شهد ربيع وصيف عام 2020 استفحالا في الانجرافات السلطوية والقاتلة للحريات من طرف نظام رجب طيب أردوغان، ولم يكن ذلك مفاجأة. وآخر مثال على ذلك وفاة إبرو تيمتيك، المحامية البالغة من العمر 42 سنة والمحكوم عليها في 2019 بالسجن بتهمة الانتماء إلى “منظمة إرهابية”. توفيت المحامية في نهاية أغسطس/آب 2020، بعد 238 يومًا من الإضراب عن الطعام للمطالبة فقط بالحصول على محاكمة عادلة… هذا المثال الجديد لانتهاكات حقوق الإنسان في تركيا (والذي أدانته منظمة هيومن رايتس ووتش) يدخل ضمن سلسلة طويلة من الهجمات العنيفة وعمليات تصفية (تطهير) يتم تنفيذها منذ عام 2015 من قبل الرئيس. وهي موجهة ضد الحركة الكردية، وأيضًا ضد جميع المؤسسات والفاعلين (وسائل إعلام، محامين، فنانين، موظفين، اساتذة، أطباء وعسكريين، إلخ) في الديمقراطية التركية.
من الناحية الرمزية، شهد صيف عام 2020 حلول الذكرى المئوية لتوقيع معاهدة سيفر، مع نقطتين بارزتين: الوعد (الذي لم يتم الوفاء به آنذاك) بمنح الحكم الذاتي (أو حتى إقامة الدولة) لأكراد الشرق الأوسط و“التقاسم الكبير” للإمبراطورية العثمانية التي قام الحلفاء بتقطيع أوصالها. بعد مائة عام، يقوم الرئيس -ومنذ خمس سنوات- بحبك استراتيجيات لدعم سلطته باللجوء تحديدا إلى هاتين الجبهتين (الأكراد و“العظمة” المفقودة لتركيا). فما هو الدور الذي لعبه الملف الكردي حتى الآن في الازدهار السياسي لرئيس أنقرة؟ وما هي القوى الدافعة للانحراف الأوتوقراطي لنظام يعمل شيئا فشيئا على تقويض الديمقراطية التركية؟ وفي الأخير، إلى أي مدى يمكن أن يتمادى أردوغان في هذا التسلط والتعسف المتصاعد؟
تغيير المسار في سنة 2015
بعد أن كان -وبدون شك- الرجل السياسي التركي الوحيد الذي اختار (ابتداء من 2005) التوجه بحزم نحو حل القضية الكردية، أدار أردوغان ظهره عمداً لهذا الأفق في عام 2015. ففي حربه ضد “الدولة العميقة” (derin devlet باللغة التركية) والتي تواصلت حتى بعد محاولة انقلاب 2016، بدا الملف الكردي ولمدة طويلة وسيلة بيد اردوغان لمواجهة النخب والأحزاب الكمالية. وقد تم ذلك من خلال تأسيس سلطته على سياسة مد اليد إلى القادة والناخبين الأكراد (الذي يمثلون 20٪ من السكان). ولكن ومنذ ذلك الحين، تحولت استراتيجية “الانفتاح” هذه إلى نقيضها تمامًا، أي إلى قمع شديد في أراضي كردستان التركية وضد كل مقاتلي وكوادر ومنتخبي الحركة الكردية.
خسر أردوغان لأول مرة الأغلبية المطلقة في برلمان أنقرة خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران/يونيو 2015. وقد شكل ذلك صدمة لحزب تعود حتى ذلك الحين على انتصارات كبيرة في صناديق الاقتراع. يقول جان ماركو، مدير الشؤون الدولية بمعهد العلوم السياسية بغرونوبل، إن “الانحسار المنتظم لقاعدته الانتخابية منذ ذلك التاريخ دفع أردوغان إلى البحث عن رد يضمن بقاءه في صناديق الاقتراع. أدرك آنذاك أن استراتيجية” اليد الممدودة“المنتهجة مع الأكراد باتت انتحارية كونها تنفر منه الأحزاب والناخبين القوميين، وهم كثيرون. وعلى عكس ذلك، سمح له تشدده الجديد في المسألة الكردية ببناء أغلبيات جديدة -حيث لم يعد يحظى بها عن طريق حزب العدالة وحده- ومواصلة تفوقه في توازن القوى السياسية للبلاد”.
