“الملك خوان كارلوس هو الشخص الوحيد غير السعودي الذي له رقم الهاتف الخلوي لوالدي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود”. هذا ما أسر به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لمجموعة من الصحفيين الإسبان كان قد استقبلهم في أبريل/نيسان 2018 عند مروره بمدريد. وأضاف بأن الرجلين “يتصلان ببعضهما بعضا من حين لآخر”.
تدل ملاحظة ولي العهد على الروابط التي نسجها الملك السابق لإسبانيا خوان كارلوس الأول مع الأنظمة الملكية في الخليج وليس المملكة العربية السعودية فقط. ويُستدَلُّ عن ذلك كون الملك الفخري لإسبانيا المتابع قضائيا في فضائح فساد قرر الاغتراب في 3 أغسطس/آب 2020 في الإمارات العربية المتحدة، مع أنه كانت له اختيارات عديدة أخرى من البرتغال إلى جمهورية الدومينيكان.
هو هناك ضيف ولي العهد ورجل الاتحاد القوي محمد بن زايد، الذي جمعته به صورة نشرت في منتصف فبراير/شباط 2020، وكان ذلك بلا شك بهدف نفي الشائعات التي كانت تحوم في إسبانيا حول سوء صحة الملك الفخري الذي يناهز عمره 83 سنة. وقد صرح آنذاك خوان كارلوس لمجلة “أولا”: “أنا بخير وأمارس رياضة الجمباز ساعتين كل يوم”.
بعد أن تم إيواؤه أولا في جناح ضخم في “قصر الإمارات” في أبو ظبي، أحد أفخم الفنادق في العالم، صار العاهل السابق يعيش الآن في فيلا فخمة بمنتجع جزيرة زايا نوراي، على بعد أقل من ساعة بالسيارة من العاصمة. وهكذا انضم الملك السابق إلى قائمة المغتربين الآخرين الذين مكثوا لبعض الوقت في أبو ظبي أو دبي، مثل الباكستانيين بينظير بوتو وبرويز مشرف، ومؤخراً أنيسة مخلوف، والدة الرئيس السوري بشار الأسد، وابنتها بشرى.
لقاء مع محمد بن سلمان
كان محمد بن زايد قد أظهر عناية سخية اتجاه ملك إسبانيا في الماضي حيث أهداه في عام 2011 سيارتين من طراز فيراري، تبلغ تكلفة كل واحدة منهما أكثر من 350 ألف يورو. وقد انتهى الأمر بخوان كارلوس أن سلمهما إلى إدارة التراث الوطني، التي باعتها في مزاد علني في عام 2017 بمبلغ 842 443 يورو. كما كان الملك ينزل ضيفا على ولي العهد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام بمناسبة سباق الجائزة الكبرى للفورمولا 1 بأبوظبي، حيث ذهب أحيانًا رفقة بناته.
وكان العاهل الإسباني السابق قد صافح الأمير محمد بن سلمان وتبادل معه بعض الحديث على أطراف حلبة مرسى ياس، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أي بعد شهر واحد فقط من اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول والذي يُعتبر ولي العهد مسؤولا عنه. وهكذا بات أول شخصية غربية تساعد بن سلمان في تبييض صورته، وقد سارعت وكالة الأنباء السعودية آنذاك في نشر صورة هذا اللقاء ليتم تداولها عبر العالم.
يشير كل من التحقيق الذي يجريه في سويسرا المدعي العام بجنيف إيف بيرتوسا، والتحقيق الذي فتحته لاحقًا نيابة المحكمة العليا الإسبانية، وعلى الخصوص ما كشفت عنه الصحافة الإسبانية والأجنبية ولا سيما جريدة “تلغراف” اللندنية، إلى أن خوان كارلوس الأول جمع ثروة كبيرة قبل فترة وجيزة من اعتلائه العرش في عام 1975. وهي أموال جمعها إلى حد كبير بفضل سخاء العائلات المالكة في الخليج وبتسامح من رؤساء الحكومة الإسبان الذين -على الرغم من علمهم بهذه القضايا- آثروا غض الطرف. وكانوا يقولون بإن إسبانيا لها دين نحوه بسبب مساهمته في إرساء الديمقراطية.
