ما هي العلاقة بين انتفاضات “الربيع العربي” والوباء العالمي “كوفيد-19”؟ كلاهما يكشف عن نقاط ضعف وآثار غير مباشرة. ففي عام 2011، ساهمت سنوات من الحكم السيئ والقمع السياسي والتفاوت الاقتصادي المتنامي في نزول المواطنين العرب إلى الشوارع ضمن موجة تاريخية من الانتفاضات الوطنية. وأدت تلك الانتفاضات إلى سقوط أربعة أنظمة استبدادية، لكنها ولّدت أيضاً صراعات جديدة وفشلت في معالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية الكامنة.
وعند النظر في عواقب الوباء، يوضح انتشار الأزمة المالية في الولايات المتحدة وأوروبا وإلى شمال إفريقيا عام 2007، بعض التداعيات التي يمكن أن يحدثها الركود العالمي اليوم. وفي حين أن الدول غير المنتجة للنفط في المنطقة هي أقل تعرضاً للأسواق المالية الدولية، إلّا أنها أكثر عرضةً للصدمات الخارجية والدورات الاقتصادية الأجنبية. وهكذا أدى الانكماش في أوروبا بين عامي 2007 و2010، إلى انخفاض بنسبة 60٪ في الميزان التجاري للبضائع من دول شمال إفريقيا. وبالمثل، شهدت مصر وتونس انخفاضاً في عائداتهما السياحية بنسبة 5٪، وفي الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 31٪، وفي التحويلات المالية بنسبة 6٪. وينبغي توقع اتجاهات مماثلة في أعقاب الوباء [العالمي الحالي].
في عام 2020، كان “صندوق النقد الدولي” قد سبق وأن توقع بأن يؤدي الركود العالمي إلى خفض النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 1.2٪ في 2019 إلى -2.8٪ (ناقص 2.8٪). كما تشير التقديرات الأولية للأمم المتحدة إلى أن 1.7 مليون شخص قد يفقدون وظائفهم هذا العام في منطقة أصابت فيها البطالة 27٪ من الشباب في عام 2019. أما التحدي الديمغرافي في المنطقة فهو أكبر اليوم مما كان عليه في عام 2011.
وخلال العقد الأول من القرن الحالي، تمثلت القضية الرئيسية أمام حكومات المنطقة في استيعاب ملايين العمال الشباب الذين يدخلون سوق العمل كل عام. وبحلول عام 2011، تراوحت أعمار 189 مليون شخص من أصل 398 مليوناً بين 15 و40 عاماً. وينضمّ إليهم اليوم 18 مليون آخرين؛ ومما يضاعف من هذا التحدي هو حاجة المجتمعات العربية أيضاً إلى دعم المزيد من كبار السن، الذين سيتضاعف عددهم، من 18 مليوناً في عام 2011 إلى 40 مليوناً بحلول عام 2030. ولا يزال التضامن الأسري معياراً ثقافياً قوياً في المجتمعات العربية ولكنه سيكون أمام اختبار كبير بسبب الحجر والتداعيات الاقتصادية الطويلة الأمد للوباء على حد سواء.
ركود ونزوح ريفي
سيكون لأي ركود عالمي أثر أكبر على اللاجئين في المنطقة لأن عدد الأشخاص المتأثرين بالصراعات والمعتمدين على مساعدة الأمم المتحدة هو أكبر اليوم مما كان عليه في عام 2011. على سبيل المثال، تقدّم الولايات المتحدة وأوروبا معاً في الوقت الحالي 75٪ و45٪ على التوالي من مساعدات الأمم المتحدة البالغة قيمتها مليارات الدولارات لكل من سورياواليمن. وعلى افتراض تخفيض هذه المساهمات الغربية جزئياً بسبب الركود في الفترة المقبلة، فمن المرجح أن تكون التداعيات كبيرة جداً على اليمن وسوريا ولبنان والأردن وحتى تركيا.
