الحرب الضائعة للنظام المصري في سيناء

تقاتل القوات المصرية منذ ثماني سنوات بسيناء دون نجاح يذكر مجموعات جمعت بين التمرد الإسلامي والثورة القبلية البدوية ضد الدولة المركزية. وبعد أن فشلت في إخراج البدو من البؤس الاقتصادي والاجتماعي، تبدو الدولة المصرية ميالة إلى تفضيل التحالف مع بعض القبائل ولكن دون أن تنجح في احتواء التمرد المسلح.

في الموسم الأخير من مسلسل التجسس الفرنسي “مكتب الأساطير” (Le Bureau des légendes)، تتقرب مصالح المخابرات الفرنسية (المديرية العامة للأمن الخارجي) من شيخ الترابين، ويقبل هذا الأخير التعاون معها. وفي مقابل مدهم بمعلومات عن الإسلاميين، طلب دعما عسكريا وعملا لشباب القبيلة. ويذكر الشيخ الآفات التي تعصف بشباب سيناء: المخدرات، الانحراف، البطالة والإسلاموية، ولا يستثنى ابنه من ذلك. ففي غياب مورد رزق، يقوم هذا الأخير بالتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية لينتهي به الأمر إلى تنظيم عملية بفندق في القاهرة.

تلخص هذه الحبكة بخطوط عريضة الرهانات المطروحة في شبه جزيرة سيناء: السلوكيات الملتوية للقبائل وشباب ينحدر نحو الإسلاموية واهتمام من طرف أجهزة المخابرات…

تأثرت وضعية هذا الإقليم الاستراتيجي الذي يعد مقطعا بين أفريقيا وٱسيا ونقطة عبور ومنطقة عازلة، بسياسات مختلف السلطات التي توالت على إدارته: الإمبراطورية العثمانية ثم الإدارة الأنغلو-مصرية ثم الاحتلال الإسرائيلي وفي الأخير العودة إلى كنف مصر في 1982. ولكن الاحتلال الإسرائيلي هو الذي صاغ بشكل أكبر تمثيل المنطقة في الذهنيات، فسيناء تمثل حصنا ضد “الغزو الصهيوني”، وهي الوطن المسترجع. ومن المفارقات أن هذه الأرض المقاومة والفقيرة جدا مهملة من طرف الحكم المركزي. تتصور السلطة في القاهرة سيناء على أنها أرض بدو متخلفين، متمردين دوما على استعداد للتحالف مع الأجنبي، وترى فيهم أيضا “الطابور الخامس” المهدد لوحدة البلاد. من جانبهم، ينظر البدو إلى الدولة المصرية على أنها قوة احتلال أخرى، “احتلال مصري”.

تتشكل شبه جزيرة سيناء من صحاري وجبال قاحلة وأودية شديدة الانحدار ومدن على الساحل ومجال تسود فيه القبائل: أي باختصار أرضية مثالية لحرب العصابات. عاشت شبه الجزيرة في سلام نسبي بعد معاهدة الصلح بين قبيلتي “التياها” و“الترابين” سنة 1889 التي رسمت حدود أراضي القبائل ووزعت الطرق التجارية، ثم رفضت الرضوخ لنير دولة مركزية تعتبرها غير شرعية فانتفضت سنة 2011. وتحول هذا التمرد القبلي التقليدي بسرعة إلى حرب عصابات عندما اندمجت فيه الجماعات الإجرامية والإرهابية العابرة للأوطان. وبعد أن تحولت إلى منطقة خارجة عن القانون فشلت فيها الدولة، صارت سيناء غير المستقرة تشكل تهديدا لكل المنطقة.

تدخلت مصر المرعوبة من الإسلامويين عسكريا في سيناء منذ 2012 قصد فرض السلم وإعادة النظام. وهي أهداف ليست وشيكة التحقيق في حين تتواصل العمليات العسكرية إذ لم يتمكن الجيش المصري من التحالف مع القبائل والسكان المحليين.

