إن القومية الغربية المفرطة التي ظهرت مع الأزمة الأوكرانية لدى المحلّلين والمعلّقين العسكريين ووسائل الإعلام والسكان جديرة بالملاحظ والمتابعة على وسائل التواصل الاجتماعي. إذ هناك عدة نقاط في هذا الخطاب الاوروبي تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار ويمكن أن نستخلص منها بعض الدروس للشرق الأوسط.
الغرب لا يزال موجودًا
أولاً، لا تزال أوروبا والغرب حاضرين بقوة في التاريخ. بعد نهاية الحرب الباردة، كتب المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بأن الرأسمالية الغربية الليبرالية انتصرت في معركتها ضد الشيوعية وضد الماركسية كأيديولوجيا. قد لا تكون أطروحته خاطئة، لكنها كانت سابقة لأوانها، إذ تواجه الرأسمالية الليبرالية الغربية تهديدًا يتمثل في الرأسمالية الاستبدادية المقترنة بالقومية المفرطة، وذلك مع قوتين: روسيا فلاديمير بوتين وجمهورية الصين الشعبية لشي جين بينغ.
قد تكون أخطاء روسيا السياسية والعسكرية في أوكرانيا دلالة على هزيمة وسقوط قريب لإحدى هاتين القوتين واحتواء للأخرى. فقد نسف عجز روسيا عن تحقيق انتصارات كبيرة وسريعة بأقل عدد من الضحايا في كلا الجانبين طموحاتها في أن تتمتع بمكانة القوة العظمى.
تُعد القوة العسكرية عاملا رئيسيا في السياسة الدولية، غير أن استعمالها ينطوي على مخاطر تتراوح بين الأداء السيء والهزيمة الكاملة، وإن حصل أحد الأمرين، فذلك يؤدي إلى تضاؤل سمعة ومكانة البلد المعني في نظر الآخرين. إن عدم الكفاءة التي تظهر بها روسيا منذ بداية الهجوم على أوكرانيا لم تصل ربما إلى مستوى حرب الشتاء مع فنلندا سنة 19391. واليوم، لم تتمكن موسكو في مواجهة الأوكرانيين، بمراعاة الأبعاد المجتمعية واللوجستية للوضع، كما أن نيران الاستطلاع لم تكن فعالة لدعم تقدم مشاتها ومدرعاتها أمام وحدات النخبة الأوكرانية المتنقلة ذات الروح العالية. هذه الإخفاقات ليست محرجة على الأرض فقط، بل جعلت العالم يعترف بأنه كانت هناك مبالغة في تقدير قوة روسيا.
قد أجرؤ على القول بأنه لم يتبق سوى قوتين عظميين، هما الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. لا يزال الجيش الأمريكي يتمتع بالهيمنة والإعجاب الناجمين عن أدائه في عملية “عاصفة الصحراء” سنة 1991، والغزو السريع للعراق في 2003، ولم تنل النتائج النهائية لهاتين الحربين، لاسيما الفشل الذريع في أفغانستان في منتصف 2021، من بريق قوته.
ثانيًا، يُكذّب تمجيد المقاومة البطولية لأوكرانيا فكرة انحدار الغرب، ويُظهر بأن كل الحديث عن تراجع الروح والحماسة القتالية لديه مبالغ فيه. وإذا كان الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر2 هو أول من كتب في هذا، فقد تم تبني هذا الموضوع من طرف الروس والصينيين خلال السنوات الأخيرة، وبحسب رأيي، بمبالغة كبيرة.
