نادراً ما تلقى مسائل جدية وراهنة -كقضايا الهوية- الإصغاء عند جمهور مواقع التواصل الاجتماعي بالرغم من أن مسألة الهوية كانت ولا تزال في لبنان قضية محورية. لذا بدا مفاجئاً انتشار فيديو للباحث وأستاذ التاريخ شارل الحايك، فنّد فيها، بلغة عامية سهلة، مقرونة بسخرية سوداء مرحة، “الأساطير المؤسسة للهوية اللبنانية”. هكذا، هزأ الباحث الشاب (38 عاما) من تلك السرديات «المقدسة» عند المواطن اللبناني، وصورها المنمطة (كليشيهات)، مفككا إياها علميا وبالقرائن التاريخية والأركيولوجية، فانتشر فيديو المقابلة ليبلغ بأقل من 72 ساعة عشرات الآلاف من المتابعين.
لخص الحايك، والذي كان قد تفتق ذهنه خلال فترة الحجر المنزلي بسبب كورونا، عن فكرة “بودكاست” بعنوان “تراث وجذور” يشرح فيه بلغة سهلة عامية تاريخ المناطق اللبنانية خلال تنزهه على دراجته الهوائية.
يقول الحايك في مقابلة مع “أوريان 21” إنه «هناك تياران في السردية اللبنانية لتاريخ البلاد: الأول يقول إن عمر لبنان سبعة آلاف سنة وإنه استمرارية لحضارة أقدم بكثير هي الفينيقية، والثاني أقل حدة ويعيد جذور لبنان إلى الأب المؤسس فخر الدين المعني الكبير (1572-1635). أما التاريخ، كوثائق، فيقول لنا إن لبنان لم يكن موجودا قبل العام 1920، أي قبل تأسيس الجنرال الفرنسي هنري غورو لهذا الكيان. والهوية اللبنانية هي الشيء الذي تمت فبركته بعد العام 1920 وبالأخص بعد 1943 أي بعد الاستقلال، ليكون نوعا من صيغة تستطيع أن تجمع المكونات الطائفية في لبنان.
ولّدت هذه الإشكالية ومنذ تأسيس “لبنان الكبير” العام 1920، انقسامات بين اللبنانيين ترسخت بحروب موسمية مدمرة، بين أنصار الهوية المشرقية/العربية/ الإسلامية، وأنصار الهوية “الفينيقية”/المسيحية/الغربية.
سردية تاريخية جوفاء
ضحى شمس: — ما هي العناصر المكونة للهوية اللبنانية والتي تحمل داخلها بذور التناقض بينه وبين محيطه؟
شارل الحايك: — هناك ثلاثة عناصر. الأول والأهم هو القول بأن لبنان ملجأ للأقليات. أما العنصر الثاني فيزعم أن لبنان بلد متوسطي وليس عربياً. في حين يحدد العنصر الثالث الدور التاريخي للبنان. بالنسبة لنظرية "لبنان الملجأ، يقول الحايك، فإن هذه السردية تقول انه لما انتقلت المنطقة من الفترة البيزنطية/الرومانية التي استمرت 600 سنة، للفترة العربية الأموية بداية القرن السابع، كان ذلك حدثا كبيراً. تدعي السردية اللبنانية أن المسيحيين الذين كانوا يعيشون في تلك المنطقة هربوا من الاضطهاد الديني إلى جبل لبنان سعيا خلف حرية ممارسة معتقداتهم. هذا ليس صحيحاً. أولاً: ليست هناك اية وثائق تثبت وجود هروب. لا دلائل أركيولوجية عن فترة الانتقال من العهد البيزنطي للعهد الإسلامي/العربي بشكل دراماتيكي، من نوع جاء المسلمون وكسروا الكنائس وبنوا جوامع محلها، بل حصل التغيير تدريجاً. لا أقول إنه كان انتقالا وردياً، لكن على الأرجح كان انتقالا سلمياً للسلطة.
ثانيا: تعريف الملجأ أنه خارج السلطة، لكن جبل لبنان لم يكن صعب المنال إلى هذا الحد. وهو على تقاطع طرقات بين الداخل والساحل. فأي سلطة مركزية إن كانت بدمشق أو في أي حاضرة من الحواضر العربية المهمة بعد القرن السابع، لم تكن لتسمح أن تكون هذه المنطقة خارجة عن سلطتها. على الأرجح أنها تمتعت بنوع ما من الإدارة الذاتية بما لا يتضارب مع مصالح الدولة المسيطرة.
