“الانفصالية”. إخضاع إسلام ومسلمي فرنسا

استبقت خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول “النزعة الانفصالية” في 2 أكتوبر/تشرين الأول حملة سياسية وإعلامية تواصلت بعد اغتيال المدرس صامويل باتي، تهدف في الواقع إلى تجريم الإسلام والمسلمين، كما يوضح ذلك تقرير صادر عن مجلس الشيوخ في يوليو/تموز 2020، يقوم هنا المحامي رفائيل كمبف بتحليل محتواه.

هل يمكن أن يبني المرء خطاباَ سلطوياَ حول “قيم الجمهورية” ويطالب باحترامها المطلق من قبل الجميع، ثم يحتقر هو نفسه تلك القيم؟ إنه المأزق الذي واجهته جاكلين أوستاش-برينيو، عضوة مجلس الشيوخ (من حزب “الجمهوريون” اليميني)، والعمدة السابقة لبلدية “سان جراتيان” في الضاحية الباريسية. ففي عام 2011، رفضت هذه النائبة وضع إحدى قاعات البلدية رهن إشارة الجمعية الفرنسية-الإسلامية في مدينة “سان جراتيان” لبضع ساعات خلال أيام مختلفة من شهر رمضان. وبعد رفع دعوى ضدها أمام القضاء الإداري، سجّل مجلس الدولة في مرسوم 26 أغسطس/آب 2011 (رقم 35210) أنها ارتكبت “خرقاً خطيرا وغير قانوني بشكل واضح لحرية التجمع والعبادة”.

عضوة مجلس الشيوخ ضد قانون 1905

يَعتبِر الاجتهاد القضائي الإداري أن حريتَي التجمع والعبادة هما من ضمن الحريات الأساسية. فحرية العبادة مستمدة من المادة الأولى من قانون 1905 المتعلق بالفصل بين الكنائس والدولة. أي أنه، بعبارة أخرى، عندما ينتهِك عضو مجلس حرية العبادة، فإنه يخرق قانون 1905 ومن خلالها “قيم الجمهورية” الشهيرة. إنه لأمر غريب عندما يصدر الأمر عن مسؤول منتخب يدافع بضراوة عن “العلمانية”.

شغلت جاكلين أوستاش-بريني مهمة مقررة في لجنة التحقيق التابعة لمجلس الشيوخ حول "الإجابات المقدمة من قبل السّلطات إزاء تطور التطرف الإسلامي وسبل مكافحته". تشكّلت هذه اللجنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عقب الهجوم بالسكين داخل مقر الشرطة في باريس، يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول 2019، الذي قام به أحد موظفيها.

تعقّبت اللجنة لعدة أشهر أدنى تمظهرات الدين الإسلامي في جميع مجالات المجتمع: المدرسة والتعليم والرياضة ودُور العبادة. وإن حرص التقرير النهائي الذي تم تسليمه في 7 يوليو/تموز 2020 على التأكيد على عدم استهداف الإسلام والمسلمين، فضلاً على ممارستهم لعبادتهم، فإن خطابه المبطن يوحي بأن كل تجلّ مرئي للإسلام يثير استياء أعضاء مجلس الشيوخ. وهكذا نقرأ في تقريرهم أن “هذا التجديد الديني [للإسلام] ترافقه عند البعض رغبة في تأكيد إيمانهم داخل الفضاء العام، في الشركة والمدرسة، وفي نيل الاعتراف من قبل المؤسسات والخدمات العامة، وهو ما يتعارض مع قوانين الجمهورية والعلمانية”.

إن هذا أمر غريب ومفاجئ، ففي الواقع لا يحظر القانون تأكيد المرء لإيمانه في الفضاء العام، طالما أن ذلك لا يخل بالنظام العام. كما أن افتراض التناقض مع قوانين الجمهورية أمر صادم، إذ لم تتم الإشارة لأي قاعدة قانونية محددة تكون تمظهرات للإسلام هذه قد انتهتكها.

إن التقرير - كما هو حال عدد من المواقف التي تم التعبير عنها في الساحة السياسية - مليء بالإشارات الفارغة إلى “قوانين أو قواعد أو قيم الجمهورية”، مع ذلك الافتراض المتكرر بانتهاكها من قبل المسلمين الذين يرفضون المساواة بين الجنسين، ويطالبون بوجبات “حلال” في مطاعم المدارس أو يترشحون للوائح الانتخابية (يدين التقرير “التسلّل داخل القوائم الانتخابية”، في حين أن الترشح للانتخابات هو فعل ديمقراطي بقدر ما هو دليل على الاندماج). تخلو هذه الإشارات من أي مضمون، إذ لا تُحدّد أبداً القانون الذي تم انتهاكه بمثل هذا السلوك أو ذاك.

