رياضة

كرة القدم في قطر، قصة عائلات

وراء نهائيات كأس العالم لكرة القدم التي تلوح في الأفق مع نهاية عام 2022، تمتلك قطر، على عكس الاعتقاد السائد، تاريخًا رياضيًا. ويعكس التنافس بين أندية كرة القدم في الدوحة وضواحيها في الحقيقة تنافسا بين العائلات القطرية الكبيرة. تشهد هذه اللقاءات الكروية التي يطلق عليها تسمية “الديربي” و“الكلاسيكو” حماسة محلية شديدة تعود خلفيتها إلى انقسامات بلدية ومجتمعية.

ملعب الريان (2020).
Dezeen

بالقرب من ملعب الريان الجديد، تبدأ درجات الحرارة المرتفعة لشهر تشرين الأول/أكتوبر في الانخفاض في هذا الوقت المتأخر من بعد الظهر. في هذا الجزء الصحراوي من قطر الذي يقع في الداخل، على بعد حوالي 20 كيلومتر غرب الدوحة، تقل مستويات الرطوبة. إنه وقت التدريب في مركز نادي الريان الرياضي. تصل المركبات ذات المحركات القوية تباعا إلى المدخل، ويتقدم اللاعبون للتحضير لمباراتين بالغتي الأهمية.

يستعد نادي “الريان”، وهو المؤسسة الأكثر شعبية في البلاد، والذي يدربه اللاعب الفرنسي السابق لوران بلان، لخوض مباراة في البطولة ضد نادي “الدحيل”، الفريق الشاب والقوي للجيش، قبل أن يواجه في نهائي كأس الأمير أحد منافسيه التاريخيين، وهو نادي “السد”، في ملعب الثمامة الجديد الذي سيتم تدشينه بالمناسبة بحضور الحاكم. من جانب الريّان، تَركَّز اهتمام وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم خلال الأسابيع الأخيرة على وصول النجم الكولومبي خيميس رودريغيز. بالنسبة لهذا الأخير يشير مسيرو الفريق، من خلف الكواليس، إلى راتب أسبوعي يقترب من 258 ألف دولار صافية من الضرائب. ويحتل الموضوع المرتبة الأولى في المناقشات على الصعيد الداخلي، حتى قبل نهائي كأس الأمير ذي الأهمية الكبرى بالنسبة لهذا النادي الذي هو في حاجة إلى نتائج رياضية.

ثمن الشرعية

تكثف عمل القسم الإعلامي بالنادي بشكل كبير في الأشهر الأخيرة مع قدوم لوران بلان ثم خيميس رودريغيز، وقد تهاطلت عليه طلبات المقابلات. إذ تسعى قطر من خلال استقطاب نجوم كرة القدم هؤلاء، وبعيدًا عن أي مشروع رياضي، إلى شراء شكلٍ من أشكال الشرعية، حيث يُنظر خطأً إلى هذه الإمارة على أنها من دون ماض رياضي. لكن في الميدان، تظهر جليا بمناسبة المواجهات الكبرى التي تشهدها الملاعب، ثقافة رياضية خاصة بقطر.

توحي التركيبة السكانية القطرية المنخفضة، إلى جانب تأثيرات عولمة كرة القدم التي تحوّل أنظار المشجعين إلى أنديتهم الأوروبية المحبوبة، بأنه ليس لقطر تقليد رياضي. غير أن الشغف بكرة القدم حاضر، كما تشهد على ذلك قناة “الكأس” الرياضية المحلية. وعلى عكس الاعتقادات السائدة، فإن الرياضة ليست بالأمر الجديد في تاريخ الإمارة، وكذلك طابعها السياسي والرغبة في التألق على الميدان. بل يكمن الجديد في البعد العالمي الذي أخذته الرياضة في سياسة الإمارة منذ سنوات الألفين.

في الدوحة، تنبع من مدرجات الملاعب خلال بعض اللقاءات، حماسة عشاق كرة القدم الذين يأملون في انتصار فريقهم. الكلاسيكو1، الدربي2.. تتحدث تلك الكلمات المعولمة والمعرّبة عن نفسها: مباراة “الريان” ضد “السد”، أو مواجهة بين “الريان” و“النادي العربي الرياضي”، تستشف من خلالها منافسات راسخة جدا. فبعيدًا عن السرد الرسمي الذي يروّج لفكرة مجتمع قطري متجانس حول شخصية الأمير تميم بن حمد آل ثاني، فإن منافسات كرة القدم القطرية تعكس انقسامات قائمة. وفي السنوات الأخيرة، فرض الكلاسيكو – أي المواجهة الكروية بين “الريان” و“السد”- نفسه ليصبح المباراة الرئيسية.