أضف الى ذلك فكرة أن المسيحيين لجأوا إلى الجبل، وكذلك الشيعة والدروز، هي نسبيا سردية بدأت بالظهور في القرن 18، بتأثير الإرساليات الأجنبية التي روجت لفكرة أن المسيحيين والمسلمين هم في صراع دائم، وأن مسيحيي الشرق، وهم من تبقى من “سكان البلاد الأصليين” حسب وصفها، لجأوا إلى جبل لبنان لتأسيس دولة. وهذه الدولة عادت وظهرت وصارت لبنان، البلد الضامن لهذه الأقلية الدينية في الشرق.
الموارنة يهربون.. من اضطهاد مسيحي
ض.ش.: — ما هي العناصر التاريخية التي تفند هذه الفكرة؟
ش.ح.:. — تخصّ هذه السردية ثلاث طوائف: الموارنة والدروز والشيعة. لنبدأ من عند الموارنة لأنها السردية المسيطرة في تاريخ لبنان الحديث. نعرف أن المارونية كحركة دينية ظهرت في منطقة هي حاليا شمال سوريا، في مقاطعة بيزنطية اسمها الفراتية، حول حماه. أصبحوا رهبنة، وهذه الرهبنة ارسلت بعثات تبشيرية إلى جبل لبنان، فصار لدينا مجموعتان مارونيتان: واحدة في الفراتية وأخرى في جبل لبنان. صحيح أن مجموعة حماه جاءت إلى جبل لبنان، ولكن ليس هربا من الاضطهاد الإسلامي، بل من المسيحيين البيزنطيين (يضحك). لأن الموارنة كانوا لفترة طويلة جدا كنيسة مستقلة، لا هم كاثوليك ولا أرثوذوكس. وعندما عاد البيزنطيون للتوسع في القرن التاسع على حساب الدول الإسلامية في المنطقة، كان طريق مرورهم عبر المنطقة التي يسكنها الموارنة. السؤال الآن: هل هرب الموارنة من حول حماه إلى جبل لبنان لأن منطقتهم اصبحت نوعاً من خط تماس او جبهة عسكرية، أو هربا من اضطهاد البيزنطيين؟ قد يكون هذا او ذاك. لكن الأكيد ان العنصر البيزنطي هو الذي دفعهم للانتقال إلى جبل لبنان عند اخوتهم الموارنة.
ثانيا بالنسبة للدروز: ليس هناك أي دليل يفيد بأن الشوف ووادي التيم (مناطق غالبية درزية في لبنان) كانت خالية ثم فجأة وفي القرن 11 امتلأت بالدروز! الأرجح أن سكان المنطقة اعتنقوا هذه العقيدة بتأثير من مبشرين بها. هناك وثائق من أواخر الفترة الفاطمية (القرن 12) عن تحوّل سكان الأطراف، لهذه العقيدة الجديدة. المحليون هم الذين تحولوا الى هذه العقيدة. الشيء نفسه بالنسبة للتشيع. فجبل عامل مرتبط بالتشيع منذ القرن السابع. لا أستطيع القول إنه كانت هناك طائفة شيعية في القرن السابع بشكل واضح، لكن كانت هناك بذور لهذه الفكرة التي صارت فيما بعد الشيعة. ففكرة اللجوء، والهروب من الاضطهاد غير صحيحة بالنسبة للشيعة أيضاً. أما آخر من انتقلوا إلى جبل لبنان فقد كانوا طائفة الروم الكاثوليك، وذلك إثر انشقاق الكنيسة في القرن 17. هربوا إلى جبل لبنان نعم، ولكن ليس من اضطهاد إسلامي، بل من الاضطهاد الأرثوذوكسي. ولم يلجؤوا إلى لبنان لأنه أمّن لهم الحماية، بل لأن آل شهاب الذين كانوا ملتزمين الإدارة يومها من قبل السلطنة العثمانية، شجعوهم على المجيء لأنهم كانوا من سكان المدن الأثرياء، فأدخلوا بمجيئهم إلى المنطقة رأسمالا. وقد أعطوا بعدا تجاريا لبلدات سكنوا فيها متل دير القمر وذوق مصبح وساهموا لاحقا بنهوض بيروت.
موروث استعماري
ض.ش.:. — لكن من أين جاءت هذه السردية؟ وكيف تم الترويج لها؟
ش.ح.:. — جذورها التاريخية هي كتابات أب يسوعي بلجيكي/فرنسي اسمه هنري لامنس، كان مدرسا للتاريخ بجامعة مار يوسف في بيروت بداية القرن العشرين. ولامنس مثله مثل الكثير من مبشري الإرساليات، كان مستشارا للانتداب الفرنسي. سنة 1920 عندما رتب الفرنسيون والبريطانيون المنطقة سياسيا لتناسب مصالحهم، كانوا بحاجة لسردية تخدمهم، هنا كتب لامنس كتابه الشهير “سوريا موجز في التاريخ” (La Syrie : précis historique) الذي كرّس فيه أفكارا أسست هذه السردية.
