في يونيو/حزيران 2017، فرض تحالف من الدول العربية بقيادة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية حظرا على قطر. بدت الإمارة الصغيرة آنذاك في أدنى مستوى من نفوذها الإقليمي، معزولة من طرف المحور الإماراتي السعودي المضاد للثورة. وقد تبين لقطر أن دعمها الطويل لجماعة الإخوان المسلمين غير مجدٍ. تعرضت الإمارة لضغوطات شديدة لإغلاق وسائل إعلامها بما في ذلك رأس حربتها، قناة الجزيرة الفضائية. ففي حين كانت إدارة ترامب تزايد في مدح القادة الإماراتيين والسعوديين، كان مستقبل البلاد يبدو غير مؤكد إلى حد كبير.
بعد أربع سنوات، انقلب الوضع، وشهدت منطقة الخليج إعادة توازن جيوسياسي كبير. واحتلت قطر مكانة جديدة بفضل قوة سياستها الخارجية التي تفوق بكثير حجمها الجغرافي الصغير، في حين أصبحت الإمارات في موقف دفاعي بعد أن تعرضت لعدة نكسات في مواضيع إقليمية مختلفة. يمكن تفسير هذا الوضع الجديد قبل كل شيء من خلال مقارباتهما الإقليمية المتعارضة كليا، فقد طورت قطر سياسة خارجية مستقلة مستوحاة من نظرة استراتيجية على المدى الطويل، في حين طبقت الإمارات من جانبها تكتيكات قصيرة المدى.
الملف الأفغاني
يبرز الوضع في أفغانستان إعادة الاعتبار التي عرفتها قطر. فبعد أن عملت الدوحة لمدة طويلة كوسيط في النزاعات الاقليمية، قررت -وقد كان ذلك القرار مثيرا للجدل حينها- استضافة طالبان سنة 2013، والتوسط بعد ذلك في محادثات سلام بينها وبين الولايات المتحدة. وفي أعقاب الانسحاب الأمريكي، أصبح من غير الممكن تجاوز قطر في أي حوار مع طالبان، إذ قامت بتسهيل إقامة جسور جوية لإجلاء العديد من الأمريكيين والأفغان المعرضين للخطر، ووافقت إلى جانب تركيا على إدارة مطار كابول نيابة عن السلطة الجديدة. وهكذا، أصبحت العلاقات بين الغرب وطالبان ترتبط جزئيا بالدوحة.
إنها نقطة تحول هامة بالنسبة للمصالح القطرية التي تمتد جغرافيًا إلى ما هو أبعد بكثير من مصالح منافسيها الخليجيين. فقد كانت الصراعات بين دول الخليج وإيران في الماضي تقتصر على السياسة الطاقوية في الشرق الأوسط، وعلى ضمان أمن احتياطيات النفط والغاز المحلية، بينما تختلف الحالة الأفغانية جذريًا. فقد مثلت أفغانستان ساحة معركة خلال عقدين من التدخل الغربي ضد الحركات الجهادية، وهي بذلك تُذكّر القوى الغربية بأكبر صدماتها المرتبطة بالإرهاب والإسلاموية. من هنا، بعيدًا عن مضيق هرمز، عاد النفوذ القطري إلى الظهور.
لا يخلو دور قطر في أفغانستان من مفارقة، فهي من جهة تُتهم بكونها قريبة جدا من الإسلاموية -وبالتالي من الإرهاب-، لكنها تحظى في نفس الوقت بتقدير لدورها كوسيط مع طالبان. وأصبح المجتمع الدولي يعول الآن على الدوحة لمراقبة وربما تهدئة هذه الحركة المحافظة جدا من الأيديولوجيا الإسلاموية.