شكلت رغبة بعض الكوادر من حزب العمال الكردستاني (PKK) في استيراد نموذج “حرب العصابات الحضري” الذي نجح في كوباني (سوريا) إلى المدن الكردية التركية، والتي شجعها تقدم عملية السلام ابتداء من عام 2014، الذريعة لهذا الانقلاب في الموقف.
من الوهلة الأولى إذا، كان هدف استراتيجية الحرب المفتوحة الجديدة لأردوغان ضد الحركة الكردية أن تضمن له البقاء المريح على السطح خلال مختلف المواعيد الانتخابية التي كانت تنتظره (انتخابات أو استفتاء). وقد تزودت هذه الاستراتيجية بعد ذلك بمحرك، وهو التحالف مع أقصى اليمين والأطراف القومية المتطرفة للأحزاب الكمالية. ثم تغذت في الأخير بوقود آخر، تمثل في نشر ثقافة السلطوية السياسية حتى يضمن للرئيس التركي الجديد (المنتخب في عام 2014) ممارسة مستدامة للسلطات الكاملة.
“حرب أهلية” وسلطوية
فرض حالة الطوارئ، تكثيف الاحتلال العسكري، اعتقالات، إجراءات استثنائية وإقالة منتخبين ... بات القمع في كردستان تركيا شديد التصلب مع عودة إلى سنوات الرصاص للسنوات 1980 و1990. فتحت حجة القضاء على “الإرهاب” الكردي في تركيا ولكن أيضًا في سوريا ، ومن خلال ثلاث هجمات عسكرية (2016 و2018 و2019) وأخرى أحدث في شمال العراق (2020)، أعلن حاكم أنقرة الحرب على حزب العمال الكردستاني، وكذلك على كوادر ومنتخبي الحزب الديمقراطي للشعوب الموالي للأكراد، والذي أصبح في عام 2015 القوة السياسية الثالثة في البلاد. يعلق جان فرانسوا بيروز على هذا قائلا: “فضلا عن الحرب ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، قام أردوغان بتجريم المنتخبين الأكراد في الحزب الديمقراطي للشعوب”.
لقد دفع فعلا كوادر هذا الحزب الشرعي ثمن نتائجهم الانتخابية التاريخية التي سجلوها خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، إن كانت رئاسية (2014 و2018)، بتسجيل في كل مرة حوالي 9٪ من الأصوات لمرشح الحزب الديمقراطي للشعوب، أو تشريعية في 2015 (انتخاب 52 نائب) وفي 2018 (80 ثم 67 نائب)، وأيضا في الانتخابات البلدية لعام 2014 حيث فازوا بـ104 بلديات، وفي 2019 حيث تحصلوا على 65 منتخب.
تم منذ ذلك الحين نزع العهدة البرلمانية من بعض نواب الحزب الديمقراطي للشعوب، كما أودع آخرين السجن (سبعة في المجموع). فيما يخص المنتخَبين المحليين، تم “فصل” أكثر من ثلثي رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين -وعددهم 65- في 2019، أي 45 رئيس بلدية، واستبدالهم بمسيرين (kayyum بالتركية) معينين من طرف… المحافظات، دون إمكانية تعيين رؤساء بلديات مؤقتين. وإلى غاية اليوم، يقبع أكثر من 20 من هؤلاء المنتخبين في السجون التركية بتهمة “الإرهاب”.
جاءت محاولة الانقلاب في عام 2016 بالطبع لتسارع وتعطي تبريراً جديداً لتنامي النهج التسلطي لأردوغان: تغيير الدستور (عن طريق استفتاء عام 2017) لإضفاء الطابع الرسمي على نظام رئاسي تعزز بحكم الأمر الواقع منذ 2014، إنشاء “نظام التحالفات” الانتخابي الذي تم ترسيخه من خلال الروابط بين حزب العدالة والتنمية وحزب العمل القومي اليميني المتطرف ضمن “ائتلاف الشعب” (2018)، وضغوطات وتهديدات علنية ضد القادة الكماليين في حزب الشعب الجمهوري، وهي القوة السياسية الثانية في البلاد. وأخيراً، تثبيت لسلطة “أفقية” في معظم مجالات المجتمع التركي.
يذكر الخبير الاقتصادي والسياسي أحمد إنسل، وهو أستاذ فخري في جامعة غلطة-سراي بأنه “في غضون سنوات قليلة، قام أردوغان تدريجياً بنزع الحياة من الديمقراطية التركية، إذ جعل من البرلمان مجرد جمعية رمزية ومنح نفسه كل السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية”. وهكذا فقدت تركيا بكل بساطة نظامها البرلماني لصالح رئيس مهيمن يدعمه عدد قليل من الوزراء المخلصين.