قدرت صحيفة نيويورك تايمز في عام 2014 ثروة الملك بنحو 1.8 مليار يورو. صحيح أنها أقل من ثروات العائلات الملكية الأوروبية الأخرى، لكنها تعتبر مذهلة بما أنه كان أبعد ما يكون عن الثراء عندما عينه الجنرال فرانسيسكو فرانكو (1892-1975) سنة 1969 خلفًا له كملك. فقبيل تعيينه، كان خوان كارلوس يعيش بشكل متواضع مع والده، خوان دي بوربون إي باتنبرغ، بفيلا جيرالدا في كاسكايس (البرتغال). وكان يغادر هذا المنزل لفترات طويلة للدراسة في إسبانيا، لا سيما في الأكاديمية العسكرية في سرقسطة. وإدراكًا منه أن النظام الملكي مؤسسة هشة في إسبانيا، ربما سعى إلى إثراء نفسه حتى لا يضطر، إذا لزم الأمر، أن يعيش في المنفى بتواضع والده أو جده الملك ألفونسو الثالث عشر.
أتيحت الفرصة خلال الأزمة النفطية لعام 1973 لخوان كارلوس، الذي لم يكن آنذاك سوى ولي عهد عينه ديكتاتور، لتلقي عمولاته الأولى. إذ طلب الجنرال فرانكو في ذلك الوقت من الأمير الاتصال بالسعودية لتأمين تموين الطاقة لإسبانيا، في حين طرق الديكتاتور من جانبه، -وبنجاح- باب الرئيس العراقي صدام حسين الذي كانت تربطه به علاقات ممتازة.
“أخو” الملك السعودي
“أوفد خوان كارلوس مبعوثًا إلى ولي العهد السعودي فهد بن عبد العزيز آل سعود [1921-2005] فأجابه الأخير على الفور:”قل لأخي الأمير خوان كارلوس، أننا سنرسل له كل النفط الذي تحتاجه إسبانيا“. هذا ما ذكرته الصحفية ريبيكا كوينتانس في كتابها” خوان كارلوس الأول: “خوان كارلوس الأول: السيرة الذاتية دون إغفال ( Juan Carlos I. La biografía sin silencios, Akal 2016). وأضافت:”في مقابل هذه المساعي الحميدة، تلقى الأمير عمولة ووجد الجميع ذلك أمرا طبيعيًا". عندما تأسست أخيرًا الديمقراطية في إسبانيا ابتداء من عام 1978، واصل خوان كارلوس -الذي كان ملكًا منذ أربع سنوات- تلقي هذا العشور البترولي.
كما تلقى الملك هدية أخرى غير نقدية من الأمير فهد، إذ وهبه الأخير سنة 1979 المركبة الشراعية “فورتونا” والتي أبحر بها ملك إسبانيا كل صيف في مياه جزر الباليار على مدى 21 عامًا. وبعد ستة أشهر من تنصيبه، في يونيو/حزيران 2014، أراد الملك فيليبي السادس وضع حد لهذه الممارسة. وقام بوضع معيار يحد -بشكل غير دقيق إلى حد ما- مبلغ الهدايا التي يمكن أن يتلقاها أفراد العائلة المالكة.
لم تقتصر الصفقات مع الأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود الذي تولى العرش في عام 1982 على مجال النفط فقط. فخلال زيارة إلى مدريد، طلب منه خوان كارلوس قرضًا بقيمة 100 مليون دولار، وفقًا لكتاب “La soledad del rey” أو “عزلة الملك” للصحفي “خوسيه غارسيا أباد” الذي صدر في 2004 عن دار La Esfera de los Libros. وقد حصل على هذا القرض فورا لمدة عشر سنوات وبدون فوائد، ويعتقد المؤلف بأنه لم يسدده في الوقت المحدد أو لم يسدده بالكامل.
وفقا للتسلسل الزمني، لم يكن الأمير فهد أول قادة العالم الإسلامي الذين طلب منهم خوان كارلوس المساعدة المالية. ففي عام 1977 تلقى الشاه محمد رضا بهلوي رسالة من رئيس الدولة الإسبانية يطلب منه 10 ملايين دولار لـ “تعزيز الملكية الإسبانية”، بحسب أسد الله علم، مؤلف كتاب “أنا والشاه. المذكرات السرية لوزير البلاط الإيراني أسد الله علم 1969-1977” (دار نشر سانت مارتينز ). ويؤكد أسد الله علم بأن خوان كارلوس تحصل على المبلغ المطلوب.
