تناول الحوار أيضاً دور فرنسا ودور أوروبا في المنطقة وسط مخاوف وتوقعات حيال تخفيف الولايات المتحدة لانخراطها في المنطقة (ولو كان هذا سابقاً لأوانه).
على الصعيد النظري، تمت مناقشة التوجهات الاستبدادية المتنامية لدى عدة أنظمة ديمقراطية في الغرب وأمريكا الشمالية، واختتم الحوار بنقاش حول العلاقات الفرنسية-الصينية، في وقت يوجه فيه العالم أنظاره نحو صعود الصين. تحدث ألان أيضاً عن مبادرته الإعلامية، وهي صحيفة إلكترونية تركز على أفريقيا.
بسام حداد: يسرني أن ألتقي بك ونحن سعيدون جداً أنك ستنوّرنا حول أوربا وفرنسا والشرق الأوسط، وما يحدث أيضاً في فرنسا. وهذا مهم للذين يقومون بالأبحاث حول الشرق الأوسط أو يدرسونه. نرحب بك مرة ثانية. هذا تسجيل تقوم به مؤسسة الدراسات العربية. اسمي بسام حداد، ويشرفني كالمعتاد الحوار معك. جمعنا تاريخ مشترك طويل، حاورتك للمرة الأولى في 2005، وأنا أعي جيداً الحضور والتأثير الذي تمتلكه في إنتاج المعرفة حول الشرق الأوسط هنا في فرنسا، ناهيك عن تاريخك مع “لوموند ديبلوماتيك”، فضلاً عن مشروعك الأخير أو المشروع الحديث نسبياً “أوريان 21”، المصدر الذي نقدره عالياً في “جدلية” ومؤسسة الدراسات العربية كما يفعل آخرون في أنحاء العالم. سمعتُ أيضاً أنك تقوم بتوسع جديد تستطيع التحدث عنه قليلاً، لكن دعني أولاً أسألك عن أفكارك حول الوضع الحالي من منظار الموضوع الواسع جداً والعام لأوروبا والشرق الأوسط، مع بعض الانتباه إلى السياسة الفرنسية إزاء المواضيع الساخنة التي تجري، سواء كانت تتعلق بإيران، أو فكرة أن الولايات المتحدة والشرق الأوسط يشهدان تراجعاً في العلاقات -إن شئت- في ضوء الانسحاب الأمريكي التدرجي.
ألان غريش: أولاً، حين تتحدث عن أوروبا وسياستها الخارجية، يجب أن نعرف أنه لا يوجد سياسة خارجية أوربية موحدة. كي يكون لك موقف في السياسة الخارجية الأوروبية، يجب أن تحصل على إجماع 27 دولة، ما يعني أن هذا تقريباً مستحيل، خاصة إذا أردت أن تقوم بفعل ما. بالتالي، هناك بعض المواقف العامة أو الآراء، لكنها ليست فاعلة على الساحة العالمية. لا شك أن أوروبا فاعل عالمي اقتصادي، ولديها الكثير الذي يجمعها في هذا الصدد خاصة مع شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وبلدان المتوسط كمصر ولبنان. هناك بعض العلاقات الاقتصادية المهمة، لكنها تبقى في الحيّز الاقتصادي، وأعتقد إنها ليست سياسة عالمية. لديك سياسات أوروبية خارجية مختلفة كما في ألمانيا وإنكلترا، حتى ولو أنها ليست الآن جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا. وفي المدة الأخيرة، كانت السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط تتمحور حول الحرب ضد الإرهاب. وبعد أن فشل الربيع العربي في معظم البلدان العربية، كانت الفكرة هي العودة إلى السياسة العادية للحكومة الفرنسية لعلى الأقل عشرين سنة، وفكرة أن الديمقراطية ليست ملائمة للعالم العربي، والوضع معقداً جداً، وقد سبب حروباً أهلية في سوريا واليمن وليبيا، وأن الاستقرار مهم. لكن من الجيد أن أذكر أن الاستقرار كان مهماً لمكافحة الإرهاب ولمكافحة الهجرة. ومنذ هذه اللحظة، صارت العلاقات الثنائية لفرنسا لا تأخذ في عين الاعتبار كثيراً حقوق الإنسان. شاهدنا هذا مؤخراً في زيارة ماكرون لبلدان الخليج، فقد ذهب إلى الإمارات والمملكة العربية السعودية وقطر، وكان الهدف الرئيس لزيارته بيع الأسلحة التي نعلم أنها تُستخدم مثلاً في الحرب اليمنية ولدعم القيادات. كان ماكرون أول قائد غربي كبير اجتمع مع محمد بن سلمان. وكان التبرير هو أن المملكة العربية السعودية دولة مهمة، وأنه يحاول أن يصلح العلاقات بين المملكة العربية السعودية ولبنان لاسيما أن فرنسا منخرطة تماماً في الشؤون اللبنانية. بيد أن النتيجة هي أن فرنسا منحت الثناء لمحمد بن سلمان كقائد طبيعي للشرق الأوسط، وأحد الأسباب كما قلت هو الحرب ضد الإرهاب. هذا يفسر بطريقة ما سبب دعمنا لنظام السيسي، وهذا أمر غريب جداً لأنني لا أرى أن السيسي يحارب الإرهاب على أي صعيد. لكن هذه كانت حجة لإرسال طائرات “رافال” إليهم، كوسيلة لمكافحة الإرهاب. لقد قوّينا هذا النظام. واليوم نقول إننا نشارك في حرب ضد الإرهاب وخاصة مع الإمارات العربية المتحدة، لكنني لا أرى أي قتال مشترك ضد الإمارات وفرنسا. أعني نعرف أن العلاقة بين الإمارات وبعض الجماعات الإرهابية في اليمن مثلاً، أو ليبيا، قوية جداً. لكن هذه إحدى الحجج.