وكما حصل خلال الفترة التي سبقت عام 2011، عندما دفع الجفاف في سوريا عام 2007 [إلى نزوح] موجات من العمال الريفيين إلى الجنوب وإلى ضواحي دمشق، فإن التغير البيئي سيفاقم بدوره التوترات في المنطقة. فاعتباراً من عام 2018، كان ثلثا سكان شمال أفريقيا والشرق الأوسط البالغ عددهم 448 مليون نسمة يعانون أساساً من عدم كفاية الموارد المائية. ولا تملك المنطقة الوسائل اللازمة للحفاظ على نموها الاقتصادي بما يتناسب مع ارتفاع عدد السكان، مما يعزّز القضايا المتتالية في مجال الصحة العامة، والتوسّع الحضري غير المحدود والمنافسة بين البلدان على الحصول على المياه.
خيارات سياسية محدودة
اتخذت الحكومات في جميع أنحاء المنطقة تدابير الصحة العامة المتبعة على الصعيد العالمي: وتشمل هذه الإغلاق، والإبعاد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة ومعدات الحماية. وكانت دول “مجلس التعاون الخليجي” ومصر قد أعلنت عن حِزَم لتحفيز احتواء الصدمات الاقتصادية الأولى، في حين كانت بلدان أخرى غير قادرة على تحمل تكاليف قابلة للمقارنة. وفيما يتخطى الموارد المالية، ستضعف الهشاشة السياسية استجابة الحكومات للأزمة. وقد تَغيَّر رؤساء الدول مؤخراً في سلطنة عُمان والجزائر وتونس. وواجهت مصر والأردن والمغرب اضطرابات اجتماعية وتحديات أمنية، بينما يستمر الصراع بلا هوادة في اليمن وسوريا وليبيا. وفي عام 2019، أثبت المتظاهرون في الجزائر ولبنان والعراق أن البحث عن الكرامة الذي يعود إلى عام 2011 لم ينته بعد. وأدت عمليات الإغلاق [بسبب تفشي “كوفيد-19”] إلى السماح للسلطات بتقليص التنقلات الاجتماعية، على سبيل المثال في العراق والجزائر، ولكن من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى حل التوترات السياسية والمؤسسية الكامنة، كما أظهرت المظاهرات الأخيرة في لبنان.
وحتى البلدان المنتجة للنفط [هي اليوم] أكثر ضعفاً مما كانت عليه في عام 2011. فقد عانت من انخفاض حاد في الأسعار منذ عام 2014؛ وعلى الرغم من صفقة “أوبك بلس” [OPEC-plus] التي أُبرمت في الآونة الأخيرة، إلّا أن الأسعار سجلت نسبة منخفضة غير مسبوقة تاريخياً. وتكاد الدول العربية المنتجة للنفط تفتقر إلى الهامش المالي الذي تمتعت به من أجل احتواء انتفاضات “الربيع العربي” والذي سمح لها التصرف من خلال الإنفاق الاجتماعي الضخم (ما يصل إلى 130 مليار دولار في المملكة العربية السعودية في عام 2011). وبدأت في إصدار السنداتالسيادية. وأدى حصار النفط الحالي الذي فرضه حفتر على إنتاج ليبيا من النفط إلى تخفيضه إلى أقل من100 ألف برميل في اليوم مقارنة بـ 1.8 مليون برميل في عام 2010. وكان الدَيْن العام للجزائر محدوداً بحلول نهاية عام 2019 ولكن كان لديها 15 شهراً فقط من الاحتياطيات بالعملة الأجنبية. ومن الناحية السياسية والاقتصادية، لم يتعاف العراق من الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” ويعاني من عدم الاستقرار الحكومي وآثار حرب النفط السعودية -الروسية.