بالعودة إلى التاريخ، فإن التقلبات الجيوسياسية في آسيا الوسطى لن تضع حدا بكل تأكيد لـ“لعبة الكبرى” بين القوى العظمى، ولكنها ستُدخل فاعلين جددا في المعادلة. وسيتعين على قطر أن تواجه قريبا نفوذ باكستان التي تدعم طالبان منذ مدة طويلة، حيث يعود التدخل العسكري لإسلام أباد في أفغانستان إلى أيام الحرب الباردة، عندما كانت تسعى إلى تعزيز وزنها الاستراتيجي في مواجهة الهند. كما تعتزم باكستان الحد من تأثير القومية البشتونية لديها من خلال دعم نسخة إسلاموية عنها في الجهة الأخرى من حدودها الغربية. هذا ويشار إلى أن التزاما أكبر مع طالبان يسمح لها بإعادة هيكلة حركات ومدارس الحركة التي تعمل داخل حدودها والتي تحظى بشعبية متنامية.
صحيح أن قطر تظهر قوتها في أفغانستان، لكنها لا تغفل عن أهدافها التقليدية والحيوية في العالم العربي. ففي المنطقة، يمكن أن تشكل فلسطين الانفتاح القادم بالنسبة لقطر ويسمح لها بتكرار نجاحها الأفغاني من خلال القيام بدور الوسيط بين حماس من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى. فعلى عكس الإمارات، لا تزال قطر -التي لم تطبع علاقاتها مع إسرائيل- تتمتع بنوع من المصداقية لدى الفلسطينيين. وعلى خلاف باقي المحور المضاد للثورة، يمكنها التعامل بسهولة أكبر مع حماس لأنها لم تعتبر أبدا الجماعة الإسلاموية كمجموعة إرهابية. وبذلك يمكن لقطر أن تخفف من معاناة الغزاويين دون أن تدعم صراحة حركة حماس، وبالتالي تحافظ على مصداقيتها كذلك لدى الولايات المتحدة وإسرائيل. هكذا يمكنها في الأخير أن تصبح المُيسر الرئيسي للاتصالات بين الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين.
تراكم الأخطاء
على عكس الانتصار الاستراتيجي لقطر، تُراكم الإمارات العربية المتحدة -وبالتالي الجبهة المناهضة للثورة والتي تضم بشكل خاص المملكة العربية السعودية ومصر- الأخطاء التكتيكية. ففي حين ركزت سياسة الدوحة على القوة الناعمة ودبلوماسية مستقلة ماهرة، استثمرت الإمارات في القوة الصلبة بعد الربيع العربي. وبتواطئ من إدارة ترامب، قامت أبو ظبي بتدخلات عسكرية في المنطقة بهدف توقيف أي تقدم ديمقراطي، كما روجت لتقنيات جديدة مثل “بيغاسوس” لإسكات المعارضين والأصوات المنتقدة في الخارج.
بيد أن هذه الاستراتيجية أظهرت محدوديتها بوضوح، خاصة وأن استعراضات القوة لم تؤد إلا لتضخيم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وتؤكد الأوضاع الإنسانية الكارثية التي تتخبط فيها ليبيا واليمن هذه الحصيلة الرديئة. كما وجد الإماراتيون أنفسهم مقيدي الأيدي والأرجل في فلسطين خلال حرب غزة في 2021. فدعمهم الحماسي لـ“صفقة القرن” تحت إدارة ترامب منعهم من الانخراط أكثر مع الفلسطينيين على الأرض. وحتى الحصار الإماراتي-السعودي ضد قطر فشل، كما أكدت ذلك المصالحة الفاترة للرياض وأبو ظبي مع الدوحة في يناير /كانون الثاني 2021.
لم يكن الأمر دائما على هذا الشكل. ففي السابق، كانت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تتقنان فن الدبلوماسية مثلما يتقنها القطريون اليوم، كما كانت الرياض تقيم علاقة خاصة مع اليمن، مثل قطر مع أفغانستان اليوم. بل عندما حكمت طالبان أفغانستان آخر مرة في نهاية التسعينيات، كانت المملكة العربية السعودية والإمارات الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين تعترفان بحكومة كابول، وقد طورتا شبكات توغلت في البلاد بعمق. غير أن قنوات الوصول والتأثير هذه تقلصت بعد الربيع العربي بسبب مواقف الرياض وأبو ظبي المعادية للثورة، والمرفوقة بتثبيت نظام هرمي جامد في دولتيهما.
