركاته في مناورات للتدخل قصد التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016. تعد درجة التداخل بين مجموعة “فاغنر” والقوات المسلحة الروسية أكبر بكثير من تلك الموجودة مع الشركات العسكرية الخاصة التقليدية، إذ تعد هذه في صفوفها العديد من الجنود الروس المتقاعدين ذوي الكفاءات العملياتية التي اكتسبوها خلال مختلف العمليات المسلحة التي قامت بها موسكو في أفغانستان وطاجكستان وشمال القوقاز على سبيل المثال. بينما يختلف النموذج بالنسبة لـ“فاغنر” حيث أظهرت مختلف التحقيقات التي تم نشرها في الصحافة الاستقصائية الروسية مثل “ميدوزا” و“فونتاكا” أو“نوفايا غازيتا” أن أغلب العاملين المجندين من طرف هذا الهيكل تم تكوينهم وتدريبهم في قاعدة عسكرية توجد بـ“مولكينو” في منطقة “كراسنودار” التابعة للواء العاشر للمديرية العامة للأمن العسكري الروسي. كما أظهرت التحقيقات بأن معداتهم أُخذت من فائض الجيش الروسي.

يعود الفرق الأساسي بين مجموعة “فاغنر” والشركات العسكرية الخاصة التقليدية إلى كون الأولى شاركت في عمليات مسلحة مختلفة -في سوريا وليبيا على الخصوص- في حين لم تقم الأخيرة بأي نشاطات قتالية. يبدو هكذا أن مجموعة “فاغنر” تلعب دور المكمل البديل الذي يسمح لموسكو بالمشاركة في عمليات عسكرية بدون الحاجة للزج بقواتها العسكرية النظامية وبالتالي بدون أن تكون مضطرة لتبرير تورطها. هذه الطريقة في العمل المسماة “بالإنكار المقبول” (plausible deniability) استعملت بصفة متكررة في مختلف العمليات المسلحة التي تورط فيها الاتحاد الروسي.

“الرجال الخضر الصغار” يصعدون إلى الجبهة

في أوائل التسعينيات وخلال النزاعات الانفصالية في مولدافيا وجورجيا، قدمت موسكو دعما عسكريا حاسما للانفصاليين الترانسنيستريين والأبخاز والأوسيتيين الجنوبيين ضد سلطة تشيسيناو وتبيليسي دون أن تشارك رسميا في هذه النزاعات. وتعد عملية ضم شبه جزيرة القرم مثالا آخر للإنكار المقبول، حيث تكفل بالعمليات التي أدت إلى هذا المسار “الرجال الخضر الصغار”، وهم أولئك الجنود الذين لا تدل أي علامة على انتمائهم والذي كان بوتين يؤكد على أنهم عناصر من “قوى الدفاع الذاتي المحلي” ويمكن أن تجد بدلاتهم في أي متجر للفائض العسكري. وقد كانوا في الواقع أعضاء من وحدات النخبة للقوات المسلحة الروسية وعلى الخصوص من القوات الخاصة لمديرية المخابرات الروسية ومن القيادة السرية جدا للعمليات الخاصة التي تم إنشاؤها في 2013. وستلعب هذه الأخيرة فيما بعد دورا حاسما في العمليات العسكرية الروسية في سوريا.

النزاع المسلح الدائر في “الدونباس” منذ ربيع 2014 مثال آخر عن هذا “الإنكار المقبول”، إذا كان معظم المقاتلين الانفصاليين البالغ عددهم 000 35 مواطنين أوكرانيين بالفعل، تم تكوينهم وتأطيرهم وتدريبهم من طرف 3000 رجل من عناصر القوات المسلحة والمخابرات الروسية، وفقا لمعطيات نشرت في تقدير الميزان العسكري لسنة 2020 والتي تم جمعها من طرف المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.

قد يكون من المغري تعريف مجموعة “فاغنر” على أنها مجرد أداة في خدمة هذا “الإنكار المقبول” تحت مراقبة الكرملين، حيث تتيح لموسكو إمكانية التدخل أينما تشاء دون تحمل التكاليف المترتبة عن ذلك. ولكن هذه النظرة لا تعكس ظاهرة “فاغنر” سوى بطريقة جزئية كما تشير إلى ذلك أهم العمليات التي شارك فيها هذا الجهاز.

