دبلوماسية

مصر وإسرائيل في مساندة الانقلاب العسكري بالسودان

بينما تتواصل الحرب في السودان وسط اللامبالاة العامة، نعود لنقف على دور إسرائيل ومصر في هذه الأزمة. بعد الانقلاب العسكري لأكتوبر/تشرين الأول 2021، قامت غوينايال لونوار بتحليل مسؤولية هذين البلدين في إفشال التحول الديمقراطي. إضاءة مفيدة لفهم الدوافع الخفية وراء الاستنكار الرسمي الذي ظهر في مواجهة الانفجار الحالي للعنف، ووراء عروض الوساطة من قبل طرفين ليسا أبدًا بالمحايدين.

القاهرة، 25 مايو/أيار 2019. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يستقبل عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي السوداني.
Stringer/ AFP/ رئاسة الجمهورية المصرية.

“البرهان، البرهان، عد إلى السيسي!” شعار جديد يرفعه المتظاهرون الديمقراطيون ضد الانقلاب العسكري بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ليصبح من خلاله الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي السوداني والمسؤول الأول عن هذا الانقلاب، مجرد خادم عند المشير عبد الفتاح السيسي. فالشارع السوداني والأحزاب السياسية التي تم إبعادها، وكذلك بعض الدوائر الدبلوماسية، جميعهم يتهم مصر بمساندتها لهذا الانقلاب.

تقول مريم الصادق المهدي: “القاهرة بقيت صامتة، صامتة جدا”. مريم من الوجوه البارزة لحزب “الأمة”، أحد الركائز التاريخية للمشهد السياسي السوداني، وكذلك أحد مكونات “قوى إعلان الحرية والتغيير” المشاركة في الانتقال الديمقراطي. شغلت منصب وزيرة الخارجية من فبراير/شباط 2020 إلى حين الانقلاب، ثم قدمت استقالتها غداة اتفاق 21 نوفمبر/تشرين الثاني بين الجيش وعبد الله حمدوك، ما مكّن الأخير من العودة إلى منصبه كوزير أول، لكن وفق الشروط التي وضعتها المؤسسة العسكرية.

تتظاهر مريم الصادق المهدي بالدهشة قائلة:

السودان بلد استراتيجي بالنسبة لمصر، كنت أنتظر منها أن تعبّر عن قلقها وأن تدعو جميع المكونات السودانية للحوار. لكن القادة المصريين لم يفعلوا، ولم ينددوا بالانقلاب إلا بعد التصريح الأمريكي.

زيارة للقاهرة في اليوم السابق للانقلاب

في الحقيقة، فإن موقف مصر لم يفاجئ أحدا. فكغيره من الضباط السودانيين، تلقى عبد الفتاح البرهان تدريبه في مصر، كما أن جيشي البلدين كانا دائما على صلة وثيقة. وهو ما تؤكده خلود خير، المديرة المشاركة للمؤسسة الفكرية Insight Strategy Partners ومقرها الخرطوم:

لقد أعطى الجيش المصري أوامر للجيش السوداني لوقت طويل. واليوم، ومع ما آل إليه ملف سد النهضة الأثيوبي، تحتاج مصر أكثر من أي وقت مضى إلى نظام صديق في الخرطوم، يساندها في جميع قراراتها.

أما المدنيون الذي كانوا في الحكم، فقد كانوا يميلون أكثر إلى إعطاء الأولوية للتفاوض مع أديس أبابا حول تقسيم ماء النيل.

في هذا السياق المشحون بالتوترات المتصاعدة، سعى الجيشان السوداني والمصري إلى تعزيز روابطهما. ففي مارس/آذار 2021، أمضت العاصمتان اتفاقية تعاون في مجال الدفاع، تلتزم فيها القاهرة، وفق رئيس الأركان المصرية عند زيارته للخرطوم، بالاستجابة إلى احتياجات الجيش السوداني وتعزيز قدراته القتالية. وفي الشهر الموالي، تم تنظيم مناورات مشتركة في السودان، جمعت بين الجيشين والقوات البحرية والجوية.