الحجة الثانية -وهي مهمة جداً اليوم خصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، في نيسان/أبريل وأيار/مايو- هي مكافحة الهجرة. صارت الهجرة موضوعاً محورياً للسياسة الفرنسية ونريد -أو نحاول على الأقل- أن نساعد البلدان المتوسطية وبلدان الجنوب المختلفة على تشكيل نوع من الحماية ضد الهجرة من أفريقيا. لهذا السبب ندعم النظام المصري، وندعم أنظمة شمال أفريقيا، ونطلب منهم أن يكونوا سدّا منيعا ضد الهجرة. وفي الوقت نفسه، كما تعرف، فإن فرنسا لاعب مهم في الشرق الأوسط وخاصة في بيع الأسلحة. لا أعتقد أنه لدينا الكثير من القدرة على تغيير سياسات بلدان مختلفة. مثلاً، بعد زيارة ماكرون، جرى اتصال هاتفي بين محمد بن سلمان ورئيس الوزراء اللبناني، لكن حتى الآن لم توقف المملكة العربية السعودية مقاطعتها للبضائع اللبنانية. بالتالي، فإن المشكلة حين تدقق في الأمر هي التناقض بين خطاب عام حول حقوق الإنسان، وفرنسا كرمز للديمقراطية، والثورة الفرنسية، إلخ، وبين ما تقوم به من دعم لنظام ديكتاتوري. بصراحة، أعرف أن الدول لا تستطيع بناء علاقات فقط على أساس حقوق الإنسان. إذا انطلقنا من هذا المبدأ، سنقطع علاقاتنا مع الصين ودول أخرى كثيرة. لكن يجب أن تكون هناك حدود، والمشكلة أنه ليست هناك حدود بالنسبة للحكومة الفرنسية. وأعتقد أن هذا واضح خاصة في دعم فرنسا لنظام السيسي، إذ يوجد 600 ألف سجين سياسي في مصر، ولا توجد صحافة حرة أو حزب سياسي مستقل، ويمكن أن تُسجن بأية ذريعة، إلخ. وفي الوقت نفسه استقبلنا السيسي هنا، واحتفينا به احتفاء كبيراً، وهذا إشكالي. هناك أسئلة كثيرة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان. إن التعددية نموذج جيد، لكن حين تقوم دولة غربية كفرنسا ببناء علاقة مع نظام ديكتاتوري، وتنتهك في الوقت نفسه كل ما نقوله عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن هذا يخدم في النهاية أعداء الديمقراطية في الشرق الأوسط. سيقولون: “حسناً، إن الغرب يتحدث عن الديمقراطية، لكن انظروا كيف يتصرف”. ولقد أدى هذا إلى إضعاف الأشخاص الذين يناضلون من أجل الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهم يقولون: “إنهم يتحدثون عن الديمقراطية، ولكن انظروا ماذا يفعلون فعليا”.