“الوطن الأزرق” و“العظمة” المفقودة
في الآونة الأخيرة، ومع نهاية عام 2017، تم إثراء هذا المحور الأول المناهض للأكراد في استراتيجية أردوغان بمحفز سياسي ثان، وهو “عظمة” تركيا المفقودة. سواء تعلق الأمر بالأطروحة السيادية للـ“وطن الأزرق”(التي تبرر النزعات التركية في البحر الأبيض المتوسط) أو وبشكل أوسع بالإشعاع المفقود للإمبراطورية العثمانية السابقة، اختار أردوغان عقيدة إيديولوجية لاستعادة مكانة بلده في النظام العالمي الجديد. ففي كل ساحات التوتر والصراع، كاليونان وقبرص وليبيا والعراق وسوريا والسودان والصومال، قرر الرئيس التركي أن يفرض بلاده كقوة إقليمية جديدة. ناهيك عن الموقف المتمثل في استعراض العضلات أمام الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي. ويؤكد جان ماركو: “بقيامه بذلك، يعرف أردوغان أنه يؤمّن لنفسه دعما داخليا من طرف العديد من الأحزاب السياسية والناخبين الذين تتحرك فيهم بقوة النزعة القومية والرغبة في الاقتصاص من التاريخ”.
إنه تطور على طريقة بوتين في روسيا، الذي عوَّل هو أيضًا منذ عام 2010 على الحنين إلى “روسيا الكبرى” (إمبراطورية القيصر والاتحاد السوفياتي) لإرساء سلطته لفترة طويلة. فبالنسبة لأردوغان، يعد هذا التوجه القائم على الكبرياء الوطني والرغبة في الانتقام (من معاهدة سيفر) أداة فعالة لتفتيت المعارضة السياسية ووسيلة لإسكات الانتقادات الداخلية التي تتصاعد، إن كانت بخصوص الأزمة الاقتصادية، وعبء الـ 3.8 مليون لاجئ سوري المقيمين في تركيا أو التصرف المثير لكثير من الجدل مع أزمة وباء كوفيد-19.
لكن هذا الخط المفعم بالإرادة والمغامرة لا يترك له مجالًا للخطأ. فإذا كان هذا النهج العدواني يسمح للرئيس التركي بتقوية علاقات على الفور مع كبار المسؤولين في الجيش التركي (والذي كافح ضده طويلاً) وأن يحكم في جو من “الحرب الأهلية” بإجراءات استثنائية، هناك من صار يستشيط غضبا وبدأت انتقادات في الظهور، في أوروبا كما في إيران أو في روسيا.
الاستبداد والثقافة الديمقراطية
بهاتين الرافعتين (“الحرب” ضد الأكراد والحلم “العثماني الجديد”)، إلى أي مدى يريد أو يمكن لأردوغان الذهاب في تدعيم سلطويته؟ هل لديه على وجه الخصوص، القدرة على فرض ديكتاتورية حقيقية وصريحة، كما هو الحال في مصر على سبيل المثال، بمهازل انتخابية وحظر تام لأحزاب المعارضة؟
يلاحظ أحمد إنسل: “هنا يكمن مفتاح أساسي للحياة السياسية في تركيا وهنا أيضًا تكمن حدود المقارنات بين أردوغان والأنظمة القوية، مثل نظام السيسي في القاهرة أو بوتين في موسكو. المواطنون الأتراك متمسكون جدا باحترام القواعد الانتخابية (التعددية والشفافية). وأردوغان نفسه وليد تلك الحماسة الديمقراطية التي مكنته من الوصول والبقاء في السلطة. يمكنه أن يخل بالحريات في تركيا وأن يتعدى على الموازين وعلى أجهزة السلطة، لكنه مجبر أن يمر بانتظام على حكم صندوق الاقتراع. وهو يعلم ذلك ...”.
هنا، بالفعل، خاصية في التاريخ الاجتماعي والسياسي التركي تمثلت في إرساء نظام سياسي ديمقراطي قريب من النماذج الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، حتى وإن تخلّل ذلك اضطرابات وانقلابات عسكرية. نظام يتميز بالتعددية السياسية، والانتخابات الحرة والشفافة، وحرية التعبير، وإعلام مستقل، والتقسيم والفصل بين السلطات، إلخ.
