تنظيم الدولة الإسلامية

جهاديو فرنسا أمام معضلة العودة

لا زالت الحكومة الفرنسية ترفض طلبات عودة الجهاديين الفرنسيين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والعراق، أو عودة نسائهم وأطفالهم. لكن الرئيس الفرنسي بات اليوم مستهدفا شخصيا بإجراءات قضائية تقوم بها عائلات الضحايا.

مخيم الهول.
Cynthia Lee/CICR

في يونيو/حزيران 2014 سقطت مدينة الموصل العراقية بين أيدي تنظيم الدولة الإسلامية لتلتحق بالرقة السورية التي كان قد سيطر عليها التنظيم في يناير/كانون الثاني من العام ذاته. أكثر من 40 ألف مقاتل أجنبي من أكثر من مائة دولة توافدوا إليها حسب إحصائيات الأمم المتحدة.

أحصت الحكومة الفرنسية حوالي 1700 فرنسي التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية منذ العام 2014. وقد اعتبرت السلطات الفرنسية وجزء كبير من الطبقة السياسية خطوة الالتحاق بمثابة إعلان حرب ضد باريس، فضلا عن كون سوريا والعراق قاعدة خلفية أعمال إرهابية استهدفتها ولا تزال تهدد أراضيها، على غرار هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 الدامية وهجوم نيس الذي هز فرنسا في 14 يوليو/تموز 2016.

سخّرت فرنسا إمكانيات استخباراتية ضخمة لترصد وتعقب من يسيرون على خطى تنظيم الدولة الإسلامية للحؤول دون التحاق آخرين بصفوف تنظيم الدولة الإسلامية وعززت ترسانتها التشريعية والقانونية لمجابهة الإرهاب والجريمة المنظمة على غرار قانون مكافحة الإرهاب الذي صادق عليه البرلمان الفرنسي نهائيا في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2017. إلا أنها لا تزال في المربع الأول فيما يتعلق بملف عودة جهادييها بعد استعادة الموصل في يوليو/تموز 2017 والرقة في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، ثم بعد إعلان قوات سوريا الديمقراطية القضاء التام على التنظيم في معركة الباغوز في شمال شرق سوريا في مارس/آذار 2019، حيث ألقت القبض على المقاتلين وعائلاتهم من النساء والأطفال احتجزتهم في مخيمات.

لم تسرع الدعوات الملحة لقوات سوريا الديمقراطية ولا محاولات عائلات الجهاديين من وتيرة استعادة فرنسا لمواطنيها المقاتلين المحتجزين لديها خاصة بعد بدء انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وذلك رغم تصاعد معاناة المحتجزين. أغلب الجهاديين الفرنسيين المحتجزين في سوريا والعراق وخاصة النساء رفقة أطفالهن يناشدون العودة إلى بلادهم للامتثال أمام القانون الفرنسي، إلا أن هذا المطلب يقابله تمسك السلطات الفرنسية بمحاكمتهم في الأراضي التي ارتكبوا فيها جرائم في سوريا والعراق وخاصة على أراضي الأخيرة لتوفر اتفاقيات تعاون دفاعية وأمنية وقضائية مع باريس.

وفي فبراير/شباط 2020، جدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الموقف، ونفى وجود أي برنامج لاستعادتها مختصرا الدور الفرنسي في معالجة كل حالة على حدة والمساعدة القنصلية لمن سُلموا إلى السلطات العراقية التي حكمت بالإعدام على عدد منهم.

فرنسا التي ألغت حكم الإعدام سنة 1981 عارضته عمليا لكنها أكدت سيادة العراق، حيث أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية في 24 مايو/أيار 2019 بعد حكم الإعدام الذي صدر في حق تسعة جهاديين فرنسيين أن السفارة الفرنسية في العراق وفي إطار الحماية القنصلية اتخذت الإجراءات الضرورية لتذكير السلطات العراقية بموقفها الثابت المعارض لحكم الإعدام.