من بين هذه الأفكار، نجد فكرة لبنان كملجأ. كانت الفكرة موجودة قبله عند بعض المستشرقين، ولكن بمنحى شاعري. هو أوجد المقومات لهذا المبدأ. لا تنسي أنه استاذ تاريخ في إطار حركة الاستشراق التي من مقوماتها التفوق الأوروبي، مسيحيو الشرق جزء منا، هم أقليات ونحن آتون لحمايتهم ولتحقيق حلمهم بكيان خاص مستقل. هذه السردية شيطنت بالطبع كل الدول الإسلامية منذ بداية الفتح العربي الإسلامي وصولا إلى السلطنة العثمانية. استعمل لامنس تعابير مثل “ظلم واضطهاد الأقليات غير الإسلامية” إن كانت مارونية أو شيعية أو درزية فاضطروا للهرب إلى جبل لبنان ذي الطبيعة الجبلية الوعرة، للحصول على حرية ممارسة معتقداتهم، وأن الأمر استمر حتى وصول الانتداب الفرنسي الذي حررهم وأعطاهم لبنان وطناً للأقليات تحت حمايته.
مساوئ هذه السردية أنها تضعك في حالة نزاع دائم مع المحيط، واستطرادا مع الداخل. هناك كتاب رائع للدكتور أسامة المقدسي عنوانه “ثقافة الطائفية”، فيه مقطع أعتبره من أجود ما كتب عن تأثير الإرساليات الأجنبية السلبي، بغض النظر عن التأثير الإيجابي الكبير لهذه الأخيرة. فخلفية الإرساليات آتية من مبادئ الإصلاح وإعادة تحديث الكنيسة في الغرب. لم يكن هناك شرخ بين المسلمين والمسيحيين في الحياة اليومية. كان هناك اختلاط كبير. لكن هذه الإرساليات اعتبرت أن مدخل الإصلاح للمجموعات المسيحية يكمن في خلق مساحة ثقافية خاصة بهم ويا حبذا أن يرافقها توفير مساحة جغرافية يقطنها مسيحيون فقط! من هنا جاء هذا التأثير الذي أبعد المسيحيين عن محيطهم. لم يعد جزء كبير من المسيحيين يجد نفسه في محيطه الإسلامي. صاروا مثلا يعتبرون طرابلس (عاصمة الشمال اللبناني ذات الغالبية المسلمة) منطقة “إكزوتيك”! والمسيحيون الشباب من تلاميذ المدارس الفرنكوفونية أو ذات التعليم باللغة الإنكليزية يتصرفون كأنهم أجانب! إنهم ينظرون إلى بلادهم بنظرة السائح. كارثة.
كثير من أفكار لامنس ستشكل فيما بعد مقومات الحركة القومية اللبنانية والحركة القومية السورية. للحركتين الجذور نفسها التي يعود أصلها للإرساليات الكاثوليكة والبروتستاتنية. أي أن أصل فكرة “سوريا الكبرى” و“لبنان الكبير” أصل كليهما من الإرساليات. ومنهم تلقفها المثقفون المحليون.
عرب أم “فينيقيون”؟
ض.ش.: — وماذا عن قدم الكيان اللبناني؟
ش.ح.:. — هذه الفكرة ضعيفة جداً ولو كانت تدغدغ الأنا الجماعية. كل بلد يحب أن يفسر حاضره بأن يعطيه أبعادا تاريخية وقيماً تميزه كالحرية والانفتاح والريادة، وهذا أسلوب الحركات القومية. منطقتنا تاريخياً قديمة، صحيح. ولكن الدول القومية فيها جديدة. لبنان سوريا الأردن العراق.. كلها دول جديدة، لا يجب أن نكذب على أنفسنا. من هنا جاء العنصر الثاني الذي تحدثنا عنه وهو الذي يقول إن لبنان ليس بلدا عربيا، بل “متوسطياً”. (يضحك) ما معنى الهوية المتوسطية؟ صحيح أنه هناك نظام غذائي شبه مشترك لحوض المتوسط، وطبيعة متشابهة، لكن هل هذا ما يكوّن الهوية؟
ض.ش.: — إذا ما هي العناصر التي تكوّن الهوية؟
ش.ح.:. — هذا هو السؤال الكبير والمثير للجدل في لبنان. فمفهوم الهوية ليس شيئا جامدا ثابتاً، بل متبدلا باستمرار حسب الإطار السياسي والثقافي. بهذا المعنى نحن اليوم في لبنان عرب، حتى ولو كان الحمض النووي للسكان يحتوي على عناصر فينيقية وكنعانية. أي أنني لو عملت اليوم تحليلا للحمض النووي، وتبين مثلاً إنني حفيد ملك جبيل! فما الذي يعنيه ذلك في سنة 2021؟
فكرة القومية العربية صار عمرها حوالي القرن، المنطقة التي اسمها لبنان شاركت بشكل فعال بهذه الفكرة وأعطتها منحى علمانيا وحديثا. هذه الفكرة هُزمت أمام إسرائيل 3 مرات، ولم يعد وجودها قويا. لكن مقوماتها لا زالت موجودة وبقوة: كاللغة العربية المشتركة، الثقافة، الأدب، الشعر إلخ.