الحلقة المفرغة لغياب القانون والعنف

تعرض شمال سيناء -وهي إحدى أفقر محافظات البلاد- بقوة لآثار السياسات الليبرالية المطبقة في مصر تحت رئاسة حسني مبارك. فقد قامت الدولة المصرية التي لا تعترف بالملكية المشتركة أو القبلية، بسلب البدو جزءا من أراضيهم وتحويلها إلى منتجعات سياحية في الجنوب وإلى مناطق صناعية في الشمال. فما هي البدائل التي بقيت لهم بعد ذلك؟ تمكن البدو في الجنوب من جني بعض الفتات من المنّ السياحي، بينما بقي الوضع في الشمال أكثر صعوبة، حيث يشكو أكثر من نصف السكان من البطالة. وقد احتل مناصب الشغل التي تم خلقها مصريون قادمون من وادي النيل وعمال سودانيون وصينيون. وفوق ذلك كله، لا يحق للبدو الالتحاق بصفوف الجيش أو الشرطة أو أي مصلحة عامة أخرى.

لم يبق أمام هذا التهميش الاقتصادي والاجتماعي إلا ممارسة التهريب، خاصة ابتداء من 2007 وهو تاريخ بداية الحصار الاسرائيلي على غزة. فأصبح عدد من أهالي سيناء يهرّبون عبر الأنفاق كل ما يحتاجه الفلسطينيون (الغذاء، الإسمنت، السيارات، البضائع الالكترومنزلية...)، وكانوا يجنون من هذه التجارة بين 500 مليون وملياري دولار سنويا وآلاف مناصب الشغل. لذا صار هذا التهريب حيويا لبقاء البدو، كما هو بالنسبة للغزاويين.

إضافة إلى هذه التجارة، هناك تهريب غير شرعي يقوم به الإسلاميون على الخصوص. لقد أصبحت شبه الجزيرة مجالا لمرور الأسلحة الليبية والإيرانية والإتجار الحقير بالمهاجرين الإريتريين والسودانيين الذي يحاولون الفرار من الحروب في بلدانهم. يتم اختطاف هؤلاء وتحريرهم مقابل فدية (30 ألف دولار للفرد). وإذا لم يحصل هؤلاء المتاجرون على الفدية يحولونهم إلى عبيد أو يبيعون أعضاءهم. وتكون عمليات اختطاف الرهائن هذه قد جلبت لهم 600 مليون دولار بين 2009 و2013. يبقى مستوى مشاركة البدو في هذه التجارة الإجرامية التي لم يعتادوا عليها سؤالا معلقا. ومهما يكن فإن الاعتماد على هذا الإتجار يجعلهم غير قابلين للتعاون مع الدولة… ويسيء إلى سمعتهم لدى الشعب المصري.

تمرد قبلي وحرب عصابات إسلاموية

شكلت ثورة ميدان التحرير في يناير/كانون الثاني 2011 نقطة تحول وخلقت فراغا أمنيا. اغتنم البدو ذلك لإعادة التفاوض على العقد الاجتماعي، أي المطالبة باستقلال ذاتي سياسي واقتصادي أكبر. لكنهم لم يكونوا الوحيدين في ذلك، فقد كان يقود الحركة من الخلف دعاة سلفيون ينادون إلى التمرد ضد مصر وإسرائيل. ووجدت الجماعات الراديكالية المحلية أو العابرة للأوطان نفسها في هذه المنطقة التي لا تخضع لقانون وازدهرت فيه: “القاعدة في سيناء”، “التوحيد والجهاد”، “حركة حسم” (“حركة سواعد مصر”)، أو “التكفير والهجرة” المنبثق عن فرع متطرف من الإخوان المسلمين. وتبقى الجماعة الأكثر نشاطا هي “أنصار بيت المقدس” والتي أعلنت عن أهدافها: تحرير القدس والجهاد ضد القوات المصرية “حارسة اليهود” و“جنود الفرعون السيسي”. وقد تحولت الجماعة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 إلى “ولاية سيناء” بعد الإعلان عن ولائها لداعش وتبني أساليبها: المحسوبية واستغلال الخلافات المحلية.

اكتشف البدو والإسلاميون مصالح مشتركة بينهم خاصة في المجال الاقتصادي. تسيطر القبائل على طرق التهريب وتنظم التجارة مع غزة وتوفر المأوى للإسلاميين الذين يحافظون على حالة من غياب القانون مواتية لأعمالهم، ويوفرون الأسلحة إذا لزم الأمر ويتقاسمون الأرباح المالية. وقصد كسب تأييد المجتمع البدوي، يلعب الجهاديون على وتر الإحساس بالضيم والرغبة في الانتقام من السلطة المصرية.