بسام حداد: شكراً لك، أريد أن أعود معك إلى المسائل المحلية فيما بعد لكنني أريد أن أسألك حول الفراغ الذي يمكن أن يولده الانسحاب الأمريكي أو الانسحاب من المنطقة، وخاصة أنه توجد حدود لمدى قدرة الولايات المتحدة على الانسحاب من المنطقة، على الأقل في أي وقت. هل تستطيع فرنسا أن تتدخل لملء الفراغ، حتى ولو كان الفراغ بلداناً أصغر بكثير مما يقول الناس، هل تستطيع فرنسا أن تفعل هذا مع بلدان أوربية أخرى في الشرق الأوسط؟ أم أن هذا لن يؤثر على السياسة الفرنسية في هذه المنطقة؟
ألان غريش: أتفق معك هنا، أعني أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة لن يكون كبيراً كما يُنظر إليه، أو كما صُور. سيبقى الشرق الأوسط منطقة مهمة لأمريكا، إذ لدى الأمريكيين خمسون ألف جندي، ولديهم المارينز، والقواعد، ولن يتوقفوا. ما الذي سيتوقف؟ أعني، على الأقل في العقد التالي لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستنخرط في أي حرب على الأرض في الشرق الأوسط. لكن ما هو مهم هو أن كثيراً من الفاعلين في المنطقة يشعرون أنهم لوحدهم ويجب أن يتصرفوا بمفردهم. وحين تنظر إلى الخريطة اليوم، فهذا غريب جداً. أعني هناك أردوغان الذي يبني علاقات مع الإمارات العربية المتحدة، وينفتح على إسرائيل. هناك الإمارات التي تنفتح على إيران، وحتى المملكة العربية السعودية تسير في هذا الاتجاه. لقد فهم الجميع أنهم لوحدهم، ليس بشكل كامل، لكنهم بطرق ما لوحدهم ويحاولون أن يتدبروا الأمر. وغريب جداً أنه لا يوجد تحالفات كما كان الأمر مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أو حتى معسكر المقاومة ضد إسرائيل. فالمسألة الآن مختلفة، أعني الإمارات انفتحت على سوريا، وعلى الأرجح سوريا قُبلت الآن في الجامعة العربية، بالتالي هذه فرصة لأي بلد. وبعد التجربة الأمريكية في أفغانستان والعراق أعتقد أن معظم البلدان الأوربية (وليس فقط أمريكا) غير مستعدة لإرسال جنود والتورط في حروب وصراع في الشرق الأوسط. بالتالي يناورون، بمعنى لديهم مجال للتحرك في الشرق الأوسط، ولكن لسوء الحظ إن هذا المجال هو فقط لبيع الأسلحة. أعني من الواضح أن الأمريكيين خسروا قليلاً بالتالي فإن فرنسا وروسيا تبيعان المزيد من الأسلحة. من المؤكد أن جيوشاً مختلفة وبلداناً مختلفة تريد الحصول على تطمينات عديدة، لكن على الأرض لا يوجد احتمالات لتغيير الأمور سياسياً، ولا أرى فرنسا تلعب دوراً في هذا المجال، وليست فاعلة ولا تمتلك خطة للشرق الأوسط.
هناك أمران إضافيان: بالنسبة لإيران، فإن الموقف الفرنسي غير مهم جداً في رأيي، لكنه ليس إيجابياً جداً. لقد أطلق ماكرون تصريحاً يقول فيه إن الاتفاق يجب أن يُوسَّع كي يشمل إسرائيل ودول الخليج ما يعني أنه لن يُبْرم أي اتفاق. لكن هذه سياسة قديمة، أعني أن الفرنسيين كانوا معادين جداً لإيران لوقت طويل ولا أعتقد أن هذا سيغير الموقف الأمريكي بأية طريقة. إن المسألة الأخرى التي ناقشناها مرات كثيرة هي الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. الآن لدينا تغيّر حقيقي في السياسة ليس في المبدأ. من حيث المبدأ، تدعم معظم البلدان الأوروبية وفرنسا حل الدولتين لكن من الواضح أنه لا يوجد حل دولتين، على الأرض هناك دعم لإسرائيل من فرنسا، وهو اليوم أهم من أي وقت مضى. ثمة علاقات عسكرية وعلاقات أمنية وعلاقات اقتصادية وعلاقات سياسية، دون الأخذ في الحسبان بشكل كامل المسألة الفلسطينية. يقول الفرنسيون: “حسناً نحن نشجب الاستعمار، أو ما نزال نقول بوضوح شديد إننا ندعم حل الدولتين”، لكن هذا لا يغير شيئاً على الأرض بالنسبة لإسرائيل وللفلسطينيين. وبالنسبة لي على الأقل، إن المسألة الفلسطينية محورية لكل شعوب الشرق الأوسط. وحقيقة أن فرنسا تغيرت منذ عشرين عاماً أدت إلى تدهور سياسة فرنسا في الشرق الأوسط، أعني صورة فرنسا التي كانت منذ أربعين سنة إيجابية جداً بعد الحرب، بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلخ. أصبحت فرنسا الآن مثل أية دولة غربية أخرى. لا أعتقد أن هذا إيجابي.