تستطيع هذه المقومات أن تؤسس هوية لشعوب المنطقة التي تشترك بها لتكون قوة إقليمية وعالمية. ولكن الأنظمة العربية الحاكمة إن كانت عائلية أو عشائرية أو ديكتاتوريات عسكرية هي المسؤولة الأولى عن تفريغ المنطقة العربية من عناصر قوتها، كما أن إسرائيل لم تقصر في إنهاك المنطقة وتدميرها المستمر.
خطاب تاريخي موحّد؟
ض.ش.: — لكن إلى أي حد تؤثر هذه الأساطير المؤسسة التي تسللت إلى لاوعي جزء كبير من اللبنانيين على واقع الانقسام الوطني حول الهوية؟
ش.ح.:. — مكمن الخطورة في الأسطورة المؤسسة كونها تقوم على الحنين للماضي. النوستالجيا تعطل عملية التطور، فهي تضعك في حالة نضال دائم لتحقيق رؤيا من الماضي هي أصلا غير صحيحة. هذا جهد مدمر. ونتيجة هذه السرديات الكارثية، اقتنع كثير من اللبنانيين بأنهم أولا ضحايا، وأن عليهم أن يناضلوا دائماً للحفاظ على “هويتهم”. ما هي الهوية بالنتيحة؟ وما فائدة بلد الحرية والاستقلال إذا لم يكن عندك كهرباء مثلا! يا أخي، فلننشئ بلدا يعطي للمواطن حقوقه مهما كان انتماؤه الديني، وعندها ستتحول هذه السرديات الهوياتية إلى حركة ثقافية جميلة وتكف عن كونها عنصر تعطيل لقيام الدولة.
ض.ش.: — حسنا، ماذا عن مسؤوليتنا الخاصة في تكريس تلك السرديات عبر كتاب أو كتب التاريخ المدرسية؟
ش.ح.:. — كتاب التاريخ في لبنان إشكالي، لا خلاف. لكنني لا أعتقد أن الحل يكون باعتماد كتاب تاريخ موحّد كما يطالب البعض. وحدها الأنظمة الشمولية هي التي لديها كتاب تاريخ فيه رواية رسمية منزلة ومقدسة. كتب التاريخ في لبنان متعددة، صحيح، لكن -وهذا هو الأهم- كلها تروي نفس الرواية الرسمية دون أي مقاربة نقدية، وهي تكرس السلطة الطائفية بالقول إننا مجموعة طوائف وهم رعاتها.
ما أحاول قوله هو إنه ليس من الضروري أن نتفق على سردية تاريخية. نحن بلد فرطت مؤسساته وأهله يجوعون. طالما لا توجد لدينا مؤسسات، من المستحيل أن نصل لصيغة تجمعنا. نحن في فترة انهيار مديد ولم نعد بهذه الأهمية إقليميا. فلنتفق على بناء المؤسسات. ليست المشكلة من يسيرها، “الفينيقي” أو العربي. تحمسنا كتيرا في 17 أكتوبر/تشرين الأول، لكن تبين أن النظام الطائفي أقوى منا بكتير. نحن جزء من الحضارة العالمية ولسنا بحاجة لأساطير لتجد لنا دورا. يا جماعة، لولا الحضارة الإسلامية لا وجود للخوارزميات أو الإنترنت. مللنا من التنميط الذي يقول إن المسلمين بيننا إرهابيون وإننا كمسيحيين يعيشون في العالم الإسلامي ضحايا. نحن جزء من هذه الحضارة وانتهى.