الفشل الذريع للفيلق السلافي في سوريا

يعود أصل “فاغنر” إلى 2013 عندما شارك الفيلق السلافي -وهو فرع مسجل بهونغ كونغ لمجموعة موران للأمن، تلك الشركة الروسية العسكرية الخاصة- لأول مرة في عمليات عسكرية في إطار النزاع السوري. وقد تم إرسال ما يقارب 270 عنصرا من الفيلق السلافي المجندين أصلا لمراقبة حقول النفط لحساب النظام السوري في منطقة دير الزور في شهر أكتوبر/تشرين الأول، لدعم مجموعات موالية للحكومة في مدينة السخنة بريف حمص، كانت تتعرض لهجوم المتمردين. ومنيت هذه المغامرة بإخفاق ذريع حيث هلك كثير من أعضاء الفيلق السلافي في هذه العملية. وعند عودتهم، تم اعتقال اثنين من قادة الفيلق -هما فاديم غوساف ويبغينيج سيدوروف- من طرف جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB). وأكد الحكم عليهم في أكتوبر/تشرين الأول 2014 بعدة سنوات من السجن بتهمة الارتزاق، فكرة أن العملية لم يتم إقرارها في الكرملين ولم تحظ بموافقته. وكانت تلك المرة الأولى التي ينطق فيها بمثل هذا الحكم في روسيا.

هذا ما يؤكده أوليغ كرينيتيسين، مدير مجموعة “آر - إس - بى”، وهي أهم شركة عسكرية روسية خاصة، إذ صرح في حوار مع “فونتاكا” في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 بأن متاعب الفيلق السلافي في سوريا تعود إلى تهور مطلق ومبادرة خاصة دون استشارة السلطات الروسية.

معارك تدمر

تشكلت “فاغنر” إلى جانب الانفصاليين الموالين لروسيا في دونباس، وتم ذلك حول شخصية دميتري يتكين، عقيد الاحتياط في مديرية المخابرات الرئيسية الروسية الذي شارك في مغامرة الفيلق السلافي. وصلت “فاغنر” إلى الساحة السورية في 2016، وهي الفترة التي تتوافق مع إحكام قبضة يفغيني بريغوجين عليها. وبرزت المجموعة بمشاركتها من خلال مئات من عناصرها في معركتين لاسترجاع تدمر في مارس/آذار 2016 ومارس/آذار 2017، وذلك بتلاحم وثيق مع القوات المسلحة الروسية والطيران ووحدات قيادة العمليات الخاصة وأيضا القوات السورية. ووفرت “فاغنر” حضورا قويا على الأرض كانت القيادة العسكرية الروسية في سوريا تفتقر إليه، لأن التدخل الروسي كان جويا في الأساس منذ البداية.

بما أن روسيا تتبنى كليا تدخلها في سوريا الذي تم في إطار اتفاقية التعاون العسكري الموقعة سنة 1980 بين موسكو ودمشق، فإن اللجوء إلى “فاغنر” في معركة تدمر لا يدخل في إطار مبدأ “الإنكار المقبول”. لم تكن موسكو تهدف إلى إخفاء تدخلها باللجوء إلى “فاغنر” خلال معركتي تدمر، بل كانت الغاية تفادي اللجوء إلى عناصر القوات المسلحة النظامية والتي يصعب تبرير مقتلهم لدى المواطنين الروس. اللجوء إلى “فاغنر” يدخل إذن في هذه الحالة ضمن تحديات عملياتية بالنسبة للقيادة الروسية. العملية الأخرى التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة وشاركت فيها “فاغنر” هي محاولة استرجاع حقول النفط التي تسيطر عليها القوات الديمقراطية السورية في منطقة دير الزور لحساب دمشق في فبراير /شباط 2018. ومنيت هذه العملية بالفشل وقُتل فيها العشرات من عناصر “فاغنر”.

في هذه الحالة، لا يعود اللجوء إلى هذه المجموعة إلى رهانات عملياتية بالنسبة لموسكو بل إلى منطق تعاقدي بين “فاغنر” وفاعل محلي، أي بناء على عقد تم بين المؤسسة العامة للنفط، وهي شركة عمومية سورية تتكفل باستغلال البترول والغاز من جهة، و“إيفرو بوليس” إحدى الشركات التي يمتلكها يفغيني بريغوجين. بموجب هذا العقد كان من المفروض أن تتحصل الشركة الروسية على 25% من عائدات المحروقات مقابل حمايتها. ويبدو من نتيجة العملية أنها لم تتم بالتنسيق الوطيد مع القيادة العسكرية الروسية في سوريا، ما يطرح مسألة درجة السيطرة الحقيقية لقيادة الأركان الروسية -وفي آخر المطاف للحكومة الروسية- على “فاغنر”.

