عن حرية تعبير “الأصوات الإسلامية” في فرنسا

تتطلب الصدمة التي أحدثها اغتيال المدرّس صامويل باتي في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020 تفكيرًا جماعيًا عميقًا وهادئًا بأكبر قدر ممكن. يعد هذا الرهان أساسيا بالنسبة للمجتمع الفرنسي الذي يجد نفسه منذ عدة عقود - من هجوم متبنى من قبل تنظيم مشكل إلى هجوم ينفذه “ذئب منفرد”، ومن مناقشة حول الحجاب إلى نقاش حول “شارلي”، ومن قانون مكافحة الإرهاب إلى قانون ضد “الانفصالية”- متقوقعا في فخ استقطاب مقلق للغاية حول أسئلة مرتبطة بالإسلام.

مظاهرة ضد معاداة الإسلام في مدينة بلفورت في فرنسا، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
Thomas Besson/Wikimedia Commons

لا جدال حول حقيقة انتشار قراءات “متطرفة” داخل المكونات التي تعلن نفسها مسلمة في فرنسا والتي تمنح قيمة مفرطة للعنف. صحيح أن ما يسمى بالأيديولوجية “الجهادية” يظل هامشيا، لكن هذا الفكر يتمتع بقدرة واضحة على التكيف وربط القضايا الخاصة بالعالم الإسلامي بالقضايا الفرنسية. وتوفر له الإنترنت منبراً لتردد صداه خاصة بالقرب ممن هم أصغر سناً، مولدا بذلك الاستياء، ولكن أيضًا الإحباط. ويشكل السجن والانحراف، ربما بنفس وطأة بعض المساجد والجمعيات الدينية، مساحات أخرى للتنشئة الاجتماعية لهذه الرؤية المميتة للعالم.

من الواضح أنه في مواجهة مشكلة معقدة، لا يمكن للتحليل أن يكون أحادي السببية وأن ينظر فقط إلى متغير واحد. إن الهوس بالجانب الديني البحت للظاهرة، الذي يشرعن له بعض الباحثين والذي هو في صميم السياسات الأخيرة للحكومة الفرنسية، يعمل كستار من دخان. إن شن هجوم من خلال السياسات العامة ضد “دعاة الكراهية” أو المطالبة بإصلاح إسلام “مريض” دون أي شكل من التفكير أو الفعل يتجاهل البعد العلائقي للعنف والتوترات التي تمزق فرنسا.

عندما يخضع “الإسلاميو-يساريون” للمحاسبة

يؤدي هذا المنظور إلى إهمال أهمية وضع الأمور في سياقها، متناسيا شرح السبب الذي جعل من تفسير معين للإسلام، من خلال انحرافه السياسي الأكثر انغلاقًا، من اكتساب القدرة على تجسيد رفض المجتمع المهيمن. باختصار تتجاهل هذه القراءة كيف ولماذا وجد التفسير الراديكالي للمرجع الإسلامي وجاهة خاصة لدى بعضهم في السنوات الأخيرة، ولماذا يكون هذا الأمر أكبر في فرنسا منه في أي مكان آخر من أوروبا؟ وهي تؤدي على الخصوص إلى تجاهل الطبيعة الدائرية للديناميكيات التي تسمح لسياق وإيديولوجيا ما بتغذية بعضها بعضا، لتوجه بطريقة تبسيطية إصبع الاتهام لـ“البادئ” وأيضا - وذلك هو نذير الشؤم الجديد الذي ظهر خلال الأشهر الأخيرة- “للمتعاونين مع العدو” والذين ألصقت بهم تسمية “الإسلاميوـ يساريون”1 والذين تتعين محاسبتهم.

هكذا كُتب وقيل الكثير، وأحيانا بشكل جد متسرع. كباحث ومواطن، أشعر شخصيا وعلى حد سواء بالملل والحزن، حيث صرت أقيس كيف صار مجالي المهني يطوّر بشكل متزايد نوعا من انعدام القدرة على التواصل، مولدا كراهيات عديدة ومؤديا أكثر فأكثر إلى القدح بين أعضائه. يبدو لي أن المنظور الذي يعطي كل مكانته للطابع المعقد للظواهر السياسية والاجتماعية قد خسر بشكل ما اللعبة. فهو مهمش في وسائل الإعلام، وصار بصفة جلية غير مسموع أكثر فأكثر من طرف المؤسسات العامة التي تبحث عن حلول سريعة وعنيفة متجاهلة القانون في الغالب. فالمقاربة المتزنة للعلوم الاجتماعية صارت محصورة في مجالات تعبير تتميز بالانغلاق السياسي والعلمي أو، يجب الاعتراف بذلك، بالانغلاق الطائفي (ويؤدي الأخير أحيانا إلى تحريف الخطاب وتبسيطه قصد الطمأنة).