ويلعب الصمود المجتمعي أساساً دوراً في التخفيف من حدة مفاعيل الأوبئة المحلية لـ “كوفيد-19”: فالأفراد ومنظمات المجتمع المدني يقدمون فعلاً الدعم إلى المجتمعاتفي كل دولة وسط انتشار هذه الجائحة. ومع ذلك، من غير المرجح أن يكون التضامن المحلي كافياً. فنظام الرعاية الصحية العامة والقدرات على إنتاج المعدات الطبية لا تزال ضعيفة في جميع أنحاء المنطقة بسبب المركزية المفرطة للدولة، وتخفيضات الخدمة العامة والتحرير الانتقائي منذ تسعينيات القرن الماضي. ويُظهر عدد أسرّة المستشفيات في كل بلد أن عدداً قليلاً جداً من البلدان يمكنها التعامل مع أي تفشٍ واسع النطاق للمرض.
وستختلف تداعيات الوباء اختلافاً كبيراً سواء داخلياً أو في أرجاء المنطقة بسبب التفاوتات في الدخل. فالعالم العربي هو أكثر مناطق العالمتفاوتاً من حيث الدخل، حيث يمتلك أغنى 10٪ من السكان 65٪ من الثروة. وهذا يعني أن مرضى “كوفيد-19” من أفضل 10٪ من نسبة السكان المذكورة هنا، من المرجح أن يجدوا مستشفيات خاصة ممتازة في الخليج أو بعض العواصم العربية الأخرى. وقد يعاني العديد من السكان البالغ عددهم 100 مليون نسمة الذين يعيشون أساساً في الفقر من التداعيات الاقتصادية للوباء أو قد يصابون بالفيروس من دون أن يعرفوا ذلك.
التعاون الإقليمي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى
إن برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وكذلك المساعدة الفنية والمعدات المقدمة من قبل وكالاتالأمم المتحدة ستوفر بعض الإغاثة الفورية لبلدان المنطقة. ومع ذلك، من الضروري بذل المزيد من الجهود المصممة خصيصاً لكل دولة، لا سيما في البلدان ذات السلطات الاستبداديةأو التي تشكّل محل نزاع، مثل ليبيا أو اليمن أو سوريا. وعمدت شبكات المحسوبية أو الجماعات المسلحة على مدى التاريخ إلى تغيير مسار المساعدات الدولية من أجل ضمان بقائها واستمرارها أو لتحقيق مكاسب عسكرية خاصة بها. ويُظهر المثال الأخير للمساعدة التي قدمتها “منظمة الصحة العالمية” في سورياكيف يمكن تحويل الدعم الدولي إلى أداة ضغط. وفي حين يتطلب القانون الدولي من الأمم المتحدة العمل مع الحكومات المركزية، يجب على مجلس الأمن الدولي أن يسمح أيضاً بدخول المنظمات غير الحكومية إذا ما استخدَمت الحكومات المساعدة كأداة ضغط.
ومع تفشي الوباء عبر الشرق الأوسط، يصبح التعاون الإقليمي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. وقد أعلنت دول مجلس التعاون الخليجي عن إنشاء شبكة أمن غذائي. لكن مستوى التعاون الإقليمي في المنطقة منخفض بشكل عام. فتقليدياً، كان تجميع الموارد والتنسيق يقتصران على مساعدات مالية ثنائية من دول «مجلس التعاون الخليجي» إلى دول عربية أخرى. ويُذكر أن بعض دول المنطقة أقامت مجتمعات طبية عالية الجودة؛ ويمكن لهذه المجتمعات دعم المؤسسات الصحية في جميع أنحاء المنطقة. ولا تزال الثغرة الرقمية كبيرة في الدول العربية، لكن الشراكات المبتكرة بين المنظمات الدولية والحكومات والمشهد التكنولوجي الناشئ في المنطقة يمكن أن توفر حلولاً رقمية آمنة دون زيادة المراقبة عبر الإنترنت.
