مصر. عبد المنعم أبو الفتوح، من الحملة الانتخابية إلى سجن أبو زعبل

لم تفتأ منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان تطلق جرس الإنذار بشأن سياسة القمع الممنهج التي يتّبعها النظام المصري. من بين السجناء السياسيين الذين يقبعون في زنازينه يوجد عبد المنعم أبو الفتوح، أحد أهم المرشحين للانتخابات الرئاسية لسنة 2012.

القاهرة، 9 سبتمبر/أيلول 2011. عبد المنعم أبو الفتوح يشارك في مسيرة من أجل استقلال القضاء وضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

“أن أعيش في سجن أبي زعبل خير لي من أن أعيش في قصر من قصور لندن”. كلمة قالها المرشح الرئاسي السابق ورئيس حزب مصر القوية، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، خلال آخر حوار له مع قناة الجزيرة في لندن، وفي اليوم التالي من رجوعه إلى مصر، تم اعتقاله يوم 14 فبراير/ شباط 2018، ومنذ ذلك الوقت وهو في حبس منفرد.

عبد المنعم أبو الفتوح من رواد جيل الحركة الطلابية في السبعينيات قبل أن يصبح معارضا سياسيا في فترتي حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك. وقد كان من الوجوه التي شاركت في التقريب بين الإخوان والأحزاب الأخرى خلال الانتخابات التشريعية لسنتي 1984 و1987.

بعد أن قضى خمس سنوات في السجن تحت حكم حسني مبارك (1996-2001)، اصطدم أبو الفتوح مع أفكار قيادات الجماعة. وكانت زيارته لنجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله سنة 1994 سببا جديدا لتعميق الخلافات، فأديب نوبل كان مثار جدل كبير بين أوساط الإسلاميين. وعلى الصعيد السياسي، عارض أبو الفتوح فكرة الجماعة في منع ترشح المرأة والأقباط لمنصب رئاسة الدولة، ووجود هيئة دينية لمراجعة القوانين قبل صدورها.

اعتقل أبو الفتوح للمرة الثالثة بين يونيو/ حزيران ونوفمبر/ تشرين الثاني 2009. وبعد الثورة، قرر أن يكون مرشحا مستقلا، فقرر قادة الجماعة فصله يوم 19 يونيو/ حزيران 2011. وانتهت الانتخابات الرئاسية بحيازته لما يزيد عن أربعة ملايين صوت بنسبة تقارب 18 في المئة من الناخبين، وحصد المركز الرابع في الانتخابات. وبعدها أسس حزب “مصر القوية” الذي عُرف بمواقفه المعارضة للعديد من قرارات الرئاسة طوال عهد الراحل محمد مرسي، ومعارضته أيضا لما يُسمّى بجبهة الإنقاذ التي ضمت رموز التيار العلماني في مصر، واشتعل الصراع الإسلامي - العلماني مرة أخرى ليودي بالتجربة المصرية في منتصف 2013. وبعد معارضة أبو الفتوح للنظام الجديد، قرر نظام السيسي اعتقال أبو الفتوح في فبراير/ شباط 2018.

عزلة تامة

وفقا لقانون تنظيم السجون، فإن المادة 43 بالفصل التاسع، الخاص بتأديب المسجونين، تحدد الآتي: “الحبس الانفرادي لمدة لا تزيد على ثلاثين يوما - وضع المحكوم عليه بغرفة شديدة الحراسة لمدة لا تزيد على ستة أشهر - ولا يجوز نقل المحكوم عليه من السجن إلى الغرفة المشار إليها في الفقرة السابقة إلا إذا كان سنّه لا يقل عن ثماني عشرة سنة، ولا يجاوز الستين سنة”. تحدد هذه المادة أوضاع المحكوم عليهم، أما عبد المنعم أبو الفتوح، الذي سيتم السبعين من عمره الشهر القادم، فهو لا يزال رهن المحاكمة، فضلا عن تجاوزه مدة الحبس الاحتياطي التي قررها القانون بعامين (في الاتهام الذي تكون عقوبته السجن المؤبد أو الإعدام)، ولا يزال في حبس منفرد منذ ثلاث سنوات وسبعة أشهر. صحيح أن الاستشهاد بالقانون في دولة يحكمها نظام عسكري ابتدأ حكمه بمجزرة راح ضحيتها المئات قد يكون أمرا عبثيا، لكن حتى القانون المتشدد لا يتم تطبيقه.

وفق أسرة أبو الفتوح، فإنه يعاني من عُزْلة مشددة منذ احتجازه وليس مجرد حبس انفرادي، فهو موضوع في عنبر (مجموعة من الزنانزين) منفصل عن باقي عنابر السجن، ولا يوجد أي محتجز آخر في العنبر، كما لا يوجد معه أي محتجز في زنزانته. وتظل الزنزانة مغلقة عليه طوال اليوم إلا وقت التريّض الذي لا يجاوز 90 دقيقة. ويقوم بالتريّض داخل هذا العنبر وليس في ساحة السجن، فلا تلامس بشرته أشعة الشمس.