“حرية التعبير” ولكن ليس للجميع

لا تتعلق آلية تهميش الخطاب المعقد بالباحثين فقط. فشعوري بالإحباط “كخاسر” لا يهم كثيرا في الحقيقة، ولكنه يشير إلى قضية أكثر جوهرية تتعلق بمجال تمثيل وتعبير المسلمين الفرنسيين. في ظرف يتميز بتوترات شديدة حول المسألة الإسلامية يعد هذا انسدادا متكررا ترفض السلطات العمومية وجزء كبير من وسائل الإعلام إدراك طابعه المركزي. يشكل ضعف المساحات المتاحة للأصوات التي تعلن أنها مسلمة والمعترف بشرعيتها من طرف إخوانهم في الدين نقطة عمياء من مصلحة المدافعين عن “حرية التعبير” معالجتها. بنفس قدر المراقبة البوليسية ومتابعة خطابات الكراهية على الأنترنت وفي المساجد، فهي رافعة ضرورية لاحتواء العنف ومكافحته.

لم تكن حرية التعبير مطلقة أبدا، ومازالت هناك بعض الطابوهات المشروعة وهي تتطور مع الوقت. فلنفكر في جريمة الاستغلال الجنسي للأطفال في السبعينيات أو الرسوم الكاريكاتورية عن اليهود والمال في الثلاثينيات من القرن الماضي. ومن بين المدافعين عن علمانية كلية، مَن منهم سبق له أن تحدث مع امرأة محجبة؟ لننطلق أولا من مبدأ أن الجهل بالآخر وبتاريخه يشكل أحد جذور الاستقطاب الخطير في المجتمع الفرنسي. ولنسلم بعد ذلك أنه من المهم أن يكون لكل فرد تصور سليم عن مواطنيه وأيضا، ونحن في ديمقراطية، أن يشعر بأنه ممثل بصفة جيدة وبكرامة في مستويات مختلفة.

فشخصية حسن شلغومي، ذلك الإمام من أصل تونسي بمسجد سان سان دوني (ضاحية باريس) والمجند كثيرا في وسائل الإعلام الكبرى، ترمز إلى خلل واضح في آلية التمثيل هذه. فنزوعه إلى دعم مواقف سياسية مخالفة “لرعيته” المفترضة، ولاسيما بخصوص فلسطين، وأكثر من ذلك عدم قدرته على التعبير بشكل لائق باللغة الفرنسية أو حتى أن تكون له خلفية من الثقافة العامة المشتركة2 لا تثني عن اللجوء إليه كلما ظهر موضوع متعلق بالإسلام. بل الأسوأ أن الأمر يبدو أحيانا عكس ذلك تماما، كما حدث عندما اتُهمت أسبوعية “قيم حالية” (Valeurs Actuelles) برسم كاريكاتوري للنائبة دانيال أوبونو ذات البشرة السوداء كأمة، فلجأت أسرة التحرير إليه للدفاع عن حرية التعبير ووضعته، وهو تفصيل من دون شك تهكمي ولكنه معبر عن التحقير المعلن، أمام لوحة مطلية مكتوب عليها "ترخيص أربعة (Licence IV) والتي كانت تستعمل في الماضي لتحديد أماكن بيع المشروبات الكحولية.

بالنسبة للملايين من الفرنسيين ذوي الأصول المسلمة والذين يتكلمون اللغة الفرنسية بطلاقة ويشاركون نفس المراجع الثقافية الشعبية لغالبية الفرنسيين، يجب أن نعترف أنه من المهين تماما أن يكون لديهم الانطباع أن وسائل الإعلام لا تملك “نموذجا” آخر لتجنيده أو تثمينه لتقديمه كصوت يوصف بأنه مسلم. كيف إذا لا نتفهم انعدام الثقة لديهم في الإعلام أو في المجتمع ككل؟

عهد الشك

صحيح أنه يعود للمسلمين في المقام الأول تنظيم أنفسهم وتقديم شخصيات تمثيلية للبروز، متجاوزين هكذا تشتت ديانتهم وكذا الهيمنة التي تمارسها الدول الأصل، كالمغرب والجزائر وتركيا في المقدمة. فالصراعات الداخلية هي في حد ذاتها عنيفة للغاية، وهي تستند في الغالب إلى “نرجسية الاختلافات الصغيرة”3، التي يتحدث عنها سيغموند فرويد. ولكن، علينا أن نعترف بأن التجربة تظهر أن القيود ليست داخلية “للمجموعة” فقط. فمنذ عشرين سنة أشار عالم الاجتماع ميشيل فيوفيوركا إلى عدم قدرة المجتمع الفرنسي على استقبال أصوات تعرب على أنها مسلمة:

