الجزائر. عملية تطهير واسعة في الجهاز العسكري-الأمني

بينما يركز الإعلام والرأي العام الجزائريين على فيروس كورونا تمت سلسلة من التغييرات في الجهاز السياسي العسكري بإرادة من الرئيس تبون، لكن يصعب أحيانا فك رموزها.

يتوسط الصورة قائد الأركان السعيد شنقريحة.

في غضون ثلاثة أسابيع، شهدت أهم ثلاثة أجهزة مخابراتية وأمنية تغيير مسؤوليها: المديرية المركزية لأمن الجيش التي تقوم بمراقبة العسكريين، ومديرية الأمن الداخلي التي تشكل الشرطة السياسية الحقيقية للنظام، ومديرية الأمن الخارجي التي تُؤوَى في السفارات وتتكفل بمتابعة المعارضين السياسيين الناشطين في الخارج ولها أيضا مهام التفاوض الدبلوماسي السري.

تمت إعادة تنظيم وزارة الدفاع وتغيير قياداتها العليا. ففي 4 أبريل/ نيسان 2020، لم يلفت تعيين نائب المدير العام للأمن الداخلي انتباه وسائل الإعلام. فقد أصبح الجنرال عبد الغني راشدي الذي كان حتى ذلك الوقت على رأس معهد الدراسات العليا للدفاع الوطني -وهي مؤسسة يتمثل نشاطها الأساسي في دعوة محاضرين أجانب- مساعدا ولكنه يتمتع “بصلاحيات واسعة” كما ورد في بيان رسمي. وبعد ثمانية أيام من ذلك، خلف مديره الجنرال واسيني بوعزة، الذي انتقل في يوم واحد من مكتبه إلى السجن العسكري بالبليدة. وفي اليوم الموالي تم تنصيب الجنرال راشدي بصخب في وظيفته تحت أعين كاميرات التلفزة العمومية الجزائرية، وهي سابقة في تاريخ المخابرات الجزائرية.

عدم “تخريب” عمل الرئيس

أمر قائد الأركان السعيد شنقريحة الذي ترأس المراسيم أعوان المديرية العامة للأمن الداخلي “بطاعة” رئيسهم الجديد، وألا “يخربوا” سياسة الرئيس عبد المجيد تبون “وفقا للقانون العسكري”. اتُهم واسيني بوعزة بالتعدي على صلاحيات المديرية المركزية لأمن الجيش من خلال قيامه بتحقيق حول قائد إحدى النواحي العسكرية الستة الموجودة في البلاد. ويُقدم على الخصوص على أنه الملهم لسياسة التعامل المتشدد تجاه الحراك، تلك الحركة الشعبية التي تظاهرت لأكثر من سنة في شوارع الجزائر العاصمة والمدن الكبرى قبل أن تتوقف في منتصف مارس/آذار الماضي خوفا من وباء كورونا. وأخيرا كان لواسيني بوعزة خلاف شخصي مع عبد المجيد تبون حيث تكون مصالحه هي التي قامت خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في خريف 2019 بالتسريبات ضد خالد تبون، ابن المترشح والمتهم بتهريب المخدرات، وكذلك ضد مؤيدين آخرين للمرشح تبون. هل راودت واسيني بوعزة -ومن ورائه قايد صالح- شكوك متأخرة بخصوص مرشحهم للرئاسيات وأرادوا تغيير الحصان الذي راهنوا عليه وسط السباق؟ بصفة مفاجئة ظهر خلال بضعة أيام عز الدين ميهوبي، وزير سابق مترشح للرئاسيات باسم حزب يحتضر وهو “التجمع الوطني الديمقراطي”، على أنه الورقة المفضلة الجديدة وقيل إنه يحظى بدعم المملكة العربية السعودية قبل أن ينهار أخيرا في صناديق الاقتراع.