سافاري ذو عاقبة وخيمة
خوسيه غارسيا أباد وريبيكا كوينتانز -ويعود تاريخ الكتاب الأول لهذه الاخيرة إلى عام 2000 وقد وجدت صعوبة في العثور على ناشر له- هما الصحفيان الوحيدان اللذان قاما بنشر سير ذاتية غير مهادنة عن خوان كارلوس الأول قبل انهيار أسطورة الملك المثالي خلال رحلات السفاري التي قام بها في بوتسوانا، في أبريل/نيسان 2012، لاصطياد الفيَلة رفقة عشيقته كورينا لارسن وأحد أبنائها. تم الكشف عن السفاري -الذي كان من المفترض أن يبقى بعيدا عن الأنظار- لأن الملك تعرض إلى كسرفي عظم الفخذ وتم نقله اضطراريا بسرعة إلى إسبانيا. كان محمد إياد كيالي، وهو رجل أعمال إسباني من أصل سوري، هو صاحب دعوة الملك وحاشيته لهذه الرحلة إلى بوتسوانا وتكفل بجميع النفقات (60 ألف دولار). وكان يُعرف وقتها بأنه رجل ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود في إسبانيا. وقد قام بإدارة أو Casa Al Riyadh S.L“بيت الرياض” بمدريد، وهي شركة عقارية سعودية قابضة، حتى وفاته سنة 2019. كما كان يتكفل بإقامة كل من سلمان والملك فهد في ماربيلا (جنوب إسبانيا) نهاية القرن الماضي. وكان خوان كارلوس يقطع كل عام إجازته الصيفية في مايوركا لزيارتهم. توفي الملك فهد في أغسطس/آب 2005 -وقد طلب خوان كارلوس آنذاك من الحكومة إعلان يوم حداد رسمي- ولم يكن خليفته الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود أقل كرمًا مع خوان كارلوس الأول. إذ أمر سنة 2008 وزارة المالية السعودية بتحويل 100 مليون دولار إلى حساب في بنك “ميرابو” بسويسرا خاص بمؤسسة “لوكوم” ومقرها في بنمان والتي أنشأها ملك إسبانيا في ذلك العام.
دُفعت هذه الأموال كعربون شكر لخوان كارلوس بعد أن عمل على ضمان حسن سير أشغال مؤتمر حوار الأديان افتتحه الملك عبد الله في مدريد في يوليو/تموز من ذلك العام، وفقاً لمصادر مرتبطة بتنظيم الحدث. لا عجب إذن في أن يذرف خوان كارلوس بعض الدموع علانية عندما قام في يناير/كانون الثاني 2015 برحلة خاصة إلى الرياض لتقديم تعازيه للملك سلمان بعد وفاة عبد الله في نفس الشهر.
قام دون خوان كارلوس، في عام 2012، بتحويل 64.8 مليون دولار من الهبة الملكية السعودية إلى كورينا لارسن “امتنانا ومحبة”، وفقًا لتصريح أدلت به العشيقة السابقة في عام 2018 لبيرتوسا، المدعي العام في جنيف، والذي وجه لها تهمة تبييض أموال. كما يوجد محل متابعة في هذه القضية كل من أرتورو فاسانا، مدير ثروة الملك في سويسرا، ومحاميه دانتي كانونيكا، دون أن يطال الأمر الملك.
قد لا يكون الحب هو الدافع الوحيد لهذا الكرم، حيث كانت العشيقة الألمانية أيضًا شريكة أعمال خوان كارلوس في الخليج. فعلى الرغم من كونها ألمانية فقد كانت ضمن مجموعة رجال الأعمال الإسبان الذين رافقوا خوان كارلوس الأول في زياراته الرسمية لبعض البلدان في منطقته. وقد تم حتى استقبالها في الرياض سنة 2008 من طرف الأمير الوليد بن طلال الذي كان يعد في ذلك الوقت أغنى رجل في العالم العربي. وقد دعيت كورينا لارسن بصفتها ممثلة لملك إسبانيا إلى غداء عمل، وفقًا للمعلومات المنشورة على موقع شركة المملكة القابضة التي يملكها.