وإذا كان ذلك غير كاف، فإنهم يدفعون لهم مقابل دعمهم أو يستعملون وسائل أكثر عنفا قصد إخضاعهم بالقوة. ومع ذلك فهم لا يشكلون سوى تحالف ظرفي بالنسبة للإسلاميين الذين يحتقرون هياكل القيادة القبلية ويصفونها بالجاهلية.

إن لم تكن سيناء بمنأى عن ديناميكية الانزلاق تحو التيارات الإسلامية التي تجتاح العالم العربي الإسلامي منذ ثلاثة عقود، فهي تحتفظ بطرق صوفية قوية. يتأثر البدو بالمواجهة المنتظمة مع الأيديولوجية الإسلاموية والدعاة السلفيين. ينساق شباب البدو والفقراء ومن هم دون آفاق عمل أكثر وراء الإسلام الراديكالي. وبالفعل تتحدى هذه الأيديولوجية المساواتية البنية الأبوية للمجتمع القبلي وتجذب إليها البدو الذين ليست لهم سلطة داخل القبيلة.

ويزيد فقدان مصداقية شيوخ القبائل المعينين من طرف الدولة حتى تتمكن من التحكم فيهم، من إضعاف الهيكل القبلي هذا. ويعرض جزء من البدو عن الصوفية ويتحولون إلى الإسلاموية وتطمس هكذا الحدود بين القبائل والجماعات الجهادية.

فشل الحملات العسكرية المتتالية

شكل تدفق الأسلحة الليبية على سيناء بعد سقوط القذافي وكذا السجناء الهاربون في عام 2011 وصعود الإسلاميين “كوكتيلا” متفجرا زعزع استقرار شبه الجزيرة وغذى التمرد. بعد هدنة خلال رئاسة مرسي (2012 – 2013) نتيجة سياسة أكثر لينا اتبعتها السلطة (مشاريع تنمية، حقوق ملكية جديدة وحوار مع الجماعات المسلحة)، عادت الهجمات مرة أخرى. كانت هذه الهجمات في البداية “بسيطة” (تفجيرات انتحارية وقنابل تقليدية وغارات على خطوط أنابيب الغاز)، ثم أصبحت أكثر تعقيدا بعد أن تحصل الجهاديون على صواريخ أرض-جو روسية الصنع من ليبيا واكتسبوا قدرة على ضرب الأهداف الجوية. وفي 2015 استعملت جماعة “ولاية سيناء” (أنصار بيت المقدس سابقا) صاروخا مضادا للدبابات ضد سفينة حربية على الساحل. وليست القوات المسلحة وحدها المستهدفة، فقد نشرت جماعة ولاية سيناء في يناير/كانون الثاني 2017 فيديو دعائيا تتوعد فيه “كفار ومُرتدي مصر وأماكن أخرى” وجعلت منها هدفا جديدا. وتبع ذلك العديد من الهجمات على الكنائس في القاهرة والإسكندرية والدلتا.

بعد تهديدات وعمليات اختطاف وإعدامات في المنازل أريدت كـ“عبرة”، فر كل أقباط العريش، المدينة الكبرى لشمال سيناء في 2017. ولم يسلم المسلمون إذ تم إخضاعهم للشريعة ومُنعوا من ممارسة طقوسهم الصوفية. وأدى هجوم على مسجد صوفي في يوم جمعة سنة 2017 ببئر العبد شمال شبه الجزيرة، إلى مقتل 300 شخص.

أمام هذا التمرد، شن الجيش المصري “حربه على الإرهاب”: وبعد الإطاحة بمرسي وحظر الإخوان المسلمين، شنت سلطة السيسي حربا على كل الجبهات ضد الإسلاميين. وقد أثنى المسلسل الرمضاني “الاختيار” على الجيش المصري، في حين وضع الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في 2012 وجهاديي داعش بسيناء في سلة واحدة.