وستحتاج البلدان العربية إلى إيجاد محركات جديدة للنمو، حيث إن التداعيات الاقتصادية ما بعد الوباء تخفض عالمياً الموارد التقليدية للمساعدة الإنمائية. ويخلق ذلك فرصة لمعالجة العداءات الثنائية الطويلة الأمد. على سبيل المثال: أدت التوترات ما بعد الاستقلال بين المغرب والجزائر حول الصحراء الغربية إلى إغلاق شبه دائم للحدود بينهما، مما جعل شمال أفريقيا إحدى المناطق الاقتصادية الأقل اندماجاً في العالم. وتشير التقديراتإلى أن الاندماج الإقليمي قد يضيف نسبة 1٪ إلى “الناتج المحلي الإجمالي” في كل من دول المغرب العربي على المدى الطويل. إن إعادة فتح الحدود الجزائرية -المغربية في مرحلة ما بعد الوباء يمكن أن يوفر مزايا اقتصادية كبيرة لكلا البلدين، وهي مكافأة قد تخفف بدورها - بدعم صحيح من الأمم المتحدة - من حدة التعامل مع مسألة الصحراء الغربية.
زخم دبلوماسي ضروري
من المرجح أن يؤدي الوباء والدمار الاقتصادي المتزايد الناتج عنه إلى تزايد الميل الواضح أساساً لدى الجهات الفاعلة الدولية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا، للتوجه نحو الداخل. وفي منطقة شهدت بأكثر من نصيبها من التدخل الخارجي في العقود الأخيرة، قد تكون هذه الديناميكية موضع ترحيب كبير لكنها لن توقف الصراعات في المناطق التي تشهد حروباً. ومن المرجح أن تغتنم الجهات الفاعلة غير الحكومية - المليشيات الليبية، «حزب الله» اللبناني، «هيئة تحرير الشام»، أو «كتائب حزب الله» العراقية - الفرص التي يتيحها تقليص التدخل والانتباه الدوليين.
وفي الوقت نفسه، بادرت الجهات الفاعلة الإقليمية إلى التخفيف من حدة التوترات القائمة. وقد أضفت السعودية زخماً جديداً على المفاوضات مع الحوثيين. كما جددت الإمارات والكويت وقطر بعض اللفتات تجاه إيران من خلال إرسال مساعدات طبية. ومع ذلك، لن يوفر التعاون وتلطيف الأجواء حلولاً جديدة إذا كانا يقتصران على خطوط مواجهة ثابتة. ويتمثل أحد التحديات الرئيسية للمنطقة في استغلال الزخم العابر الذي وفرته أزمة الوباء لمعالجة القضايا الأساسية. ومن المرجح أن تبرز التوترات مجدداً بمجرد زوال ذروة الوباء، مما يُعرّض للخطر انتعاش المنطقة بشكل أكبر. وأحد الأمثلة ذات الصلة: بحلول الوقت الذي تمر فيه الموجة الثانية من العدوى (ربيع 2021)، يمكن تقليل زمن تجاوز إيران للعتبة النووية من أجل حصولها على سلاح نووي إلى درجة يجدها خصومها غير مقبولة، الأمر الذي ينذر بالدخول في جولة أخرى من التصعيد في المنطقة.
وفي حين لن يخرج العالم العربي من الوباء في وضع أفضل مما كان عليه، فلدى الولايات المتحدة وأوروبا مصلحة في دعم التعاون المبتكر وتوفير المساعدة للتخفيف من بعض التبعات. فالفيروس وحده لن يحل الصراعات مثل الصراع السوري أو قضايا مثل الخصومات بين الولايات المتحدة وإيران. ومع ذلك، يمكن أن يوفر أعذاراً لإعادة إطلاق الحوارات بين الخصوم ودفعهم لقبول حل وسط ما كانوا ليوافقوا عليه في ظرف آخر. ولدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية مصلحة في اقتراح خيارات وتقديم مساعدات لدعم هذه الاتفاقات.