بسام حداد: حسناً، لننتقل قليلاً إلى الجبهة المحلية. هل تأثرت فرنسا كبلد أو نظام سياسي بالتوجه نحو اليمين في السنوات العديدة الماضية في ضوء التحولات على الصعيد العالمي وفي أوربا والولايات المتحدة الأمريكية آخذين في الاعتبار أنه كان هناك انتخابات جديدة في الولايات المتحدة منذ سنة، وكان هناك توجه إلى اليمين؟ كيف تأثرت فرنسا بهذا التوجه وكيف يمكن أن يؤثر في انتخاباتها؟ وكيف يمكن أن تؤثر هذه المسائل في مسائل الهجرة وتلك التي تتعلق بالسياسة الداخلية في فرنسا إزاء العرب والمسلمين وأقليات أخرى من المهاجرين؟
ألان غريش: أولاً، هناك عودة إلى اليمين لكن ربما ليست مهمة في أوروبا كما هي في أمكنة أخرى. مثلاً، ساعدت الانتخابات في ألمانيا الديموقراطيين الاجتماعيين في الحكومة على تهميش اليمين المتطرف. حدث الأمر نفسه في إيطاليا، وفي النرويج. ثمة توجهات إلى اليمين لكنني أريد القول بأن هذا ليس حتميا وليس جلياً. وأعتقد أن هذا يعتمد على كل بلد وتاريخه. لكن في فرنسا، فإن الحركة أكبر من أي بلد آخر. للمرة الأولى، يوجد اليوم مرشحان فاشيان في الانتخابات الرئاسية. سيحصلان معاً على 25 أو 30٪ من الأصوات. ويأتي الخطر الأكبر من الأفكار التي يطورها أشخاص مثل مارين لو بان وإيريك زمّور. هذا الأخير هو من صنع التلفزيون وهو شديد العداء للمسلمين. اخترقت الفكرة المعسكرات السياسية كلها، واليمين بشكل كامل. لدينا الآن مرشح يميني لانتخابات الرئاسة، ليس هذا جديداً. لكن بالتدريج صارت فكرة اليمين المتطرف التي هُمشت مركزية. أعني فكرة أنه لدينا “الاستبدال الكبير”، والذي مفاده أن المهاجرين حلوا مكان الشعب الفرنسي، وخاصة المسلمين إلى حد كبير. منذ 30 سنة كان هذا كلاماً فاشياً، أعني بعض المجموعات الفاشية قبلت الفكرة. بيد أن كثيراً من الأحزاب السياسية تطرحها الآن وليس الجناح اليميني فقط، حتى الأحزاب الاشتراكية تطرحها بطريقة ما. وهذا مقلق جداً. حتى إذا لم يفز اليمين المتطرف بالانتخابات الرئاسية، ولا أظن أنه سيفوز، سيكون لهذا عواقب. إن أحد الأسئلة هو: لماذا هذا التوجه قوي جداً في فرنسا بالمقارنة مع بريطانيا؟ مع إيطاليا؟
بسام حداد: النمسا.