نادرا ما يخرج أبو الفتوح من العنبر، وإذا خرج فبعد دخول باقي المحتجزين إلى زنزاناتهم، كما لا يُسمح له بالصلاة في مسجد السجن أو حضور صلاة الجمعة، فهو محروم من التواصل مع أي كان طوال فترة حبسه، إلا في وقت الزيارة الذي لا يتجاوز عشرين دقيقة شهريا لشخص واحد فقط منذ جائحة كورونا. وسبق أن توقفت الزيارات لمدة تقارب ستة أشهر مع بداية الجائحة.

بالإضافة إلى هذه القيود الاستثنائية، يجري تقييد آخر على المراسلات المكتوبة بينه وبين أسرته التي تكون ثلاث مرات شهريا فقط. وكثيرا ما يحدث انقطاع في تلك المراسلات دون إبداء أية أسباب من إدارة السجن، رغم أن كافة المراسلات تخضع لرقابة الأجهزة الأمنية، حيث يتم عرضها قبل الموافقة على استلامها، وبالطبع يتم فتحها ويمكن حتى شطب أجزاء منها.

“غرف احتجاز مجهزة”بأجهزة تكييف هواء“

”قامت وزارة الداخلية بتطوير أماكن الاحتجاز، وتحسين الظروف المعيشية للمحبوسين، وتجهيز غرف الاحتجاز بأقسام ومراكز الشرطة على مستوى الجمهورية “بأجهزة تكييف هواء”. هذه البشرى السارّة زفّتها جريدة الأهرام الحكومية في 30 يونيو/حزيران 2021 للمحتجزين وذويهم. ولا تكفّ وزارة الداخلية والحكومة المصرية عن التأكيد على حسن معاملة السجناء سواء بسواء. ولكن إذا نظرنا لوضع معارض له سمعته المحلية والدولية، يمكننا أن نتخيّل أوضاع السجناء بشكل عام، والذين لا يثير اعتقالهم ضجة بشكل خاص.

يتسبب الاحتجاز بطبعه في التأثير على الحالة النفسية، مما ينعكس بالضرورة على الحالة الطبية. وقد تدهورت الحالة الصحية لأبو الفتوح بصورة ملحوظة. حيث تعرّض إلى عدة ذبحات صدرية، مرّ بعضها في البداية دون إسعافات طبية، فكان يظل يعاني من الآلام حتى تحدث استجابة بطيئة، أو تنتهي الآلام دون إسعافات. ويظل غير مسموح له بأن يحتفظ بالدواء. بحكم كونه طبيبا، أخبر دكتور أبو الفتوح أسرته أنه في ليلة 24 يوليو/ تموز 2021 عانى من أعراض أزمة قلبية حادة. ويعتقد وفقا لطبيعة تلك الأعراض وحِدَّتها أنها ترجّح حدوث جلطة في أحد شرايين القلب. ورغم معاناته لساعات ومحاولاته المتكررة خلالها طلب المساعدة، لم يتم إسعافه، كما لم تتم الاستجابة لنداءات المكلّف بحراسته داخل العنبر المغلق. وبعدها بعدة أيام، تم نقله إلى المستشفى لمجرد تشخيص حالته، حيث انصرف دون علاج. وقد أصبحت نوبات القلب أمرا معتادا تأتيه بمعدل شهري منذ مطلع العام الجاري، ما ينذر بخطر حقيقي على حياته.

ساءت حالة القلب لأبو الفتوح بشكل واضح، فبعدما كان يخرج من زنزانته طوال وقت التريّض، أصبح يطلب تقسيم ذلك الوقت، حيث إنه لم يعد يستطيع بذل مجهود متواصل طواله. أما الآن، فقد أصبح -في أحيان كثيرة- لا يقدر على الخروج وقت التريّض، فأقل مجهود للسير يتعبه، فضلا عن أنه أصيب في ظهره خلال فترة احتجازه الأولى، عندما سقط داخل مدرعة حديدية ويداه مكبّلتان، ومن حينها لا يسير إلا بمساعدة شخص يتّكئُ عليه. كما رفضت إدارة السجن إجراء عملية لظهره على نفقته الشخصية، أو استخدامه لمركز العلاج الطبيعي داخل السجن، فأصبح يكتفي بالجلوس خارج زنزانته، علّه يستطيع أن يمس شيئا من أشعة الشمس أو يتنسّم نسيما من خارج أسوار سجنه.