هذا الحكم عرّض من جديد السلطات الفرنسية إلى وابل من الانتقادات داخليا وخارجيا، حيث اعتبرت مقررة الأمم المتحدة أنياس كالامارا -التي أصبحت هذا الشهر الأمين العامة لمنظمة العفو الدولية- في رسالة وجهتها إلى فرنسا في أغسطس/آب 2019 أن السلطات الفرنسية قامت بـ“اختراقات عدة للقانون الدولي” وطالبتها بتوضيح دورها في نقل الجهاديين الذين حُكم عليهم بالإعدام من سوريا إلى العراق. لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب هي الأخرى حثت فرنسا على اتخاذ كل الإجراءات الفعالة والعقلانية المتاحة من أجل حماية السلامة النفسية لمواطنيها، كما طالبتها بمنع تنفيذ حكم الإعدام في حقهم.

أما في الداخل، فقد ندد خمسة وأربعون محاميا فرنسيا بأحكام الإعدام التي صدرت في حق تسعة جهاديين فرنسيين في العراق، وذكّروا بأن الدستور الفرنسي يمنع حكم الإعدام ولم يحدد أي استثناء حتى فيما يتعلق بالإرهاب.

حتى الأطفال

في ظل هذا المشهد، أصبح تركيز عائلات الجهاديين والمنظمات الحقوقية على عودة النساء والأطفال. إلا أن قصر الإليزيه لا يزال متمسكا بمقاربة معالجة هذا الشق من ملف الجهاديين بدراسة كل حالة على حدة مع إيلاء الأهمية للأطفال اليتامى.

120 امرأة و300 طفل لايزالون في مراكز احتجاز تابعة لقوات سوريا الديمقراطية حيث يعيشون في ظروف شديدة، ومنذ بداية عهدة الرئيس ماكرون، لم يتمكن سوى 35 طفلا من العودة إلى فرنسا منهم 17 عادوا في 2017 و11 في 2020 و7 آخرون في يناير/كانون الثاني 2021.

المنسق المقيم للأمم المتحدة ومنسق الشؤون الإنسانية لسوريا عمران رضا أعرب في هذا السياق عن قلقه العميق إزاء الوضع الإنساني في مخيم الهول -80% من المحتجزين فيه هم نساء وأطفال- وأبرز معاناة أطفال هذا المخيم ووفاة ثمانية منهم في أقل من أسبوع في شهر أغسطس/آب 2020 “متأثرين بأمراض متفاوتة من بينها مضاعفات مرتبطة بسوء التغذية وجفاف ناجم عن الإسهال ونزيف داخلي ونقص السكر في الدم”. وأضاف إن أزمة جائحة كورونا فاقمت معاناة المحتجزين واللاجئين حيث تم تقليص الخدمات الضرورية.

وقد ناضلت عائلات الجهادين بالتنسيق مع عدد من النواب والمحامين لتحريك بعض الضمائر على مستوى الجمعية الوطنية، حيث رافع عدد من النواب في سبيل هذه القضية وناشدوا السلطات العديد من المرات في بياناتهم ومراسلاتهم المختلفة بمعالجة هذا الملف.

جمعية عائلات متحدة أوضحت أن جهودها المبذولة في هذا السياق كانت مدعومة من قبل حوالي 67 برلمانيا من بينهم النائب بيار موريل ألويسيي اليميني والسيناتور الشيوعي بيار لوران. وفي بيان آخر صدر في 13 يناير/كانون الثاني 2021، اغتنمت الجمعية عودة الأطفال السبعة إلى فرنسا من مخيمات الهول وروج لتثمنها وتبرزها كدليل على قدرة السلطات الفرنسية على استعادة “من تريد ومتى تريد”.

تغير الموقف تجاه النساء

ولا سماع أصواتهم من جديد وتسريع معالجة ملف عودتهم أضربت عشرات الفرنسيات المحتجزات لدى قوات سوريا الديمقراطية في مخيمي الهول وروج في 23 فبراير/شباط 2021، إلا أن السلطات الفرنسية لم تعد النظر في موقفها. وقد سُئل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في هذا الموضوع على قناة “فرانس أنفو” في 26 مارس/آذار 2021 فكان جوابه أن الأولوية حاليا تتمثل في إنقاذ الأطفال شريطة أن توافق الأمهات على عودة أبنائهن إلى فرنسا موضحا أن السلطات قامت بعمليات تشبه العمليات العسكرية عدة مرات من أجل إعادة عدد من الأطفال التي حددت هويتهم بموافقة السلطات الكردية. وخصّ لودريان بالذكر اليتامى والأطفال الذين لا يتجاوز عمرهم عشر سنوات، فيما حسم مستقبل النساء -حتى اللواتي لم يشاركن في المعارك-ليبقى حبيس “الانتظار”.