كل هذا دفع بالمواطنين المعارضين للانقلاب إلى اتهام مصر بالوقوف خلف مبادرة الجيش السوداني. خاصة وأن البرهان كان قد زار الرئيس المصري في اليوم السابق للانقلاب، وفق ما جاءت به صحيفة “وول ستريت جورنال”. يقول متظاهرون في حي بوري بالخرطوم:

إن جيشنا يحاول فعل ما فعله السيسي في 2013، لكن السودانيين والمصريين شعبان مختلفان، وما نجح هناك لن ينجح هنا. لقد لقي السيسي مساندة لأنه كان ضد الإسلاميين، لكن هنا، نحن من يقف في وجه الإسلاميين، أما الضباط السودانيون، فهم يساندونهم.

فعلا، فقد سعت ثورة 2019 إلى الإطاحة بنظام عسكري إسلاموي قائم منذ 30 سنة، بينما يساند الجيش المصري -الذي انقلب على الإخوان المسلمين سنة 2013 في مصر- الجنرالات الذين يسعون في السودان إلى إعادة النظام الإسلاموي. لكن المفارقة ظاهرية فقط، فما يهم القاهرة هو التحكم في هذا البلد الذي تعتبره كساحة خلفية لها. تواصل خلود خير قائلة: “مصر، كغيرها من بلدان المنطقة، لها رؤية أمنية بحتة للسودان. بالنسبة لها، فالجيش يمثل طبعا الاستقرار، وهي لا تتوقع أبدا أن تجلب الديمقراطية الاستقرار وأن تضمن أمنها”. ناهيك أن من يتابع الملف السوداني في القاهرة هو رئيس جهاز المخابرات العامة، اللواء عباس كامل. تشاطرها مريم الصادق المهدي الرأي:

المخابرات المصرية هي من يتابع الملف السوداني. من جهتي، كنت دائما أقول للمصريين إن هذه العلاقة مهمة بالنسبة للسودان، ولكن كذلك بالنسبة لمصر. مساندة الانقلاب ليس منهجا جيدا لمن يريد أن يطور علاقات استراتيجية مع السودان.

غموض سعودي وإماراتي

رغم إصرار واشنطن، لم تضم القاهرة صوتها إلى صوت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في بيانها المشترك بتاريخ 3 نوفمبر/تشرين الثاني، والذي دعت فيه الدول الأربعة إلى عودة الحكومة الانتقالية حالا. بل يبدو أن الرئيس المصري حاول إقناع الرياض وأبو ظبي بتشكيل ائتلاف لمساندة الانقلابيين السودانيين أمام الضغط الدولي، لكنهما أذعنتا أخيرا -علنا على الأقل- لضغط إدارة بايدن. لكن هل كان هذا التصريح شكليا فقط؟ هذا ما يخشاه الديمقراطيون السودانيون. فالإمارات تحافظ على روابط قديمة وقوية مع جنرالات خرطوم، ذلك أن مرتزقة سودانيين كانوا ضمن قوات الدعم السريع لمحمد حمدان دقلو -شُهر حمدتي- للقتال لصالح الإمارات في اليمن، ولمصالح حمدتي المالية. تؤكد خلود خير أن “الإمارات حصلت تحت نظام علي بشير على عديد الأراضي في الجزيرة وعلى سواحل نهر عطبرة. إنهم يستثمرون هنا، وقد ربطوا علاقات مع الجيش السوداني. ويقوم مسؤول عال في المخابرات الإماراتية بمتابعة الملف”.