علاقات بحرينية
من جهة أخرى، اعترف أرتورو فاسانا خلال استجوابه في جنيف بأن ملك إسبانيا قد سلمه بيده في سويسرا عام 2010 حقيبة بها 1.9 مليون دولار، وهي هدية من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة. وقد تم وضع هذه الأموال على الفور في حساب مؤسسة “لوكوم”. منذ تنازله عن العرش في يونيو/حزيران 2014 وإلى غاية رحيله إلى المنفى في أغسطس/آب 2020، قام خوان كارلوس بحوالي ست رحلات خاصة إلى البحرين. كما انتقل العاهل البحريني الى مدريد في سبتمبر/أيلول 2019 فقط للاستفسار عن الحالة الصحية لخوان كارلوس الذي كان يتعافى بعد العملية الجراحية السابعة عشرة التي أجريت له.
لم توجه النيابة العامة في إسبانيا أي لائحة اتهام ولكن من تدابيرها أنها فتحت تحقيقًا حول العمولات التي يكون قد تلقاها خوان كارلوس بعد حصول اتحاد شركات إسبانية في عام 2011 على عقد إنجاز قطار عالي السرعة بين مكة والمدينة. وكان الملك قد قام بنشاط حثيث لدى أصدقائه السعوديين لانتزاع هذا العقد البالغ 6700 مليون يورو، والذي كان الرئيس نيكولا ساركوزي يطمح إلى افتكاكه أيضًا لفرنسا. لكن حتى في صورة ثبوت تحصله على عمولات، لا يمكن إحالته إلى العدالة حيث ينص الدستور الإسباني على أن رئيس الدولة “مصان ولا يتحمل مسؤولية شخصية”. لذلك لا يمكن محاكمته إلا عن الجرائم التي يكون قد ارتكبها بعد تنازله عن العرش في عام 2014. ولتجنب ذلك، قام خوان كارلوس بين ديسمبر /كانون الأول وفبراير/شباط بتسوية ديون مع الضرائب الإسبانية بمبلغ يزيد عن خمسة ملايين يورو.
إذا كانت هدية ملك البحرين متواضعة مقارنة بتلك التي قدمها السعوديون، فإن الهدية التي قدمها الملك حسين إلى خوان كارلوس لم تنل اهتماما يذكر. ففي سبعينيات القرن الماضي، قام الملك الهاشمي ببناء “لا ماريتا”، وهى فيلا رائعة على شاطئ البحر في جزيرة لانساروتي (جزر الكناري) لم يقم فيها أبدًا. وقد قام بتسليمها إلى ملك إسبانيا سنة 1989، الذي تنازل عنها بدوره إلى إدارة التراث الوطني. لم تستفد العائلة المالكة الإسبانية كثيرا من هذا المنزل حيث كانت تفضل قضاء العطل بمايوركا بجزر البالياريس. أما الشخص الذي مكث بها هناك أطول مدة -ثلاثة أسابيع في عام 1992- فهو الرئيس السابق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ميخائيل غورباتشوف، رفقة زوجته رايسا.
تقرب خوان كارلوس من ملوك الخليج بالتأكيد لإثراء نفسه ولكن أيضًا لأنهم كانوا يهتمون به كثيرًا. فبغض النظر عن المال، فقد كوَّن لنفسه أصدقاء حقيقيين كان يحتفل معهم، مثل الملك حسين الأردني، وصداقات وطيدة مثل الملك سلمان. كان الملوك والسلاطين وكل من يدورون في فلكهم سعداء بدورهم بإقامة علاقة وثيقة لأول مرة مع عائلة ملكية أوروبية.
يختلف فيليبي السادس الذي تم تنصيبه ملكًا على إسبانيا سنة 2014 تماما عن والده. كانت أعمال والده المشبوهة تزعجه على الدوام، خاصة وأنها أصبحت اليوم تعرض النظام الملكي للخطر. وقصد إنقاذ هذا النظام، أصدر الملك الجديد منذ عام بيانا يعلن فيه تخليه عن ميراثه، كما عاقب الملك الفخري بحرمانه من منحته كرئيس سابق للدولة.
قبل عشر سنوات لاحظ يوزيب بيكيه، وزير الخارجية الإسباني السابق، في محادثة مع كاتب هذا المقال وكان آنذاك فيليبي مجرد ولي عهد إسبانيا أن للأخير “عقلية تميل إلى الجرمانية ويصعب عليه التفاهم مع العقليات الشرقية”.