ألان غريش: وأيضاً النمسا. بيد أنني أعتقد أن لهذا علاقة بتاريخنا الاستعماري، هذا التاريخ الذي لم ينته بعد. أعني رأينا الاستفتاء في كاليدونيا الجديدة، ولدينا جزر في المارتينيك وفي غوادالوبه. ما نزال قوة استعمارية ولم ننجح بعد في التخلص من هذا التاريخ. إن التخلص منه يعني النقاش العلني وفَهْم ما حصل ولماذا كان هكذا، وماذا كانت أثمان هذا التاريخ الاستعماري؟ تمحور هذا إلى حد كبير حول الحرب الجزائرية وما يزال، أعني بعد 60 عاماً من نهاية الحرب ما يزال موضوعاً حساساً جداً في فرنسا ولسنا قادرين على فتح نقاش صريح مع التاريخ الفرنسي حول الاستعمار. أعتقد أن هذا مختلف جداً عن الأمر في بريطانيا العظمى، مثلاً. أعتقد أن بريطانيا فعلت بشكل أفضل بكثير، حتى ولو كانت هناك أيضاً جرائم، إلخ، وهذا أنشأ وضعاً تحدث فيه عودة لأيديولوجيا كانت موجودة حين كنا في الجزائر (ما نزال في الجزائر). إن الفكرة هي أننا نواجه المسلمين، وأنهم سيغزوننا، هذا كل ما هو موجود الآن. أعني، تحدثتُ عن “الاستبدال الكبير”، الذي أصبح معرفة عامة. كل يوم يقول الناس: “آه العرب هم من يستعمروننا!” وأعتقد أن هذا أحد أسباب فشل اليسار، المنقسم بشكل كامل تماماً. سيكون لليسار خمسة أو ستة مرشحين وسيحصل كل واحد على 10٪ من الأصوات لكن اليسار لم يكن قادراً، تاريخياً، على أن يناقش بصراحة مسألة الاستعمار هذه وعواقب التاريخ الاستعماري على مجتمعنا، وهذه حقيقة. يجب نعرف كيف بُني مجتمعنا، لديك الآن 25-30٪ من السكان هم من أصل أجنبي والذين بالطبع ليسوا فقط من شمال أفريقيا، لديك سكان من أوربا ومن أفريقيا، إلخ لكنهم جزء مهم من السكان. لكن المزيد من الفرنسيين يعتبرونهم أجانب، لا فرنسيين، وكما تعرف إذا ولدتَ في فرنسا تحصل على الجنسية الفرنسية. بالتالي هذا سبّب انقساماً، وليست هذه هي المرة الأولى التي كان لدينا فيها هذا الوضع. كان لدينا هذا الوضع في الثلاثينيات مع اليمين المتطرف الذي كان قوياً جداً في فرنسا. لكن في مواجهته كان هناك حزب شيوعي/اشتراكي يساري جداً وكان قادراً ليس فقط على مكافحة الفاشية، بل أيضاً على مكافحة العنصرية والمعاداة للسامية، وينبغي القول (خاصة بالنسبة الطبقة العاملة) أن العدو لم يكن الأجنبي، بل الرأسمالي. اليوم لا يوجد فاعلون مثل هؤلاء، لقد اختفوا.. وهذا مخيف جداً.
بسام حداد: كلام دقيق، وهذا أمر لا يقتصر على فرنسا. ما الذي يمكن توقعه في الانتخابات القادمة، وفيما إذا كان من المحتمل أن يكون هناك أي انتقال أو تغيير للوضع الحالي؟ هل هو أمر سيعيد إنتاج النظام، لكن ربما بطرق مختلفة قليلاً؟ أم هل هناك أي أمل بأن يكون هناك تغيير ليس بالضرورة راديكالي، بل نوع من التغيير في السياسات إزاء المهاجرين والناس الذين كانوا هنا لعقود، كما ناقشنا، لكن لا يُنْظر إليهم الآن بوصفهم فرنسيين؟ حتى في محادثاتنا الأساسية مع الناس هنا، وأثناء مجيئنا لزيارتك في البيت، أخبرنا سائقنا -وهو من المغرب- أن العنصرية كانت منذ بضع سنوات غير مباشرة، تشعر بها لكنك لا تراها دوماً، أما اليوم فهي مباشرة ومرئية أكثر. في ضوء هذا الوضع، هل يوجد أي سبب للاعتقاد بأن الانتخابات القادمة ستفعل أي شيء في هذا الاتجاه؟ أم هل سيكون نفس التحرك المنتظر من اليسار؟