لم تؤد هذه التعديلات إلى النتائج المرجوة لأن المحور المضاد للثورة لم يتمكن أبدا من سحق رغبات التغيير الديمقراطي والإرادة في المشاركة السياسية في كل المنطقة. كما أن الرغبة في استعادة الاستقرار الاستبدادي أصبحت محل رفض لدى الحركات الشعبية التي استمرت في التعبئة خلال العقد الماضي. وقد كشفت الموجة الثانية من الربيع العربي خلال 2018-2019 في الجزائر والسودان والعراق ولبنان عن واقع جديد. فإذا كانت الجبهة المضادة للثورة يمكنها إعاقة التقدم الديمقراطي، فهي لن تتمكن أبدا من العودة إلى الوراء وإعادة فرض ماض أصبح باليا.
عامل آخر سمح بإعادة بروز قطر هو غياب الانسجام لدى محور الثورة المضادة. ففي السنوات التي أعقبت الربيع العربي تحرك القادة السعوديون والإماراتيون بتناغم، وقاموا بتنسيق سياساتهم الخارجية في العديد من المجالات. غير أن المملكة العربية السعودية قامت مع ولي العهد محمد بن سلمان بإعادة تحديد مقاربتها، وعرفت كيف تتصرف بشكل أكثر براغماتية من خلال الابتعاد عن الإمارات العربية المتحدة.
أسباب هذا الخلاف كثيرة. فقد وجد النظام السعودي نفسه في كثير من الأحيان في موقع داعم للقادة الإماراتيين دون أن يتلقى اعترافا كبيرا من لدنهم في المقابل. كما خصصت الرياض موارد عسكرية كبيرة لتمويل المغامرات الكبرى المضادة للثورة مع تلقي انتقادات لاذعة بشأن مسألة حقوق الإنسان. وفضلا عن ذلك، فوجئ السعوديون بقرار الإمارات بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهم يعلمون جيدا أنه ليس باستطاعتهم فعل الشيء نفسه، أولا لأن عدد السكان السعوديين أكبر والمعارضة الداخلية أقوى بكثير، وخاصة لأن القادة السعوديين يتحملون المسؤولية الرمزية لحماية الحرمين الشريفين.
توترات مع السعودية
يقاتل النظام السعودي بالأساس من أجل نفس الحصة في السوق الجيوسياسية التي يطمح إليها القادة الإماراتيون. وقد ظهر هذا التنافس إلى العلن الآن، بعد أن أصبحت الخلافات بين القوتين أكثر وضوحا، كما أكد ذلك اختلافهم خلال صائفة 2021 حول إنتاج النفط الذي أدى إلى تهميش مؤقت لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك). كما يظهر ذلك على ضوء القرار الأخير للسعودية بالتعامل فقط مع الشركات الكبرى التي لها مقر إقليمي لديها، ما أدى ببعض هذه الشركات إلى مغادرة الإمارات للإقامة في المملكة.
من جهة أخرى، لعب التقارب بين تركيا ومصر في صالح قطر. وقد أظهر هذا التطور في العلاقات بأن رجب طيب أردوغان مستعد لتقليص الدعم التركي للإخوان المسلمين، مما شجع قطر على أن تحذو حذوه. فكلاهما يعترفان بأن الفاعلين الإسلامويين المؤسساتيين -مثل الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب - قد فقدوا من نفوذهم. صحيح، أن الأمر يتعلق بثلاث مجموعات مختلفة تنشط في بيئات جد متباينة، غير أن وضعهم الحالي يكشف عن اتجاه عام: فشل مزدوج متمثل في اللجوء إلى إيديولوجية لكسب الدعم الشعبي، مع القيام باختراقات مؤسساتية في دول استبدادية لا تتقبل رؤيتها وهي تقتحم أجهزتها. هذا لا يعني بأي حال من الأحوال نهاية الإسلاموية كقوة سياسية، لأنه مازالت هناك قطاعات هامة من هذه المجتمعات مستعدة لدعم برامجها المحافظة التي تمزج بين الإيمان والسياسة. ولكن هذا يسمح بإخراج ملف الإسلاموية من نقاط الخلاف بين الدوحة والرياض، مع إطلاق يد قطر التي يمكنها الآن أن تتصرف بحرية أكبر.