تتوالى منذ 2012 الحملات العسكرية في سيناء، فأطلقت “عملية النسر” ثم أقيمت في 2015 منطقة عازلة مع قطاع غزة، وهو بديل منخفض التكلفة عن التدخل المباشر لقطع المؤونة عن المتمردين. وأطلقت في نفس السنة عملية “حق الشهيد” بدعم جوي غير رسمي من إسرائيل ثم في سنة 2018 “عملية سيناء”. وقد استعملت أساليب مستوردة مباشرة من إسرائيل، كفرض حظر التجوال، إقامة نقاط تفتيش، مداهمات شاملة وتدمير منازل “الإرهابيين” أو المتواطئين معهم وحرق القرى المشبوهة…

أثارت هذه العقوبات الجماعية نتائج عكسية عما كان منشودا. فقد نفّر الجيش بعنفه السكان والبدو الذين انحازوا إلى الجماعات المسلحة. وفي الواقع استعمل الجيش عقيدة متجاوزة وأساليب تقليدية غير ناجعة في مواجهة التمرد. ولم يتمكن من التفوق في منطقة لا يعرفها جيدا على عكس المقاتلين الإسلاميين الذين لهم أفضلية معرفة الميدان، وكذا الدعم السلبي للسكان الذين يعتبرون الجيش الوطني جيش احتلال، وتعد تلك الوصفة المثالية لإنجاح حرب العصابات، كما سبق وأن ذكر ذلك لورانس العرب في “أركان الحكمة السبعة” التي يروي فيها الثورة العربية لعام 1917.

تحالف بين الجيش وقبيلتين

شكل الهجوم على المسجد الصوفي لبئر العبد صدمة قوية بالنسبة للقبائل واعتبره بعضها إهانة. في عام 2015، أعدمت جماعة ولاية سيناء شيخا من قبيلة “الترابين” القوية. وقد ردت هذه الأخيرة بإعلان حرب: “سننتقم ولن نهنأ حتى ننتقم لهؤلاء الذين دمرت منازلهم أو سبيت نساؤهم. سنتمكن منهم أحياء أو أمواتا”.

لاحظ البدو المصير المأساوي للقبائل في العراق وسوريا الذين كانوا ضحايا لانقسامات دبرتها داعش التي تلاعبت ووضعت القبائل الضعيفة والمهمشة في موقع مسيطر قصد مراقبة القبائل الكبيرة والقوية بشكل أفضل. لهذا السبب أعلنت قبيلتا “الترابين” و“السواركة” -وهما قبيلتان قويتان في شمال سيناء- عام 2017 انخراطهما إلى جانب الجيش المصري ودعت الشباب إلى التخلي عن الإسلاميين. وهي تقدم للجيش دعما لوجيستيا واستخباراتيا بشكل ملموس. في المقابل طالبت بأن تعامل باحترام وأن يفرج عن سجنائها وأن تكف الدولة عن التدخل في تعيين قادة القبائل.

يدفع الترابين غاليا هذا الكفاح ضد الإسلاميين. فمنذ ذلك الحين، قام تنظيم ولاية سيناء بتدمير بيت الشيخ إبراهيم العرجاني -صاحب الإعلان-، كما تقوم الجماعة بانتظام باختطاف وقتل أعضاء من القبيلة (500 قتيل من بينهم 200 بقطع الرأس منذ 2017). وفي الأثناء، لا يبدو أن المواجهات ستتوقف قريبا، وقد اشتد عود الإسلاميين خلال سنوات حرب العصابات. تبنى تنظيم ولاية سيناء في بداية شهر مايو/أيار هجوما على مركبة أسفر عن مقتل عشرة جنود ببئر العبد، وردت قوات الأمن المصرية الفعل بقتل 18 جهاديا. ويعد ذلك دليلا على أن المعالجة الأمنية للتمرد ليست كافية، إذ يتعين معالجة أسباب هذا التمرد، أي التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يعاني منه البدو، واتباع سياسة قبلية محلية حقيقية.

وبالفعل فهذا التحالف الأول بين الدولة والقبائل يبقى هشا. وهو لا يتعلق إلا ببعض القبائل التي هي منقسمة في حد ذاتها. فالشباب يتبعون الدعاة السلفيين أكثر من شيوخ القبائل. أما هؤلاء، فلهم أجنداتهم الخاصة والمتمثلة في العمل على استرجاع سلطتهم المتضائلة.

قد تشهد مصر في غياب سياسة قبلية حقيقية فقدان سيطرتها على هذه المنطقة. ويُخشى آنذاك أن تؤدي الخصومات بين السلطة المصرية والإسلاميين إلى استقطاب المنطقة وأن تتحول سيناء إلى مجال جديد للمواجهة بالوكالة بين القوى الإقليمية نظرا للموقع الاستراتيجي لشبه الجزيرة بالنسبة للتجارة والملاحة البحرية وتصدير المحروقات.