رغم أن لجنة التحقيق التابعة لمجلس الشيوخ كانت تشير في البداية فقط إلى “التطرف الإسلامي”، إلّا أنها سرعان ما تبنت في النهاية مصطلح “الانفصالية”، ربما تحت تأثير رئيس الجمهورية. في الواقع، أعرب إيمانويل ماكرون في خطابه في مدينة ميلوز يوم 18 فبراير/شباط 2020، عن شعوره “أيضًا بأن هناك أجزاء من الجمهورية تريد الانفصال عن البقية”، مستنكرًا “الرغبة في عدم احترام القانون […] باسم دين ما”. لقد واصلت لجنة مجلس الشيوخ جلسات استماعها بناءً على هذه “الانفصالية الإسلامية”، لتؤكد أن “تطور ’الانفصالية الإسلامية’ على أراضي الجمهورية قد تسارع خلال العشرين سنة الماضية”.

تمجيد الديكتاتوريات العربية

يعتقد أعضاء مجلس الشيوخ أنهم بذلك يقومون بإعادة إحياء “الثورة السلفية للتسعينيات” وفي نفس الوقت “أسلمة المجتمع الفرنسي”. بل إنهم يبدون متأسفين لعدم قمع “الإسلاميين” في فرنسا كما حصل في الدول العربية: “بينما كانت الدول العربية تقمع الإسلاميين، سواء تعلق الأمر بالرئيس بن علي في تونس أو الجيش في الجزائر، اختارت فرنسا والمملكة المتحدة على سبيل المثال، على العكس من ذلك، الترحيب بالإسلاميين على أراضيها”.

إنه لمن المدهش أن يغار متملقو “قيم الجمهورية” من القمع الممارس ضد الإسلاميين في الجزائر أو تونس، فانتهاكات حقوق الإنسان – وهي تمثل قيم الجمهورية إن وجدت - التي ارتكبت خلال هذا القمع تم توثيقها على نطاق واسع.

بعدها، يحاول التقرير وضع تصنيف لـ “الإسلام المكافح”، المزدهر في ظل “بيئة إسلامية” سهّل بروزها ثراء الإسلام في فرنسا: “بقدرته على جمع التمويلات اللازمة لتشييد [المساجد]، يُعتبر الإسلام - عكس الاعتقاد السائد - دينا”غنياً“، بـ”أنشطة تجارية“مربحة كالحجّ ونقل الأموات أو اللحم الحلال”.

في نهاية المطاف، توحي قراءة التقرير إلى وجود استمرارية مؤكدة ولكن ضمنية، بين مظاهر الإسلام العادية - الحلال، بناء المساجد، إلخ - والحركات الراديكالية التي تمتد من التبليغ إلى الجهاديين مروراً بالسّلفيين والإخوان المسلمين وتيار “مللي غوروش” التركي.

يُفضي تحليل إسلام فرنسا الذي اقترحه أعضاء مجلس الشيوخ إلى تكتل أفكار نمطية عن المسلمين تتناثر فيها اعتبارات من العلوم السياسية حول ما يسمى بالحركات المناضلة، ما يترك انطباعاً غريباً بوجود وحدة بين كل هذه التصنيفات. وبالتالي فإن الاستنتاج بديهي: بالنسبة لأعضاء مجلس الشيوخ يجب التصدي، في كل ركن من أركان المجتمع، لأي تمظهر للإسلام من شأنه أن يؤدي إلى ما يعتبر شكلاً من أشكال التطرف.

ضد الإرهاب... والتحايل في وسائل المواصلات

لقد صاغ أعضاء مجلس الشيوخ 44 اقتراحًا يمكنها أن تتواجد في مشروع القانون ضد “الانفصالية الإسلامية” الذي وعدتنا به الحكومة في الأشهر المقبلة. ليس من المفيد هنا وضع تصنيف كامل لها، لكن يجب التأكيد على أن العديد من هذه المقترحات لها تأثير في تعزيز صلاحيات أجهزة الاستخبارات وتوسيع منطق الشك، من خلال الثقة العمياء في الشرطة والمخابرات.