مقاوم أبيض وإرهابي داكن البشرة
ثالثا، يولّد العدوان المفتوح مقاومة وطنية. ولا يمكن سوى أن نُعجَب بردود الفعل البطولية للأوكرانيين في مواجهة فعل عدواني واضح. غير أن هذا التمجيد للمقاومة من جانب الغرب يلقي الضوء على عقلية استعمارية. لا يسعنا إلا أن نلاحظ بأن المقاومة الوطنية في الشرق الأوسط لا تلقى نفس النوع من الإشادة. وتُبرز تصريحات المسؤولين الغربيين والتعليقات الغبية أحيانا من وسائل الإعلام هذه الفجوة. فقد حظيت فرقة القوات البحرية الأوكرانية التي ضحت بنفسها على جسر بالقرب من خيرسون فيما يبدو أنها مهمة انتحارية بثناء واسع النطاق؛ ولكن إذا وقع عمل مماثل في الشرق الأوسط، فإن وسائل الإعلام ستتحدث عن تعصب لا يمكن تفسيره إلا من خلال ثقافة مجتمعات المنطقة!
بل وصل الأمر إلى تحوّل المعلقين إلى مستشارين عسكريين يشرحون للأوكرانيين -المدنيين والعسكريين- كيفية استعمال تكتيكات حرب المدن بوحدات صغيرة، بينما يصرّح مسؤولون من دول أوروبا الغربية إنه ليس لديهم اعتراض على ذهاب مواطنيهم إلى أوكرانيا للقتال هناك. كما يتم الترحيب باللاجئين الأوكرانيين في أوروبا الغربية، لأنهم مهاجرون “ذو كفاءات”، ناهيك عن كونهم “شقر بعيون زرقاء مثلنا”، على حد قول أحد رواد وسائل التواصل الاجتماعي - الذي لم يكن أشقرًا ولم تكن عيناه زرقاوتين. علاوة على كل هذا، نجحت هذه الحرب في أن تجعل من أوكرانيا دولة أوروبية بالكامل. والحال أنه قبل ثمانين عاماً، كان العديد من أجداد الأوروبيين الغربيين يعتبرون الأوكرانيين مجرد أنصاف رجال سلافيين ـأي من درجة أدنى- يتواجدون على حافة أوروبا. واليوم، أصبح أبناؤهم وأحفادهم يرحبون بهؤلاء بوصفهم أوروبيين “يشبهوننا بالكامل”، ويحتضنونهم كلاجئين، كما يتطوعون للخدمة في الجيش الأوكراني أو في الجماعات شبه العسكرية، وتوفر لهم الحكومات الأسلحة الفتاكة. كان يجب لتحقيق هذا التحول السريع أن تكون هناك حرب بدلا من أن يحصل تطور في القيم والمعايير المشتركة.
إن هَبَّة التعاطف والدعم الأوروبي لحرب مقاومة وطنية يشنّها “شعب أبيض” تذكّرنا بأيام الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، عندما أشادت الحكومات والشعوب الأوروبية بالمقاومة الوطنية للشعب الإسباني الذي كان يقود حرب عصابات شرسة ضد فرنسييي نابليون، وكذلك لشعب كالابريا الذي كان يحارب نفس العدو.
اتسمت هذه الحروب باقتراف فظائع من كلا الجانبين. كما تم بعد نهاية الحروب النابليونية عام 1815 قمع الحروب الداخلية بدون شفقة في أوروبا لأنها كانت مرتبطة بانتفاضات البروليتاريا في القطاع الصناعي. بطبيعة الحال كانت هناك استثناءات، مثل التعاطف الكبير مع حرب التحرير الوطني في إيطاليا تحت قيادة زعيم حرب العصابات القومي، جوزيبي غاريبالدي، والتجنيد الجماعي المجهض للفرنسيين بعد هزيمة القوات المسلحة التقليدية في الحرب الفرنسية-البروسية 1870-1871.
ولكن خارج العالم الأوروبي، حيث كانت القوى الاستعمارية تعمل على إخضاع شعوب ذات البشرة السمراء والسوداء والصفراء، وُصفت حروب المقاومة الوطنية بـ “الخارجة عن القانون”. وكانت فكرة تجرؤ شعوب “متوحشة” و“شبه متحضرة” على معارضة “مزايا الحضارة” التي تجلبها أوروبا إلى هذه المناطق “المتخلفة” غير مفهومة.