قبل ذلك بشهر في نهاية مارس/آذار 2020، أعيد تنصيب اللواء سيد علي ولد زميرلي في منصبه كمدير مركزي للأمن الداخلي، الذي يتكفل بمراقبة العسكريين، وهو يحقق اليوم مع الجنرال واسيني بوعزة. كما أن اللواء محمد بوزيت -المدعو يوسف- عاد بشكل غير منتظر إلى منصبه بعد سنة من “العطلة” في المديرية العامة للأمن الخارجي. فكيف يمكن تفسير إعادة تعيين اللوائين في مناصب تمت تنحيتهما منها؟ قد طُرد اللواءان من طرف الفريق أحمد قايد صالح المتوفى في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2019، والذي كان الحاكم الفعلي الحقيقي للجزائر بين أبريل/ نيسان وديسمبر/ كانون الأول 2019. هل قام قايد صالح بتصفية حسابات تعود إلى حركة صائفة 2018 التي أدت إلى إقالة حوالي دزينة من الجنرالات في أعلى مناصب الجيش والدرك ومنهم خمسة برتبة لواء تم سجنهم دون محاكمة؟ كانت تلك هي المرحلة التي تم فيها تعيين اللواء السعيد شنقريحة قائدا للقوات البرية، وهي الصفة التي جعلته يخلف قايد صالح بعد وفاته ولكن بسلطات أقل. فالسعيد شنقريحة هو رسميا مجرد قائد أركان بـ “النيابة” في انتظار تعيين صاحب المنصب الذي لم يأت بعد. وخلافا لسلفه أحمد قايد صالح فهو لا يضطلع بمنصب نائب وزير الدفاع الوطني.

في مرسوم رئاسي صدر مؤخرا، قام الرئيس عبد المجيد تبون -الذي يجمع كأسلافه بين منصب الرئيس ووزير الدفاع- بتعزيز سلطات الأمين العام لوزارة الدفاع الذي يمثله. وصار هذا الأخير يشرف على جميع المديريات المركزية، “باستثناء قيادة الأركان”. ومن الواضح أن اللواء شنقريحة يوجد تحت المراقبة، فهو يحتفظ بصلاحياته واستقلاليته ولكنه لا يخلف قايد صالح.

الجيش يُمسُّ بدوره

حصل داخل الجيش تعيينان عامان خلال الربيع على مستوى القوات البرية وقيادة الأركان. أوكلت قيادة القوات البرية إلى اللواء عمار عثامنية الذي كان حتى ذلك الحين قائدا للناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة). يتحكم قائد القوات البرية في الجزء الأكبر من الجيش الجزائري الذي هو في الأساس جيش بري حيث إن للطيران والبحرية أهمية نوعية أكثر منها كمية. لا شك أن قائد الأركان السعيد شنقريحة أراد أن يعهد بالمنصب إلى ضابط سام يحظى بثقته. وهو بعمله هذا خالف قاعدة قديمة تجعل من قائد الناحية العسكرية الثالثة اللواء مصطفى اسماعيلي من يرتقي إلى منصب قائد القوات البرية، كونه في مواجهة المغرب -العدو التقليدي- يجمع النصيب الأكبر من القوات البرية. لهذان القائدان اللذان هما على رأس تعداد كبير وعلى الرغم من أن الثاني يوجد تحت إمرة الأول، وجهات نظر متباينة بخصوص مسائل عسكرية بحتة.

على مستوى قيادة الأركان تم تعيين محمد قايدي، وهو أصغر لواء في الجيش، رئيسا لدائرة “الاستعمال والتحضير”، وهي مماثلة للمكتب الثالث الكلاسيكي في الجيوش الأوروبية والمكلفة بـ“العمليات”. وهو الوحيد الذي يعتبر تقنيا قادرا على القيام بانقلاب. ويخلف في هذا المنصب اللواء محمد بشار. هنا أيضا قد يعود الأمر الى خلافات عسكرية بحتة بين شنقريحة وبشار، ولكن يمكن أيضا أن يكون سبب ذلك غياب الثقة بين الرجلين. فشنقريحة وبشار لم يكونا يعملان معا قبل 23 ديسمبر/كانون الأول 2019، تاريخ وفاة قايد صالح. وكان بشار قد تم تعيينه قبل ذلك بشهر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، خلفا للواء شريف زراد الذي ظل في المنصب لسنوات عديدة وتمت “تنحيته” من طرف قايد صالح دون تفسير. اتهمته بعض الصحف المغمورة بالتواطؤ مع نائب برلماني من عنابة في خصام مع عائلة قايد صالح، في حين يربط بعضهم ابنه بفضيحة عقارية مع عائلة الهامل، المدير العام للأمن الوطني السابق. وقد حصل ذلك في خضم الحملة الانتخابية، مما قد يكون سبب الخلاف مرتبط باختيار المرشح. هل كان زراد يفضل مرشحا آخر غير الذي كان يدعمه الفريق أحمد قايد صالح؟