إن هذه الحركية ليست جديدة، إذ شاهدناها منذ عدة سنوات. ففي عام 2015، اقترح النائب الاشتراكي جيل سافاري مشروع قانون لمحاربة الإرهاب والغش في وسائل النقل العام! تحول هذا الاقتراح إلى قانون 22 مارس/آذار 2016 بشأن منع ومكافحة الهمجية، وضد الاعتداءات على الأمن العام والأعمال الإرهابية في وسائل النقل العام للركاب.

لقد تم ابتكار آلية جديدة للتحقيق في الأشخاص الذين يرغبون في ممارسة وظائف معينة داخل شركات النقل، كمهنة سائق مترو الأنفاق أو القطار. يخضع الفرد الذي يتقدم لمثل هذه الوظائف لتحقيق إداري تشرف عليه الخدمة الوطنية للتحقيقات الإدارية حول الأمن التابعة لوزارة الداخلية، والتي من المرتقب، مع الأسف، أن تتوسع صلاحياتها.

تُجري هذه المؤسسة تحقيقًا بشأن من يتقدم بالطلب ـ في ظروف يُجهَل عنها كل شيء ـ وتعطي ببساطة استنتاجاً، إيجابياً أو سلبياً، حول توظيفه كسائق مترو بينما يجهل المعني الأسباب التي جعلت الشرطة تعتبره خطيراً، وبالتالي غير مؤهلٍ لممارسة هذه المهنة. بناء على ذلك، ترفض الهيئة المستقلة للنقل في باريس أو الشركة الوطنية للسكك الحديدية توظيف مرشح رفضته الشرطة. إن ما يثير الكثير من الاستغراب في مثل هذه الآلية هو أنه يمنح سلطة واجبة النفاذ لاشتباهٍ أمني غير مستدل عليه ولم تتم مناقشته على الرغم من أن المحاكم الإدارية، تعترض على ما يبدو، مؤقتاً، على هذه الآلية.

شرطة دينية

يقترح تقرير مجلس الشيوخ لعام 2020 توسيع نطاق هذه التحقيقات الإدارية “الأمنية” لتشمل ما يُطلق عليه “الوظائف الحساسة” والتي لها صلة بالقاصرين، كمهن الأساتذة والميسّرين/المنشطين والمربين (مقترح رقم 17) وكذا لتوسيع صلاحيات الخدمة الوطنية للتحقيقات الإدارية حول الأمن لتشمل الأشخاص الذين ينظمون استقبالات جماعية لفائدة القاصرين (مقترح رقم 30).

إذا تم تكريس هذه المقترحات في القانون، فإن ضباط شرطة الخدمة الوطنية للتحقيقات الإدارية حول الأمن سيتولّون مهمة غربلة ملفاتهم والتحقيق حول جميع الأساتذة في هذا البلد، وكذا الميسّرين وكل من لهم صلة بالقاصرين، وأعدادهم قد تبلغ الملايين… ولكن الأهم من كل ذلك، هو أن قرارات رفض توظيف هذا الفرد أو ذاك - بسبب الخطورة أو السلوك غير اللائق أو التطرف - لن تكون مبنية على أي دافع واضح. يكفي لـ “الخدمة الوطنية للتحقيقات الإدارية حول الأمن” أن تعترض على فرد دون سبب معروف، كي يُمنع الأخير من العمل في مدرسة ثانوية أو معسكر صيفي.

لذلك يحلم أعضاء مجلس الشيوخ بمنح سلطة تعسفية – أو توقيع على بياض - لفائدة ضباط أجهزة المخابرات، ليقرّروا من أسرف في إسلامه، أو بات شبه متطرف، ومن يرتاد مسجدًا معينًا أو لا يرتدي ملابساً غير “جمهورية” بما فيه الكفاية، ثم يُستبعَد هؤلاء الأشخاص المستهدفين من قبل شرطة الأخلاق - هذه الشرطة الدينية - من مهنهم، وبالتالي في كثير من الأحيان، من المجتمع.

باسم القيم الجمهورية ومحاربة الانفصالية، يُنجز أعضاء مجلس الشيوخ عملاً غير مسبوق من خلال اقتراح تدابير تتعارض بشكل مباشر مع أسس الجمهورية، وستكون نتيجتها المساهمة في تقسيم المجتمع.