آلان غريش: أعتقد أن الأمر سيكون أسوأ. أعني هناك إريك زمور، كما قلتُ الذي هو مناظر تلفزيوني والآن مرشح للانتخابات الرئاسية. فتح المجال لأي شيء ضد المسلمين، وللعنصرية، وحتى للأمور التي حوكم من أجلها وأدانته المحاكم. لكنه حرّر ذلك الخطاب، وهو يتفوّه بأمور لم يكن الناس يتجاسرون على قولها من قبل: “إن المسلمين ليسوا فرنسيين”، “إنهم لا يندمجون”، إلخ. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2017، حين كان هناك ماكرون وفيون من الحزب اليميني. كان فيون متشدداً جداً حيال الإسلام، غير أن ما خدم ماكرون ولعب لصالحه هو أنه لم يقبل مناظرة حول الإسلام. لم تكن هناك مناظرة حول الإسلام في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، والمسألة المحورية الآن هي الهجرة. لماذا الآن؟ ولماذا نجح؟ هناك أسباب كثيرة. أعني الدور الذي لعبه الإعلام، خاصة أنه لدينا الآن قناة تلفزيونية بحجم قناة فوكس نيوز تدعى سي نيوز، يملكها فينسينت بولوري الذي اشترى جزءاً من الصحافة ويقف مع اليمين ولا يخفي ذلك. جعل من خلال قناته التلفزيونية الصغيرة، ولكن التي تعادل قناة فوكس نيوز في التأثير، مسألة الاستبدال الكبير والأمن محور الانتخابات. وهذا خطير جداً. في النهاية سيكون لدينا ثلاثة مرشحين، وكما تعلم في فرنسا لدينا الجولة الأولى ثم الثانية والتي يكون فيها مرشحان فقط، لديك ماكرون وفاليري بيكريس (يمينية) وربما مارين لو بان أو إيريك زيمور (هذا المناظر التلفزيوني). لا أظن أن اليمين المتطرف يستطيع الفوز، لكن أفكاره تفوز، وهذا مقلق جداً. أما بالنسبة لليسار فهو منقسم، ولا يوجد مرشح. إن الأكثر شعبية جان لوك ميلنشون سيحصل على 10٪ أو 12٪ من الأصوات فقط. بالتالي يجب أن نكون قلقين أنه أياً من يكون الفائز سيفوز بخطاب يميني جداً حول الإسلام والمهاجرين، والأمن، إلخ. هل سيحفّز هذا اليسار كي ينظم صفوفه؟ لست متأكداً. إن مسألة الإسلام قسمت في الحقيقة اليسار، حتى يسار اليسار. لدينا جزء من اليسار علماني جداً بالمعنى السيئ للكلمة يقول: “كل الأديان سيئة لكن يجب أن نكافح الإسلام”، إلخ. وهذا تيار خطير جداً.
بسام حداد: نعم هذا صحيح، وأعتقد في المرة السابقة التي حاورناك فيها في 2005 أو 2006 كنا نعمل على مشروع “ضواحي باريس” وطرحت المواضيع نفسها، ولكن حصل المزيد من الهجرة ليس فقط من سوريا أو بلدان أخرى في المنطقة ووراءها. ومن المثير أن مسألة الإسلام هي الآن مثلاً، أكثر وجوداً مما كانت عليه في 2017 للأسباب التي ذكرتها. السؤال الأخير الذي أحب أن أطرحه عليك نظري ويتعلق بمسألة “الديمقراطية” في “الغرب” (وأضع هاتين الكلمتين بين علامتي اقتباس، “الديمقراطية” و“الغرب”)،. كان هناك قلق في الدوائر التقدمية في الولايات المتحدة من أن الديمقراطية في الولايات المتحدة كما عرفناها (أو كما عرفوها) ليست ما كانت عليه، ويتعلق هذا بمسائل العنصرية والاقتصاد والطبقة الاجتماعية وما وراء ذلك. وكان هناك تلك الفكرة بأن الميول الاستبدادية تبدأ بالظهور مع صعود الشعبوية، أو صعود اليمين وهلمجرا. هل هناك أي نوع من الخطاب من هذا النمط في فرنسا؟ هل هناك قلق حيال مسألة “الديمقراطية” نفسها أو أسسها؟ أم هل هذه المسائل داخلة تحت مسائل أخرى ناقشناها؟
ألان غريش: هناك أسئلة حول الديمقراطية خاصة في فرنسا. إن النظام السياسي خاص جداً لأن رئيس فرنسا ملك، يستطيع أن يصدر أي قرار. ليس النظام الفرنسي نظاماً برلمانياً سوياً. ومع انهيار الأحزاب السياسية نتحرك شيئاً فشيئاً نحو نظام رجل واحد. أعني أنه يقرر كل شيء من الأزمة الاقتصادية إلى كوفيد، إلى أي شيء. وبعد تصاعد الهجمات الإرهابية اتخذت فرنسا سلسلة من التدابير هي ضد الحريات. أعني، القانون الاستثنائي الذي يصبح قانوناً عادياً. وهذا مقلق، إنه اتجاه عام لكنه مرتبط أيضاَ بإضعاف الديمقراطية التقليدية.