يبدو أن الرئيس وقائد الأركان عازمان على تصفية إرث قايد صالح في المخابرات. هل يقومان معا بتصفية عصبته قصد إطلاق إصلاح دستوري وإعادة التأسيس السياسي للنظام بعد نهاية وباء كورونا، كما يأمل جزء من الصحافة الفرنكوفونية الجزائرية التي تسارع إلى جعل واسيني بوعزة المسؤول عن مصائب الليبراليين؟ قد تكون بداية الجواب هي تلك التي جاءت يوم الخميس 16 أبريل/نيسان حيث برأت محكمة الاستئناف لبرج بوعريريج 15 مناضلا متهمين بمحاولة تخريب الانتخابات الرئاسية. ولكن ماذا عن الآخرين الذين لا يزالون في السجون؟ أم يكون السعيد شنقريحة بصدد تعزيز قاعدته في الجيش قصد التأثير في سير الأحداث؟ يعد بقاؤه في منصب قائد الأركان “بالنيابة” فقط، إشارة إلى أن الرئيس لا يثق فيه بشكل كامل. ويعود سبب ذلك كون تبون ليس هو من اختاره ولكنه اضطر أن يراعي نظام الاستخلاف الخاص بالمؤسسة العسكرية حيث تقتضي القاعدة القائمة أن يخلف قائد القوات البرية قائد الأركان المغادر.

أية ميزانية للدفاع؟

لكن قد يكون للأزمة بُعدٌ مرتبط بالميزانية. تمثل ميزانية تسيير وزارة الدفاع ربع نفقات تسيير الدولة، دون احتساب مشتريات الأسلحة من الخارج التي هي على عاتق الخزينة العمومية. وهي تمثل من سنة إلى أخرى بين مليار وملياري دولار. وستخصص هذه السنة ميزانية تتراوح بين 11 و12 مليار دولار للجيش. وهذا كثير، خاصة وأن الإيرادات الخارجية تتراوح بالكاد ما بين 20 و25 مليار دولار في 2020. من الواضح أن الأزمة البترولية ووباء كورونا يفرضان الحد من الإنفاق العمومي. لكن مقطعا من افتتاحية المجلة الشهرية للجيش الوطني الشعبي “الجيش” يُظهر أن المؤسسة العسكرية غير ميالة إلى ذلك:

نقول إن الانسجام الكامل بين رئيس الجمهورية والجيش الوطني الشعبي والاهتمام الذي يوليه القاضي الأول للبلاد للأمن والدفاع الوطنيين، نابعة من إيمانه الراسخ بضرورة عصرنة قوات الجيش الوطني الشعبي ليتسنى لها أداء مهامها الدستورية وبلوغ الجاهزية الدائمة لمواجهة كل التهديدات المحتملة ورفع مختلف التحديات الأمنية.

ولكن هل الرئيس تبون مستعد لمواصلة تمويل الجيش بنفس وتيرة اليوم؟ يبدو ذلك الشرط الوحيد الذي سيجعله يستفيد من دعمه.

بعد أربعة أشهر من وصوله إلى رئاسة الجمهورية ووفاة قايد صالح، مازال تبون في وضع من يستلم السلطة تدريجيا. لقد قام بتعليق الإصلاح الدستوري المعلن عنه في 8 يناير/كانون الثاني الماضي والذي يحافظ -وفق عضو مستقيل من اللجنة- بشكل أساسي على الوضع القائم. ولم يعد يستقبل شخصيات سياسية مستقلة. وهو يكرس نفسه بصفة ظاهرة لمكافحة وباء كورونا الذي أودى بحياة 459 شخص بحلول 3 مايو/أيار.

توقف الحراك الشعبي منذ منتصف مارس/آذار ولا أحد يعلم إن كان سيُستأنف يوما. كما تُشهد عودة قوية للأساليب القديمة حيث يزداد القمع ضد الصحفيين ووسائل الإعلام، ناهيك على أن أحد الأسماء المعروفة في المهنة وهو خالد درارني، مسجون منذ منتصف شهر مارس/آذار. كما يمنع الوصول إلى موقع “مغرب إيميرجانت” من الجزائر بحجة أن “تمويله غير مطابق للقانون”، والواقع أنه، كما اعترف بذلك وزير الإعلام في الأخير، يدفع ثمن نشر مقال نقدي جدا لصاحب الموقع الصحفي إحسان القاضي، بخصوص حصيلة “مائة يوم” من حكم رئيس الجمهورية.

في وزارة المالية، تم طرد المدير العام للميزانية لأنه عارض في الماضي عبد المجيد تبون عندما كان وزيرا دائما للسكن للرئيس بوتفليقة (من 2001 إلى 2002 ثم من 2012 إلى 2017). وفي وزارة الخارجية تم فصل مسؤول التشريفات من أجل تفاهة، لأنه طلب من مستشار تقني غامض في الرئاسة رسالة تدعم طلب الحصول على جواز سفر دبلوماسي للواء عجوز متقاعد.

من المؤكد أن العادات السيئة لا تزال قائمة ولا تريد أن تموت.