المشاركة في هجمات حفتر في ليبيا

جاء وصول بريغوجين وهياكله إلى ليبيا في أعقاب لقاء نظم بموسكو في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، بين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ووفد من كبار المسؤولين العسكريين الليبيين بقيادة الجنرال خليفة حفتر. وقد شارك بريغوجين في هذا اللقاء. ولكي نفهم وصوله إلى المسرح الليبي يجب التذكير أولا بأن دور موسكو في هذا الملف محدود جدا مقارنة بالجبهة السورية. فعلى عكس ما يحصل في سوريا، ليس هناك وجود عسكري روسي كبير في ليبيا. فاستثمار موسكو في حل الأزمة الليبية يرتكز أساسا على تنفيذ دبلوماسية موازية عبر القناة الشيشانية أو من خلال رجل الأعمال ليف دينغوف، رئيس مجموعة الاتصال الروسية حول ليبيا ورئيس غرفة التجارة الروسية الليبية التي أنشئت عام 2017. وإذا كانت موسكو تدعم رسميا على السواء حكومة فايز السراج في طرابلس والمشير حفتر، فإن هذا الأخير يحظى بتفضيل من الكرملين، وهو دعم آخر يحظى به رجل طبرق القوي إلى جانب مساندين آخرين، وفي المقدمة مصر والمملكة العربية السعودية.

شارك مقاتلو “فاغنر” في الهجمات التي شنها المشير حفتر في ربيع وخريف 2019 في محاولة الاستيلاء على طرابلس كما أظهرت ذلك تحاليل فريق “كونفليكت انتلجنس تايم” التابع لمجموعة من المدونين الروس، وهو فريق أنشئ أصلا في 2014 لتوثيق وإدانة التدخل العسكري الروسي في الدونباس. هناك اختلاف في تقدير عدد عناصر “فاغنر” الذين شاركوا إلى جانب الجيش الوطني لحفتر. تتكلم الصحافة الاستقصائية الروسية عن بعض مئات من المقاتلين في حين ندد الرئيس التركي في ديسمبر/كانون الأول 2019 بوجود 2000 مرتزق روسي. ويبدو أن الحقيقة أقرب إلى التقدير الأول. ومهما يكن فإن وجود المقاتلين الروس في ليبيا -والمعترف به ضمنا من طرف فلادمير بوتين عندما صرح في يناير/كانون الثاني الماضي بأنه “إذا كان هناك مواطنون روس موجودين فإنهم لا يمثلون مصالح الدولة الروسية ولا يتلقون أموالا من الدولة الروسية”- لم يكن ولن يكون ممكنا أن يكون له دور حاسم في مشروع المشير حفتر.

أداة تخدم الفرص

يمكن تقديم عدة تفسيرات في هذا الموضوع. من الممكن أن تكون موسكو قد سهلت وصول المرتزقة إلى ليبيا -مع العلم أن هذا الوجود لن يكون أبدا حاسما على الأرض- حتى تكون قادرة على رفع المزايدات على الجبهة الدبلوماسية والمطالبة بلعب دور أكبر في الملف الليبي -وقد حصل ذلك. في بداية يناير/كانون الثاني 2020، أطلقت موسكو وأنقرة مبادرة مشتركة من أجل وقف إطلاق النار في ليبيا، وبعد ذلك انتظمت قمة شارك فيها كل من السراج وحفتر بموسكو. كما شارك فلاديمير بوتين في المؤتمر الدولي حول ليبيا الذي نظم في برلين يوم 20 يناير/كانون الثاني. ويبدو أن عناصر “فاغنر” انسحبوا من مناطق القتال بعد انطلاق الحوار الروسي التركي.

من الممكن أيضا -وهذان التفسيران متكاملان- أن يكون الكرملين قد سمح لبريغوجين ببيع خدماته إلى المشير حفتر مادام ذلك لا يغير بصفة أساسية موازين القوى على الأرض. إذ توجد الحقول النفطية الليبية أساسا في المناطق التي يسيطر عليها حفتر، وهناك فرضية محتملة بوجود اتفاق صادق عليه الكرملين بين حكومة طبرق وبريغوجين ينص على أن رجل الأعمال الروسي سيتمكن مقابل دعم بالمقاتلين في الهجوم على طرابلس من الوصول إلى صفقة تأمين مواقع المحروقات. وهو النموذج الذي ترتكز عليه نشاطات بريغوجين في سوريا.

بعد سنوات من ظهور مجموعة “فاغنر” في الدونباس وتقويتها على الأرض السورية، ما يزال تعريف هذا الكيان محل إشكال. اعتبار المجموعة مجرد شركة عسكرية خاصة يعد اختزالا ولكن في المقابل تصنيفها كأداة جديدة بين يد الكرملين مضلل أيضا، لأن ذلك يوحي بأن “فاغنر” هيكل منظم ومستديم تكون للسلطة التنفيذية اليد الكاملة عليه. وذلك ليس صحيحا. تتميز “فاغنر” بتشابك المصالح الخاصة لبريغوجين، وأحيانا وليس دائما مع الأهداف العملياتية أو الدبلوماسية لموسكو. ولكن يجب اعتبارها وسيلة تسهل بعض الفرص في ميدان ما وليست أداة جديدة لاستراتيجية كبيرة.