فعلا، فقد تغير الموقف الفرنسي من النساء اللائي التحقن بتنظيم الدولة الإسلامية منذ 2016 بتغير الدور الذي لعبته هؤلاء، إذ لم يعد نشاطهم يقتصر على تربية الأطفال والأجيال أو الالتزام بـ“الواجبات الزوجية والعائلية”، بل توسع ليشمل التعبئة والتجنيد وحتى القتال، وفي هذا السياق أوضحت وكالة الشرطة الأوروبية (يوروبول) في يونيو/حزيران 2019 أن النساء بتن يجندن للقتال على خط الجبهة وفي الأنشطة الإرهابية في الغرب.

الحكومة الفرنسية والرهانات السياسية

يخضع ملف عودة الجهاديين إلى تجاذبات سياسية دفعت السلطات الفرنسية إلى العزوف عن تنظيم عودة جماعية لـ130 جهادي في يناير/كانون الثاني 2019، حيث أثار إعلان وزير الداخلية آنذاك كريستوف كاستنير عزم السلطات الفرنسية استعادة جهادييها حفيظة حزب الجمهوريين اليميني على لسان نائبته عن منطقة بوش ديو رون فاليري بويي، إذ عارضت الأخيرة هذا القرار ورافعت من أجل محاكمة الجهاديين في العراق أو سوريا، واصفة الجرائم التي ارتكبوها بجرائم حرب وجرائم إبادة. كما لوّح حزب التجمع الوطني (يمين متطرف) بسحب الجنسية الفرنسية من مزدوجي الجنسية من الجهاديين.

أحد نواب حزب الجمهوريين عن منطقة با دو كاليه بيار هنري ديمون ذهب إلى حد اقترح اعتماد “الاغتيالات الممنهجة” كوسيلة لتصفية الجهاديين أينما تواجدوا في سوريا والعراق، في يناير/كانون الثاني 2019 خلال برنامج حواري يبث على القناة البرلمانية الفرنسية تناول ملف عودة الجهاديين. تصريحات أثارت دهشة النائبة عن حزب “الجمهورية إلى الأمام” (الحزب الحاكم) ماري كريستين فرديي جوكلاس والتي رافعت في المقابل خلال البرنامج الحواري ذاته وعلى خلاف توجه حزبها من أجل عودة الجهاديين وسجنهم ومحاكمتهم في فرنسا. وهو موقف يشاركه حزب “فرنسا الأبية” اليساري.

الموقف الرسمي الفرنسي متأثر أيضا برأي حوالي 82 في المئة من الفرنسيين المستجوبين حول هذا الملف والذين اعتبروا أن قرار مُحاكمة الجهاديين في سوريا والعراق قرارا صائبا، حسب سبر آراء نشرته صحيفة “لوفيغارو” في 28 فبراير/شباط 2019، خاصة وأن فرنسا على أبواب مواعيد انتخابية (رئاسية وتشريعية) سنة 2022.

ملاحقات قضائية

بات القضاء هو الباب الذي تطرقه عائلات الجهاديين من خلال المحامين لفتح هذا الملف. وقد واجهت فرنسا ولأول مرة التماسا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تقدم به جدّ وجدّة بعد رفض السلطات الفرنسية إعادة حفيديهما من سوريا برفقة أمهما.

وفي 30 مارس/آذار الماضي استهدف ثلاثة محامين لعائلات الجهاديين الرئيس الفرنسي شخصيا، حيث طالبوا المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق “حول جرائم حرب”، باعتبار ماكرون “المسؤول المباشر” أو “المتواطئ” على حد تعبير تعبيرهم في الاحتجاز غير القانوني لـ200 طفل و حوالي 100 امرأة لدى قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، والذين يعانون من معاملة غير إنسانية. كما أبرز المحامون أن السلطات الكردية لا تملك القدرة لمحاكمة الجهاديات وطالبت فرنسا باستعادتها.

ما بعد العودة

التكفل بالأطفال العائدين من مناطق النزاع والحروب في سوريا والعراق يخضع لجملة من الشروط والمراحل حددتها السلطات الفرنسية في تعليمة وقعت في فبراير/شباط 2018 خلفا لتلك التي صدرت في 23 مارس/آذار 2017.