بدل من أن ينظر إليهم على أنهم فاعلون يبدعون ويجددون الحياة الجماعية ـ بتوتراتها ونزاعاتها ومفاوضاتها ـ يتم عادة تجاهل الجمعيات التي يرجح أنها تتحول إلى “عرقية أو دينية”، ويشتبه فيها على أنها تغطي على فظائع كبرى وتواجه بعدائية من طرف السلطات العمومية [...] بالتمادي في رفض جمعية بحجة أنها أصولية أو منغلقة على ذاتها، ومن خلال رفض أي سماع أو دعم لها، ينتهي الأمر بتشكيلها على ذلك النحو"4.

من المغنية منال (مرشحة من أصل سوري في برنامج “ذا فويس” على القناة الفرنسية الأولى والتي كانت ترتدي الحجاب آنذاك) إلى طارق رمضان (رغم كونه من جنسية سويسرية) مرورا بالفكاهي ياسين بلعطار ولجنة مناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، كانت هناك فرص عديدة لإقصاء الأصوات المحلية التي تعلن عن جزء من إسلاميتها في خطابها والتي هي قادرة على أن تكون مرجعا ثقافيا وسياسيا. إقصاءات تكون أحيانا مشروعة تماما عندما توجه اتهامات بالاغتصاب، غير أن آليات المراقبة تفرض “إظهار علامات الولاء” بقدر يتجاوز ما يمكن توقعه بصفة مشروعة. وبالتالي فإن بعض المواقف، على الرغم من كونها معقولة تماما فهي غير مسموعة.

المطالبة بضرورة محاربة “الإسلاموفوبيا” -أو معاداة الإسلام-، والتي ينبغي ألا يناقش وجودها مثلا عندما يبصق مارة على سيدة محجبة صار بشكل عبثي جزءا من قائمة المحرمات هذه، والتي تم وضعها بدون شك بصفة لا شعورية من خلال سنوات من الأوامر والوصمات الموروثة عن الفترة الاستعمارية.

تؤدي هذه الآلية في الأخير إلى إضفاء الشرعية على منطق الإقصاء الخاص بمسار التطرف، وهي تنتهي إلى نتائج عكسية أي خطيرة. فإعلان نية حل جمعية “لجنة مناهضة الإسلاموفوبيا”، والتي يتمثل عملها الرئيسي في القيام بوساطات قانونية واللجوء إلى المؤسسات العمومية، من شأنه أن يشكل عمليا وفي أعين البعض، إثباتا لعدم جدوى الجمعيات وبالتالي استحالة الاعتماد على المؤسسات القانونية. ويؤدي هذا مرة أخرى إلى إبعاد فضاءات التعبير والتمثيل إلى الأعماق غير المرئية للأنترنت، وبالتالي حفر الفجوات التي تولد عدم الفهم والعنف.

أصبح من الضروري أن نتعلم الاستماع إلى بعضنا بعضا. ويبقى من الضروري أيضا الاعتراف بأنه مثلما تكون الشركة بحاجة إلى نقابات يقظة وتمثيلية فإن المجتمع ككل، متنوعا كما هو، سينتفع حتما من توفير أطر للتعبير الهادئ والمتفتح نحو أقلياته، ما يسمح لهذه الأخيرة بأن ترفع مطالبها حتى وإن كان ذلك يعني عدم إرضائي أو عدم إرضاء الأغلبية أو رب العمل.

1عبارة من اختراع اليمين المتطرف الفرنسي تمزج بين مصطلح “إسلامي” و“يساري” ويوصم بها أشخاص ينتقدون معاداة الإسلام في فرنسا، بحجة أنهم يمثلون تقاطعا بين الإيديولوجيا اليسارية والفكر الإسلاموي.

2بعد الهجوم على “شارلي إبدو” في عام 2015، بدا شلغومي غير مدرك بأن الأمر يتعلق بصحيفة، معربًا أمام ميكروفونات أكبر القنوات عن تعازيه لـ “شارل وجميع أفراد أسرته”.

3ذكر سيغموند فرويد “نرجسية الاختلافات الصغيرة” لأول مرة في عام 1918 في كتاب “طابو العذرية”: “يقال عنه إنه من خلاله يتفاقم التناقض، وعلى الخصوص الأحقاد التي لا تفسر بين الأشخاص أو الجماعات أو المجموعات القريبة والمتشابهة إلى حد كبير، ولكنها تشعر بالحاجة النرجسية إلى المبالغة في استثمار على اختلافها”.

4Michel Wieviorka (dir.), Raison et conviction : L’engagement, Textuel, 1998, p. 20-21.