بُنيتْ الديمقراطية التقليدية في البلدان الغربية على حزب سياسي يمتلك إيديولوجيا، له عضوية، وخلايا في مدن مختلفة، إلخ، الآن لم يعد لدينا هذا والأحزاب السياسية ضعيفة جداً. بالتالي إن أحد النجاحات الكبيرة لماكرون هي أنه كان رجلاً جعل النظام السياسي العادي ينهار من الداخل. كان النظام سابقاً في أزمة ورغم ذلك كان دوماً لديك مرشح اشتراكي، ومرشح يميني من اليمين المتطرف بين فينة وأخرى. غير أنه جعل الآن النظام ينهار من الداخل، وأعني أنه لا يوجد حزب اشتراكي، وقام بإضعاف الحزب اليميني، وأدى هذا إلى وضع أَضْعف الديمقراطية. يمكن أن نضيف إلى هذا إضعاف نقابات العمال، وكان هذا مشروعاً تولاه اليمين والرأسماليون لوقت طويل، وهي الآن ضعيفة جداً ما عدا في القطاع العام. بالتالي فإن الشعب لا يعرف كيف يصنع سياسة. هناك الآلاف، عشرات الآلاف من المنظمات والمنظمات المحلية حول الطقس، حول المشكلات الاجتماعية، ولمساعدة المهاجرين، إلخ، لكن ليس هناك أي مشروع. لم يعد هناك أي أمل. إن الأشخاص الوحيدين الذين لديهم مشروع هم اليمين المتطرف، أعني مشروعاً مبنياً على “نحن الشعب الفرنسي الأبيض ضد السود والعرب، إلخ”. وهذا النوع من القومية شوفينية، ليس قومية، وهذا تيار تستطيع العثور عليه في الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا، إلخ. بالتالي هذا إشكالي. هناك أشخاص يريدون (خاصة الشبان، أنا لا أتحدث فقط عن جيلي) أن يعيدوا ابتكار السياسة. لكن حتى الآن، لم ينجحوا في بناء أي شيء ما يسمح بوجود مشروع سياسي. يمتلكون سياسة محلية دقيقة، وقاموا بتعبئة كبيرة ضد المهاجرين، ومن أجل توليد الكهرباء من المفاعلات النووية، إلخ، لكن لا شيء يوحّد. وهذه مشكلة كبيرة للمستقبل.
بسام حداد: سؤال أخير حول هذه المسألة: كيف تؤثر مسألة إعادة توزيع الثروة على هذه المسائل؟ في 2005، 2006، 2007 شاهدنا أعمال الشغب في الضواحي، سواء كانت عن هذا الأمر أو عن مزيج من المسائل. ما وضع هذه المسألة في فرنسا؟ في الولايات المتحدة مثلاً نرى فجوات تزداد اتساعاً وأعرف أنه في فرنسا هناك نوع من الضوابط والموازين - المزيد من الضوابط والموازين - ضد هذا في الوضع السياسي- الاجتماعي. لكنك تقول إنه في الوضع السياسي الأمر بخلاف ذلك، حيث القوة التنفيذية بلا حدود أكثر مما هو الأمر في أمكنة أخرى وخاصة في الولايات المتحدة إلى حد ما. بالتالي، كيف تؤثر مسألة الطبقة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة على هذه الأمور؟
ألان غريش: من المهم جداً أن نشرح انهيار اليسار. كان اليسار في السلطة (مع فرانسوا هولاند، خاصة، منذ عشر سنوات) غير أنه جعل السياسة النيوليبرالية تُضعف الثقة به بشكل كامل وتقطع أيضاً الصلات بين الحزب الاشتراكي واليسار والطبقات الشعبية. هذا مهم جداً. هناك أيضاً إضعاف الحزب الشيوعي، الذي كان قوياً جداً، وأعني أنه في البلدات الشعبية والأمكنة الشعبية لم يعد اليسار موجوداً. هذا أحد الأسباب التي أدت إلى تطور بعض اليمينيين والفاشيين، لأنهم يمتلكون خطاباً اجتماعياً مثل الذي تجده في الولايات المتحدة وفي أمكنة أخرى. أعتقد أن هذا مهم جداً. فقد اليسار علاقته مع الطبقات الشعبية ليس فقط في الخطاب، بل أيضاً كنشطاء. من قبل كان نشطاء الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي مرتبطين مع نقابات العمال، مع الأمكنة الشعبية، كان لهم حضور محلي، إلخ. الآن انتهى كل هذا.
ترى الآن القادة والأشخاص الذين يعملون للأحزاب الاشتراكية لا يختلفون عن اليمين، إنهم برجوازيون. لا مانع أن يكونوا برجوازيين تقدميين لكنهم فقدوا روابطهم مع الطبقات الشعبية. إن استعادة هذه الصلة صعبة جداً لأن جزءاً من الناس يقول إنه كي نعيد الصلة يجب أن نكون عنصريين، أو يجب أن نكون معادين للمسلمين وللمهاجرين وهذا ما يريده الشعب. لكن في الحقيقة، نقول في غالب الأحيان إن الناس متجهون إلى اليمين ولست متأكداً. هذا مخترع أيضاً. أعني حين ترى الإعلام كله يتحدث عن الأمن كل يوم ولا أحد يتحدث عن المشكلات الاجتماعية يبدو كأن الجميع في فرنسا يريدون التحدث عن الأمن. لكن حين تنتبه، خارج كل هذا الضجيج التلفزيوني، ستسمع الناس يقولون إن أهم شيء بالنسبة لنا هو أن نكسب النقود، أن نحصل على أجور أفضل، إلخ.