سيكون هذان الفريقان القويان مرة أخرى في المواجهة خلال المباراة النهائية المنتظرة لكأس الأمير هذا العام. ويشهد تكرار هذه المباراة في السنوات الأخيرة على الهيمنة الرياضية للفريقين -الريان والسد- على كرة القدم القطرية. وقد جاء نادي الدحيل، المؤسسة الشابة للجيش، ليدخل منذ نهاية العقد الأول من سنوات الألفين هذا الصراع الرياضي. لكن هذا لا يمنع أن المباريات التي تشهد أكبر قدر من الحماسة هي الديربي، بين “الريان” و“العربي” من جهة، و“العربي” ضد “السد” من جهة أخرى.

قضية عائلات ومحليات

تشكلت هوية النادي “العربي” في الخمسينيات من القرن الماضي، في الوسط التجاري لمدينة الدوحة التي كانت آنذاك لا تزال متراصة ومتمحورة حول مينائها وشاطئها. يقول مسؤول رياضي: “فريق”النادي العربي“يعني آل الجابر”، ليؤكد هكذا الانقسام الاجتماعي الذي يهيكل الانتماءات الرياضية. والحديث عن آل الجابر يعني استحضار الأوساط التجارية “الأعجمية”. الجابر، الهتمي، الخليفي.. أسماء العائلات هذه الموجودة في الحمض النووي للنادي ليست كلها “أعجمية”، لكنها مع ذلك تعكس نسيجًا اجتماعيًا تجاريًا موجّها نحو الميناء.

يقول أنصار “الريان” عن أنفسهم: “نحن أهل الصحراء، نحن البدو”. في الريان، في عمق الأراضي، اندمج نادي “الريان” القديم ونادي “شباب الريان” سنة 1967. واجتمعت هذه التشكيلة الجديدة حول قائدي هذين الفريقين، وهما حمد عبد الله المري وماجد أمان العبد الله. تولّى الأول رئاسة النادي الجديد، وخلفه الثاني بعد سنوات قليلة. المري، آل عبد الله، الهاجري، آل ثاني، آل كعبي، آل خاطر.. هي أسماء لعائلات نجدها في التشكيلات الأولى للفريق، وهي تعكس المكان الذي يحتله الريان في ضواحي الدوحة.

تعتبر هذه الواحة المهمة، والتي تم اختيارها كمكان إقامة من قبل الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني في بداية القرن العشرين، معقل آل ثاني، وترتكز فيها العائلات الكبيرة البدوية الأصل، وسلالات المحاربين أمثال آل مرة. وفي قطر، عندما يتم الحديث عن العائلات الكبيرة فهذا يعني السكان الذين تم تحريرهم من العبودية. يحمل منصور مفتاح آل عبد الله، أحد أساطير النادي، علامة العبودية هذه من خلال الاسم الأول لوالده، مفتاح، المنسوب إلى عبيد أو إلى رعايا العائلات الكبيرة.

يغذي نفس خط التقسيم هذا بين العائلات الكبيرة من أصل بدوي والعائلات المنحدرة من أوساط تجارية التعارض بين “النادي العربي الرياضي” و“نادي السد الرياضي”. فهي تشكل مواجهة بين عائلات الميناء هذه، وبين ناد تأسس في مدينة الدوحة الناشئة حول شباب من حي السد، ينحدرون بدورهم من عائلات كبيرة ذات أصول بدوية، آل عطية وآل علي.

“الكلاسيكو”، رمز الشغف الرياضي

خلال العقد الماضي تضاعف عدد لقاءات “الكلاسيكو” بين ناديي “الريان” و“السد” في مباريات حاسمة. وكان نهائي كأس الأمير، الذي جرى يوم الجمعة 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، في ملعب ممتلئ ووسط أجواء عاصفة اتسمت بالعديد من الأحداث الكروية المثيرة للجدل، شاهدا مرة أخرى على التنافس الجغرافي بين الدوحة والريان. تميل الكفة لفريق أو آخر بناء على التاريخ والهوية الكروية أو على سمعة لاعبيه. لكن يبقى نادي “السد” الرياضي أنجح الأندية من حيث الألقاب، إذ يُطلق عليه اسم “الزعيم”. وقد فاز مرتين ببطولة الأندية الآسيوية لكرة القدم، فضلا عن سجله الذي يجذب الأجيال الشابة، إذ يعد في صفوفه لاعبين كبار يرجّحون الكفة لصالحه. كما يحظى هذا النادي بدعم الأمير بوصفه كان رئيسه السابق، على الرغم من ندرة ظهوره في المدرج الأميري بسبب وظيفته. كما كان الأمير الأب -الذي عمل على ترسيخ صورته كبدوي، وهي علامة ارتباط مميزة مع منطقة الريان- مؤيدًا قويًا دائمًا لناديه، وكذلك هو الحال بالنسبة لابنه عبد الله بن حمد آل ثاني، ولي العهد الحالي والرئيس السابق للنادي.