يقول الأستاذ جان ماركو: “درَّست في كل من مصر وتركيا وتبيّن لي أن الثقافة السياسية لطلابي مختلفة تمامًا. في تركيا، لطالما لفت انتباهي عمق معرفة الطلبة وإتقانهم لقواعد ومبادئ الديمقراطية السياسية. لاحظوا نسبة المشاركة للناخبين الأتراك! إنها هائلة. بالإضافة إلى ذلك، يتم تسجيل كل مواطن تلقائيًا بمجرّد بلوغه سن التصويت، دون إمكانية التصويت بالوكالة أو عن طريق البريد. بينما في مصر، وبسبب الافتقار إلى التجربة والممارسة لهذه الآليات، تبقى فكرة الديمقراطية والانتخابات الحرة والتعددية السياسية أمورا مجردة”.
حكم صندوق الاقتراع
يشهد سيناريو الانتخابات البلدية الأخيرة في عام 2019 بوضوح على هذه الخاصية للثقافة السياسية التركية. خلال الانتخابات البلدية الأخيرة في يونيو/حزيران 2020، فاز مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض لحزب العدالة والتنمية في إسطنبول (معقل أردوغان التقليدي) بفارق صغير. وقد ضغط الرئيس التركي على المجلس الأعلى للانتخابات لإلغاء التصويت. وكانت الفاتورة غالية خلال التصويت الجديد حيث خسر حزب العدالة والتنمية مرة أخرى وبفارق 10 نقاط تقريبًا… يؤكد أحمد إنسل: “شاهد أردوغان ناخبين يثورون ضد التلاعب بالاقتراع الأول، حتى بين من هم في صفه، وقرروا معاقبته على ذلك”. وبالتالي خسر حزب العدالة والتنمية مدنا كبرى مثل أنقرة وإسطنبول، وهو سيناريو لا يمكن تصوره في روسيا، حيث يضيف المختص في العلوم السياسية بنوع من التهكم: “ثقافة التعددية منعدمة في هذا البلد (روسيا) ويصعب رؤية مرشحي بوتين يفقدون موسكو أو نوفوسيبيرسك...”.
على نطاق أوسع، لا تزال العديد من القوى التي تعتبر نفسها سلطة مضادة تحرك المجتمع المدني. يشرح فهيم تستكين، وهو صحفي وكاتب تركي: “لننظر إلى احتجاجات منتزه غيزي عام 2013، لا أحد توقعها! نفس الشيء بالنسبة للحركات النسائية أو نضال حزب الشعوب الديمقراطي الكردي: إنها ضمانات شجاعة وتعبئة. وطالما لم”يهضم“أردوغان هذا النصف من السكان، وحتى إن كان مستعدًا لبذل كل ما في وسعه للبقاء في السلطة، فلن تكون لديه إمكانية الذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير”. ويضيف جان فرانسوا بيروز أن “مقاومة المجتمع هذه لها وجوه عديدة. هناك خمس حركات لا تزال نشطة اليوم: المدافعين على البيئة والنساء والطلاب والعمال والأكراد. ومن خلال تلاقيها، ولو بشكل جزئي، تشكل نشاطاتهم مانعا ضد انحراف تام ومطلق لأردوغان”.
تشهد الحلقة الأخيرة من “اتفاقية إسطنبول” (رغبة أنقرة في الانسحاب من معاهدة مناهضة العنف ضد المرأة) على ديناميكية المقاومة هذه، خاصة وأن مسألة انتهاكات حقوق المرأة دائمًا ما شكلت صداعًا حقيقيًا لأردوغان. وهي تشكل واحدة من المجالات النادرة (العارضة إذ لا يمكن اختزالها في الانقسامات السياسية) التي أُجبر فيها زعيم حزب العدالة والتنمية عدة مرات على مراجعة نسخته، إن كان ذلك حول تجريم الزنا (2004)، أو الحق في الإجهاض (2012)، أو زواج القاصرات المعتدى عليهن (2016).
يكفي القول إنه في هذا الموضوع، كما سيكون الحال في مواضيع أخرى مستقبلا - بالإضافة إلى يقظة المواطنين القوية بشأن احترام القواعد الانتخابية -، قد يفاجئ المجتمع بقدرته على معارضة إرادة رئيسه في التسلط.