بسام حداد: حسناً، لدينا فقط دقيقتان، وهناك الكثير لقوله حول مسألة العلاقات الفرنسية- الصينية من منظار ما يحدث في العالم اليوم في ضوء الانتباه المخصص للصين وصعودها، وخاصة في الولايات المتحدة؟ أهناك أي شيء يحدث في هذا الحقل تريد أن تتناوله؟ أم الموضوع ليس ناضجاً الآن؟
ألان غريش: تمارس الولايات المتحدة ضغطاً هائلاً على أوروبا كلها لجعل الصين عدونا الرئيس. ليس فقط علينا، بل على ألمانيا وكل أوربا. لكن أوربا متحفظة لأنها لا تريد الدخول في حرب باردة كبيرة مع الصين. لديها علاقات اقتصادية لكن يوجد ضغط قوي جداً. وهناك ضغط داخلي أيضاً. ما يزال لدينا إعلام معاد لروسيا قوي جداً ولدينا الآن أكثر فأكثر فكرة أن الصين تشكل خطراً علينا ويجب أن نقاتلها. هذا يحدث أكثر على المستوى الفكري والإعلامي لكن يمكن أن يلعب دوراً في المستقبل. وأعتقد أنه سيكون خطيراً جداً دخول هذه الحبكة، أعني بالطبع هناك مشكلة، الصين تواجه مشكلات كثيرة ولا تستطيع أن توجز سياساتها هنا، لكننا نريد علاقات معهم أم هل نريد أن نجهز للحرب التالية؟ هذه هي المسألة.
بسام حداد: حسناً، شكراً جزيلاً لك ألان، كان هذا عميقاً جداً بالنسبة لي وآمل أن نواصل الحديث معك. لكنني أفهم منك أن المرء إذا شعر بخيبة أمل من الحياة في أمريكا كنتيجة لهذه المسائل المتعلقة بالعنصرية وحتى “الجندر” والسياسة، فإن فرنسا ليست الوجهة الأفضل الآن.
ألان غريش: لسوء الحظ ليست الوجهة الأفضل. لكنها كانت كذلك لبعض الوقت. أشتاق في الحقيقة إلى الوقت الذي ذهبت فيه إلى الشرق الأوسط وكان الناس يسألونني: “هل أنت فرنسي؟” لم يسألوني عن توجهي السياسي، لكن كان مهماً جداً أن فرنسا كانت تدعم الفلسطينيين وحقوق الإنسان، إلخ، أحب أن أعود إلى تلك الأوقات.
بسام حداد: حسناً، افعلْ هذا على مستوى ما. ونعم آمل أن نتحدث معك مرة ثانية حين يقترب موعد الانتخابات وربما عن طريق الإنترنت. شكراً جزيلاً لك على وقتك وكرمك وعلى القهوة والحلويات واستضافتنا في منزلك.
ألان غريش: شكراً لكم على زيارتكم.
بسام حداد: آه، قبل أن أغادر، هل تريد أن تقول شيئاً عن المشروع الذي أطلقته؟
ألان غريش: نعم، نحن الآن في العام التاسع من “أوريان 21 وكما تعلم بدأنا مؤخراً نكتب عن أفريقيا جنوب الصحراء لأن فرنسا متورطة هناك، فضلا عن أنها كانت موجودة في ليبيا والجزائر والمغرب إلخ. حققتْ المقالات نجاحاً كبيراً، ولهذا تناقشنا مع الأشخاص الذين كتبوا عن الأمر وكانوا مهتمين بالقيام بمحاولة لإطلاق شيء ما مثل”أوريان 21" لكن حول أفريقيا. أطلقنا الموقع في أيلول/سبتمبر - تشرين الأول/أكتوبر، والآن سنبدأ بإطلاقه بشكل كامل بمقالة كل يوم في كانون الثاني/يناير. يوجد فريق من الصحفيين جيد جداً ومطلع على شؤون أفريقيا. هناك أشخاص مهتمون. أعني يوجد فرنسيو الشتات من أصل أفريقي، وملايين الأشخاص الذين يعيشون هنا. هناك أيضاً 20 بلداً يتحدث الفرنسية، ولا يوجد الكثير من الإعلام الحر والمستقل حيال هذه المسائل. ولهذا نحن متفائلون حول مستقبل موقع AfriqueXXI.