يمكن أن نرى في الخلفية، وراء كرة القدم، ومنذ تولي حمد بن خليفة آل ثاني السلطة في يونيو/حزيران 1995، قطيعة على المستوى الرياضي. إذ أصبحت الملصقات تتركز الآن بشكل أساسي حول نوادي العائلات الكبيرة من أصل بدوي والمرتبطة بالجيش. يتذكر أحد أعضاء نادي “الريان” أن “آخر مباراة كبيرة بين نادينا والنادي العربي تعود إلى عام 2011. كنا في صراع مع خصمنا للفوز ببطولة صعبة، وكان الملعب ممتلئا. لكن أصبحت مثل هذه اللحظات نادرة”.

فعلا، فقد فقدت التشكيلات التي تأسست حول الأوساط التجارية من بريقها، وأصبحت تتواجد في مجالات أكثر “جانبية”، مثل النادي العربي أو كرة اليد. يبدو أن التوجه الجديد أصبح في صالح الأندية التي تنتمي إلى عائلات بدوية كبيرة، وهي ظاهرة يمكن قراءتها من خلال انحياز الأمير حمد بن خليفة آل ثاني لصالح القبائل، على حساب الامتيازات الممنوحة للأسر التجارية، متخذا بذلك توجها معاكسا لوالده. ويدفع هذا إلى إعادة تشكيل المشهد الرياضي ليجعل من “الكلاسيكو” مباراة القمة. لكن على الرغم من ذلك، فإن الشغف بالنادي العربي لا يضعف في قلوب المشجعين، ويبقى شاهدا على تنوع الهويات في قطر. فعملية إضفاء تجانس على الهيكل الرياضي المحلي بقيادة شخصيات من العائلة الحاكمة وشبكات زبائنها لا يمكنها أن تخفي الطبيعة غير المتجانسة للمشهد الرياضي القطري.

كأس العالم 2022: منظمة العفو الدولية تدين عدم الوفاء بالوعود

ضاعفت قطر من الإجراءات القوية خلال الأشهر الأخيرة، مثل إصلاح كبير في قانون العمل طال انتظاره وتم إصداره في أغسطس/آب 2020، أو تنظيم أول انتخابات تشريعية في تاريخ البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 2021. ومع ذلك، وبالنظر إلى تسارع وتيرة الأشغال في الدوحة وضواحيها مع اقتراب موعد نهائيات كأس العالم 2022، لا تزال وضعية العمال الأجانب تمثل مسألة شائكة.

وتشير منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير إلى أنه وراء الوعود بإصدار قوانين طموحة3، فإن الشهادات التي جمعتها المنظمة على الميدان تدحض هذا الخطاب الرسمي. فلا يزال الكثير من العمال الوافدين يخضعون للعديد من عقبات نظام الكفالة، وقد يضطرون إلى دفع مبالغ تصل إلى خمسة أضعاف رواتبهم للاستفادة من حقوقهم الجديدة.

حيث إن اللجوء إلى خصم الأجر من طرف أصحاب العمل قصد كبح الرغبة في تغيير الشركة أو مغادرة البلاد أمر شائع، بالإضافة إلى وتيرة العمل الجهنمية. وتحذر منظمة العفو الدولية من أنه يتعين على قطر، إذا كانت تريد حقًا الوفاء بالتزاماتها، توفير المزيد من وسائل المراقبة على نظام العمل لديها، ووضع نظام عدالة أكثر حيادية للفصل في شكاوى الموظفين والموظفات الأجانب.

وفي الأخير، تدعو المنظمة غير الحكومية الإمارة إلى شفافية أكبر بشأن وفاة آلاف العمال في ورشاتها للبناء. لكن على مقربة عام من كأس العالم، يبدو أن قطر قد اختارت بالفعل بين البحث عن العظمة والعدالة الاجتماعية، وهي تستعمل شتى طرق الاتصال قصد التغطية على انتهاكاتها الصارخة.

1تشير كلمة “كلاسيكو” وأصلها إسباني إلى المباراة بين نادي برشلونة وريال مدريد، والتي تثير متابعة حماسية عالمية.

2وتعني المقابلة التي يلتقي فيها فريقان من نفس المدينة.

3إنهاء العمل بشهادة “عدم الممانعة” التي تفرض على العمال الأجانب الحصول على موافقة صاحب العمل لتغيير الشركة، وإنهاء التصريح بالخروج من الإقليم، وضمان الحد الأدنى للأجور بألف ريال قطري، أي ما يعادل 273 دولار