ماذا إذا جاء دور إيران غدا؟
أخيرًا، يمكن للشرق الأوسط أن يعتبرَ من الأزمة الأوكرانية فيما يتعلق بحروب المقاومة الوطنية. إذا تعرضت إيران للهجوم بسبب تجاوزاتها المزعومة، فهل سيتم دعم مقاومتها كما تُدعم أوكرانيا اليوم؟ هل سيواجه المهاجم نفس مستوى المعارضة لهجومه العسكري مثل روسيا؟ الجواب على كلا السؤالين هو قطعَا لا. لماذا؟
إيران ليست دولة غربية أو أوروبية. لذلك فهي ليست دولة “متحضرة”. وهي ليست دولة مسيحية، بل دولة مسلمة وهذا يدينها في نظر الغرب. صحيح أن الإيرانيين هم بالتأكيد هندو-أوروبيين، لكن هذا لا يعني أن إيران بلد “أبيض”. هم ليسوا أوروبيين “مثلنا”، على عكس ما أصبح عليه الأوكرانيون. والحقيقة هي أن النظام الدولي يقع تحت طائلة تمييز هرمي لا يمكن إنكاره مبني على لون البشرة و“امتياز البيض” والذي أطلق عليه أحد المراقبين على تويتر عبارة “جواز سفر اللون”.
قد يقول البعض بأن هناك سببا آخر يجعل إيران بلدا غير مرغوب فيه، كونه ليس دولة ديمقراطية. ولكنني لا أعتقد بأن غياب الديمقراطية هو الأصل والسبب الذي يواصل تبرير العداء الغربي. سيتم إضفاء الشرعية والقانونية على الاعتداء على إيران من خلال عدد لا يحصى من المبررات التي سيتم تقديمها للأمم المتحدة قبل شن الهجوم.
ليس لإيران حلفاء ولا كثير من المتعاطفين في العالم. والحال أن هذا بُعد مهم للقوة غالبا ما يتجاهله المراقبون. أن تتحدى الغرب عمل مكلف، هذا ما اكتشفته روسيا وما ستكتشفه كذلك الصين إن قررت ضم تايوان. أما إيران، فهي أضعف بكثير من هاتين القوتين حتى وإن كانت قدرتها على التسبب في أضرار في الشرق الأوسط لا يستهان بها. خاصة وأن للغرب تأثير هائل على الاقتصاد ويمكنه القيام بأعمال انتقامية لها أثار مدمرة على المستهدف من غضبه. أما إيران فلن تكون قادرة على شن حرب مقاومة وطنية فعالة في حال المواجهة. فالمقاومة الوطنية ضد هجوم عدواني يقتصر على الهجمات الجوية والبحرية ويتطلب لُحمة قوية بين الدولة والمجتمع. وإيران، مهما أكد قادتها، تعاني من عائق كبير في حشد مجتمعها لمواجهة هذا النوع من العدوان الخارجي، ويتمثل في الهوة العميقة بين المجتمع والدولة، والذي يؤثر على تماسكها وصمودها. بالمقابل، إذا ارتكبت قوة أجنبية الخطأ القاتل المتمثل في شنّ غزو بري واحتلال واسع النطاق، سينجرّ عن ذلك إحياء للقومية الإيرانية من جديد وبقوة، كما حصل ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 ـ 1988).
يرجع جزء كبير من هذه الهوة إلى النظام نفسه. أما عن رد فعل العالم الخارجي على عدوان محتمل، فمن المؤكد أننا لن نقرأ نصائح على تويتر حول كيفية القيام بحرب المدن، كما لن نسمع أي ثناء عن المقاومة الإيرانية. بل على العكس، سيتم إدانة الإيرانيين لاستعمالهم ممارسات “بغيضة” وأساليب مقاومة “غير عقلانية”، وهي نفس الأساليب التي يشاد بها في أوكرانيا. فالمقاومة الوطنية امتياز البيض!