تغير في قواعد لعبة
أن تحيا قطر مجددا من خلال سياستها الخارجية لا يعني أن التزاماتها الايديولوجية قد تغيرت، فهي لا تروّج لليبرالية ولا تدعو إلى ربيع عربي جديد. كما أنها ليست جزءا من الثورة المضادة، ولكنها في نفس الوقت ليست فاعلا ثوريا. لقد باتت قطر اليوم مجرد فاعل براغماتي يتفهم اتجاه التاريخ. ولكن إذا أرادت أن تحافظ على مكاسبها، فعليها أن تقوم بانفتاح سياسي على المستوى الداخلي.
كذلك بالنسبة للإمارات، فتعثرها لا يضعفها في شيء على المستوى الداخلي، إذ أنها تعتز بإدارتها العامة الفعالة وبقدرات مؤسساتية جيدة تجلب مجموعة هائلة من الشركات والعمال من كل أنحاء العالم. كما أن احتياطاتها الطاقوية معتبرة. وفضلا عن ذلك، وعلى الرغم من أن نظامها السياسي لا يزال مغلقا مثل نظام المملكة العربية السعودية، فهي أقل عرضة للمعارضة الداخلية والاحتجاجات العامة بالنظر إلى مجتمعها الصغير وأساليب المراقبة التي تعتمد على التكنولوجيا. وبالتالي فإن انتكاساتها عبر المنطقة لن تؤدي بالضرورة إلى انتكاسات داخلية.
مع ذلك، يوفر التجديد الاستراتيجي لقطر تداعيات حاسمة للتطورات الإقليمية. أولا، وقد تغيرت قواعد اللعبة بين قطر والإمارات العربية المتحدة، ستبحث الدولتان عن ميادين جديدة للتنافس. فالسياسة القطرية مثلا تستغل مواردها التعليمية والإعلامية والثقافية لدعم قوتها الناعمة، كما فعلت الإمارات. غير أنه على قطر أن تتعلم مما فعلته الإمارات العربية المتحدة سابقا: ترجمة هذه المكاسب إلى نتائج اقتصادية مربحة، مثلا من خلال تحكمها في تسيير الموانئ، والاستثمارات، وكذلك وصولها إلى قطاعات اقتصادية حيوية في الخارج. ثانيا، أصبحت الإمارات تراهن على بكين، إذ يرتكز الوجود الصيني في الشرق الأوسط على اتفاقات اقتصادية وليس على وسائل عسكرية مثلما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، وقد التزمت الإمارات العربية المتحدة في الخليج بأن تصبح نقطة دخول الصين إلى المنطقة، إذ سبق أن قدمت نفسها على أنها المركز الرئيسي لـ“دبلوماسية اللقاحات” الصينية، حيث ساعدت في نفس الوقت في إنتاج وتوزيع اللقاحات الصينية ضد كوفيد-19 لبقية العالم العربي. وستكون الخطوة المنطقية التالية الاستجابة للمصالح الصينية في الخليج كمنفذ لـ“طريق الحرير الجديد”، ما يتطلب اتفاقات أكثر تعقيدا في مجال اللوجستيات والنقل وسلاسل التموين.
باختصار تدخل دولتان خليجيتان صغيرتان بطموحاتهما الهائلة حقبة جديدة من التنافس الجيوسياسي. ويصعب إلى حد الآن التنبؤ بنتائج هذه المواجهة.