أما البلد الآخر في المنطقة الذي يظهر حياء بشأن التنديد بالانقلاب، فهو إسرائيل، رغم أن الخرطوم كانت قد أمضت “اتفاقات أبراهام” في يناير/كانون الثاني 2021 في ظل نظام مدني، لتفتح الطريق أمام التطبيع مع إسرائيل. وقد أمضى على هذه الاتفاقية وزير العدل السوداني -المدني- نصر الدين عبد البارئ. لكن الموقف الإسرائيلي حيال الانقلاب يبقى غامضا، فقد تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن زيارة وفد إسرائيلي للخرطوم بعد أسبوع من استيلاء الجيش على الحكم. وكان ضمن الوفد ضباط سامون من الموساد التقوا بالفريقين البرهان ودقلو.

قبيل الانقلاب، توجه شقيق دقلو إلى تل أبيب في كنف السرية التامة، وبإيعاز من الجيش. عبد الرحمن دقلو هو القائد الثاني لقوات التدخل السريع ويرأس مجموعة شركات الجنيد، وهي مصدر ثروة العائلة. وقد رافقه في رحلته إلى تل أبيب المسؤول عن صناعة الدفاع، ما يعني أن التطبيع سيكون تحت الرعاية العسكرية. كما يمكن أن نتصور اهتمام الجيش السوداني بالاختراعات التكنولوجية في مجال المراقبة والتي باتت إسرائيل مركزا لها. تؤكد خلود خير أن

إسرائيل والإمارات والسعودية يقفن نفس الموقف، إذ لديهن مقاربة أمنية حصريا للملف السوداني. هذه البلدان الثلاثة لا ترى السودان إلا من منظور مصالحها الأمنية. كما أن العلاقات مع الجيش السوداني ليست وليدة الأمس. ففي 1996، عندما أدار السودان ظهره لإيران، شرع في نفس الوقت في ربط علاقات مع الإسرائيليين، بطريقة سرية طبعا. وعندما اندلعت الثورة، احتاج الجيش للتكنولوجيا الإسرائيلية لمراقبة المعارضين، إذ كان يفتقر لهذا النوع من الوسائل، وقد حصل عليها.

تكنولوجيا إسرائيلية لمراقبة المعارضين

في الأيام التي تلت الانقلاب، أكّدت الصحافة الإسرائيلية أن هذا الحدث لا يشكل أبدا طعنا في عملية التطبيع بين الدولتين. طبعا، فالملف ليس بين يدي المدنيين السودانيين. صحيح أن وزير العدل السابق نصر الدين عبد البارئ كان قد التقى بمسؤولين رسميين أتوا من تل أبيب، وقد خلّدت الكاميرات المصافحة بينهم قبل أسبوعين من الانقلاب. صحيح أيضا أن الحزب الاتحادي لا يخفي مساندته للتطبيع. لكن أنصار إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ليسوا أغلبية في صفوف المدنيين، وفي جميع الأحوال، لم يستشرهم أحد في الموضوع.

مريم الصادق المهدي تتحدث عن تجربتها:

منذ يومي الأول كوزيرة للخارجية، اكتشفت أن ملف العلاقات مع إسرائيل ليس بيد الوزارة بتاتا. طالبت بالحصول عليه خلال المجلس الوزاري ومجلس الدفاع والأمن، لكني لم أتلق أبدا على أي رد. نحن لا نعلم شيئا عن الموضوع، بل نجهل حتى المبادئ التي بُنيت عليها هذه العلاقة.

هذه الدبلوماسية الموازية كانت تضعف دور الوزيرة -ومن خلالها دور الحكومة المدنية الانتقالية-، لكنها على الأقل جنّبت مريم الصادق المهدي موقفا لم تكن ستُحسد عليه، ذلك أن حزبها عارض دائما إقامة علاقات مع إسرائيل. كما تسلّط هذه الدبلوماسية الضوء على الغموض الذي يحيط بهذه المسألة. ففي فبراير/شباط 2020، كشفت تسريبات عن لقاء غير رسمي في إنتيبي بأوغندا بين الفريق الأول البرهان -الذي كان يرأس آنذاك المجلس الانتقالي-، وبنيامين نتانياهو الذي كان لا يزال وزيرا أولا. وقد كان للأمر وقع الفضيحة في الخرطوم، ذلك أنه لم يتم إعلام الوزير الأول بهذا اللقاء!