أسوأ من نظام مبارك

بعد احتجاز الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، تمت إضافة نجله إلى ذات القضية بتهمة انضمامه إلى جماعة إرهابية (الإخوان المسلمين)، بالإضافة إلى إدراجه مع والده على قوائم الإرهاب في فبراير/ شباط 2018. ورغم الطعن على ذلك القرار وإلغائه في فبراير/ شباط 2020، لم يحدث تجاه ابنه أي تغيّر في الناحية القانونية، فظل وضعه القانوني كشخص مُدرج على القوائم، فهو ممنوع من الحقوق السياسية، وممنوع من السفر ومن استخراج جواز، كما يُمنع من إجراء تعاملات بيع وشراء موثّقة بشكل رسمي، ومن التعيينات في القطاع الحكومي. علاوة على ذلك، تم التحفّظ على رصيده البنكي وتجميد الأصول التي يمتلكها، وتُوقف عضويته في النقابات ومجالس إدارات الشركات والنوادي وأي كيان مخصص لمنفعة العامة. ثم تمت إعادة إدراجه على قوائم الإرهاب مرة أخرى بقرار جديد في 23 يناير/ كانون الثاني 2021. كذلك يعاني أخ له من مضايقات مماثلة منعته من العودة إلى عمله في الخارج الذي كان يشغله منذ عام 2009. وفي عام 2019 تعرّض للفصل من عمله داخل مصر في إحدى شركات القطاع الخاص، حيث أُبلغ حينها أنه جاء “بناء على طلب أمني”، وإذا تقدّم لوظيفة وقُبِل فيها يتم التراجع عن توظيفه.

كذلك تعاني الأسرة من حملات الهجوم والتشويه التي تشنها الوسائل الإعلامية تجاه أبو الفتوح، حيث يُوصف دائما بالإرهابي، كما توجّه إليه اتهامات خطيرة مثل حيازة أسلحة نارية، وتوفير مكان للتدريب عليه. رغم ذلك أخبرنا الذين التقينا بهم من أسرة أبو الفتوح أنه يرفض أن يتم الزج باسمه في أي شيء يتعلق بالمساومات الخارجية مع النظام المصري، لكنهم يتساءلون: إلى متى سيستمر ذلك؟ وما المطلوب منا؟

إن هذا الإغراق في التفاصيل ليس من قبيل الرغبة في حشد كل ما يتعلق بسوءات النظام في التعامل مع أبو الفتوح، بل لبيان أشكال الضغوط التي يتعرض لها على المستوى النفسي والصحي للوصول إلى نتيجة واحدة، وهي إنهاء حياته. فالنظام منذ اعتقاله لم يقم بالتواصل معه عبر أي شخص للوصول إلى تفاهم ما، مثلما كان يفعل نظام مبارك مع قيادات المعارضة. وكان الضغط يجري حينها على المعتقل لأجل قبول إملاءات النظام السياسي، أما الآن فالضغوط والتضييقات تهدف إلى كسر المعتقلين أو إنهاء حياتهم بالإهمال الطبي المتعمد. وهو ما حدث مع عشرات المعتقلين السياسيين، ومنهم الرئيس الراحل محمد مرسي. كما هي نفس الإجراءات التي دفعت المعارض الشاب علاء عبد الفتاح للتفكير في الانتحار، كما نقل محاميه عنه في سبتمبر/أيلول 2021.

وقد وثّقت جمعية “كوميتي فور جستس” المستقلة ومقرها في جنيف، أن عدد الوفيات داخل السجون المصرية في الفترة بين 30 يونيو/ حزيران 2013 و30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 قد وصل إلى 958 حالة، منهم 677 حالة بسبب الإهمال الطبي، وفقا لما جاء في تقريرها “بدون محاسبة”.

هذه المؤشرات تجعل القلق كبيرا على الحالة الصحية للمعتقل السبعيني عبد المنعم أبو الفتوح. يمكن للنظام أن يستبدل احتجازه بتحديد إقامته في المنزل، أو إجراء أي تدابير تناسب وضعه الصحي، فهو لا يُخشى من هربه وقد عاد بنفسه إلى وطنه وهو مقدِّر لنتيجة خياره.

ويجدر التذكير بأن عبد المنعم أبو الفتوح كان الوحيد الذي نجح خلال حملته الانتخابية في إقامة وَصْل بين الإسلاميين والعلمانيين، فقد ضمت حملته مستشارين يساريين وليبراليين وإسلاميين، فبدت إمكانية كسر حالة الاستقطاب التي استعرت خلال الفترة الانتقالية، وقد أوصلهم الصراع السياسي إلى الإطاحة بتجربة كان يمكن لها أن تغيّر وجه المنطقة إذا استمرت. فالثِّقل المصري يجذب المنطقة صعودا أو هبوطا، في الديمقراطية أو في الاستبداد.