تعليمة التكفل بالقصر تحدد كل الإجراءات الواجب اتباعها بمجرد وصول أطفال الجهاديين إلى فرنسا وأول خطواتها تتمثل في المتابعة الطبية الجسدية والنفسية لهؤلاء الأطفال العائدين، للوقوف عند درجة الصدمات التي تعرضوا إليها خلال فترة تواجدهم في ساحات النزاع والقتال في سوريا والعراق ثم في مخيمات الاحتجاز لدى قوات سوريا الديمقراطية.

هذه العودة مؤطرة قانونيا من خلال إعلام وإبلاغ النيابة العامة بمجرد أن تطأ أقدام هؤلاء الأطفال أرض فرنسا، كما يلعب قاضي الأحداث دورا جوهريا في تحديد مستقبلهم استنادا إلى تقارير الفحوص الطبية والنفسية، والفصل بين الاختيارات المتاحة والمفصلة في تعليمة التكفل بهؤلاء. وتتوزع خيارات إعادة الإدماج باختصار حسب التعليمة بين إمكانية تكليف عائلات استقبال باحتضانها أو إسناد ذلك الى أحد أفراد العائلة بعد التأكد من الغياب التام لأي علامات التطرف داخلها أو الاعتماد على مصالح المساعدة الاجتماعية للأطفال.

في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 وبالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الطفل، وجه رئيس المجلس الإقليمي لسين سان دوني ستيفان روسيل نداءإلى السلطات الفرنسية يناشدها فيه بمساعدة محافظته التي تأخذ على عاتقها الحصة الأكبر في استقبال الأطفال العائدين من سوريا والعراق.

استقبل الإقليم حوالي 94 طفلا منذ العام 2016 ولا يزال يتكفل بأربعة وسبعين منهم على مستوى مصالح المساعدة الاجتماعية للطفولة التابعة لها. وقد أوضح ستيفان روسيل أن إقليمه يتحمل أعباء هذا الاستقبال دون وجود علاقة مباشرة تربط هؤلاء الأطفال بها، وقد كلف ملف أطفال الجهاديين سين سان دوني حوالي 3 ملايين يورو العام 2019 دون أن تتلقى أي مساعدة، كم لم تحظى المراسلات العديدة إجابة من قبل السلطات.

وتجدر الإشارة أن إقليم سين سان دوني يحتل المرتبة الأولى في ترتيب الأقاليم الفقيرة على مستوى الأراضي الأوروبية لفرنسا وذلك حسب مرصد عدم المساواة الفرنسي، ويعيش فيه حوالي 28 ألف شخص تحت خط الفقر.

إمكانية إنشاء محكمة دولية

في ظل المماطلة الذي يكتسي الموقف الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا من ملف عودة الجهاديين والعبء الذي يشكله على قوات سوريا الديمقراطية وعلى السلطات العراقية، طرحت العديد من الدول الأوروبية اقتراح إنشاء محاكم دولية على شاكلة المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة ورواندا، وهو ما شكل محل مناقشات هذه الدول في العام 2019 حسب جاسم محمد مدير المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات كما درست العديد من دول التكتل الأوروبي هذا الاقتراح ومنها السويد التي ناقشته في اجتماع دولي احتضنته في يونيو/حزيران 2020. وقد طرحت فرنسا أيضا على لسان وزيرة العدل نيكول بيلوبي في 2019 إنشاء محكمة دولية في العراق لمحاكمة الجهاديين الأجانب.

وكانت قوات سوريا الديمقراطية سباقة لطرح هذا الخيار إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عارضته كما فعلت من خلفتها وجددت تمسكها باستعادة الدول الأوروبية لمواطنيها الذين التحقوا بتنظيم الدولة الإسلامية. وقد أوضح جاسم محمد مدير مركز دراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في هذا السياق أن الولايات المتحدة تتمسك باستعادة الدول الأوربية لمقاتليها وتستعمله كورقة ضغط كلما أرادت، كما تعتبر واشنطن أن استعادة اوربا لجهاديها هي أنجع وسيلة لمحاربة الإرهاب لأن بقاءهم في سوريا والعراق يفتح الباب أمام إعادة تدويرهم في نزاعات أخرى خاصة في غرب أفريقيا.