يؤكد الجيش بأنه يسعى لتسهيل رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والتي تحول منذ 1993 دون حصول الدولة على قروض البنوك الخاصة أو العامة وعلى التمتع باستثمارات أجنبية. لا يزال الأمر يغضب مريم الصادق المهدي إلى اليوم: “لقد قلنا دائما إنه لا مجال للربط بين الملفين!”. أما الوزير الأول، فقد كان يؤكد من جهته أن قضية التطبيع لا يمكن أن تندرج ضمن صلاحيات حكومة انتقالية، وأن الأمر يجب أن يعود إلى المجلس التشريعي الانتقالي الذي لم يتم تسميته بعد.

لكن دونالد ترامب لم يكن يرى الأمور من هذه الزاوية. وأما في الخرطوم، فقد دفع الوضع الاقتصادي الكارثي بالحكومة إلى التنازل. وهكذا، تم التوقيع على “اتفاقات أبراهام”.. التي بقيت على الرف. هل نفد صبر تل أبيب؟ فمصالحها عدة، من بينها الرمزية، كأن يُرمى عرض الحائط بقرار القمة العربية لسبتمبر/أيلول 1967 والتي انعقدت غداة هزيمة حرب يونيو/حزيران 1967، وما جاءت به من “اللاءات الثلاثة”: لا صلح، ولا اعتراف ولا تفاوض. ومن بين هذه المصالح كذلك المصالح الاستراتيجية، كترسيخ عزلة إيران، وضمان التموين بالقمح، ودفع ملف عودة المهاجرين السودانيين الذين يرغب الإسرائيليون في التخلص منهم.

بعيد الانقلاب، أظهر الفريق الأول البرهان لتل أبيب مدى اهتمامه بهذه العلاقة، فقد أعاد تشكيل المجلس السيادي بما يمليه عليه هواه، واستبعد المدنيين الممانعين لتحكّمه فيه، كما قام بتسمية مقربين من النظام القديم. ونجد من بين هؤلاء أبو القاسم برطم، وهو رجل أعمال من شمال السودان. تؤكد خلود خير أن “من أهم إنجازاته، علاوة على كونه من رجال النظام السابق، أنه سعى للتقارب مع إسرائيل. وهذا لا يتعارض مع كونه إسلاميا، إذ لدينا مجموعتان: المنظّرون ورجال الأعمال. برطم ينتمي إلى المجموعة الثانية، وهدفه الأساسي تطوير أعماله. إنه مهتم جدا بالتكنولوجيا الإسرائيلية في مجال الطاقة الشمسية والفلاحة والماء”.

خلال حوار له على قناة العربية في 3 ديسمبر/كانون الأول، عبّر الفريق البرهان عن عزمه على المضي قدما في عملية التطبيع مع إسرائيل:

ملف العلاقات مع إسرائيل هو أحد الملفات التي نعتقد أنها كانت ضرورية لعودة السودان إلى المجتمع الدولي. ليس لدينا عداء مع أي جهة، ونريد أن نثبت للعالم أننا منفتحون.

لكنه يتفق مع عبد الله حمدوك على أن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل هي من صلاحيات المجلس التشريعي.

إن النظام العسكري الجديد في الخرطوم، ورغم واجهته المدنية، ليس قويا بما يكفي للاستغناء عن الدعم الإقليمي النادر. فحتى الساعة، تواصل المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة تجميد تبرعاتها وقروضها وبرامجها. من جهتها، لا شك أن القوى التي ساندت الانقلاب ستنتبه يوما ما إلى قصر نظرها، أو على الأقل، هذا ما تتوقعه خلود خير: “الكثير من الشباب اليوم في السودان يكرهون مصر والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل. وهم من سيصيرون يوما ما في السلطة”.