دبلوماسية

مصالحة محسوبة بين تركيا وأرمينيا

في ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بدء المحادثات بين بلاده وأرمينيا. ومنذ ذلك الحين، تضاعفت الاجتماعات الدبلوماسية، واستؤنفت الرحلات الجوية بين أنقرة ويريفان لأوّل مرّة منذ سنة 1993. لكن نجاح هذه العملية يعتمد في الأخير على نتيجة مفاوضات السلام بين أرمينيا وأذربيجان.

أنطاليا، 11-13 مارس/آذار 2022. وزير الخارجية الأرمني أرارات ميرزويان (على يسار الصورة) ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو (على اليمين) خلال منتدى أنطاليا الدبلوماسي.
Cem Ozdel/وزارة الخارجية التركية/وكالة فرانس برس.

“شعبان قريبان، وجارتان بعيدتان”. هكذا كان الصحفي التركي الأرمني هرانت دينك -الذي قُتل في اسطنبول أمام مكتب جريدته “آغوس” في عام 2007- يرى العلاقة بين تركيا وأرمينيا. كان الرجل يكافح من أجل تحقيق حلمه، وهو تطبيع العلاقات بين الدولتين. واليوم، يبدو هذا الهدف أقرب من أي وقت مضى، حتى لو كان هذا التقارب يتعلق أساسًا بالمجالات الاقتصادية والدبلوماسية على المدى القصير.

نفوذ أذربيجان

أُغلقت الحدود البرية بين الجارتين منذ عام 1993 بقرار من الحكومة التركية، كردّ فعل على غزو أرمينيا للمقاطعات الأذربيجانية السبع قره باغ، خلال حرب ناغورني قره باغ الأولى (فبراير/شباط 1988- مايو/أيار 1994). وقد كانت استعادة العلاقات التركية الأرمنية من بين أولويات حكومة رجب طيب أردوغان خلال سنواتها الأولى. فقد كانت تركيا آنذاك في خضم الحوار من أجل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وكان الانفراج مع أرمينيا جزءاً من سياستها الخارجية. في هذا السياق، زار رئيس الجمهورية التركية السابق عبد الله غول سنة 2008 يريفان لحضور مباراة كرة قدم بين المنتخبين، ولاقت هذه اللفتة ترحيبًا من قبل العديد من القادة الأوروبيين.

في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2009، وقّع البلدان على بروتوكول لإعادة العلاقات الدبلوماسية في زيورخ. ومع ذلك، لم يصدّق أي من البرلمانين أبداً على هذه الوثيقة. ويعود السبب الرئيسي لانتهاء هذه العملية وفق بيرم بالسي، مدير المعهد الفرنسي لدراسات الأناضول، لموقف أذربيجان المعادي، بعد أن استخدمت باكو حق النقض خوفًا من العزلة في حالة تقارب تركي أرمني. من جانبها، لا تريد تركيا المجازفة بعلاقاتها مع أذربيجان، كون الأخيرة شريكاً اقتصادياً أساسيا لأنقرة، لا سيما في مجال المحروقات.

أما السبب الثاني لفشل هذه المحادثات الأولى، فهو المنعرج المناهض للغرب الذي تبناه الرئيس أردوغان منذ عام 2013، إذ تم تعليق المفاوضات مع أرمينيا عندما لم تعد عضوية الاتحاد الأوروبي مُدرجة في أجندته السياسية. وفي عام 2017، أدى كلّ من التحالف السياسي مع حزب العمل القومي ثم الدعم العسكري والمالي لأذربيجان خلال حرب ناغورني قره باغ الثانية إلى تدهور العلاقات الثنائية بين الأتراك والأرمن مرة أخرى، وبشكل كبير.

تحسّن السياق الجيوسياسي

في 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أخيرًا استئناف المحادثات. وبعد شهر، انعقدت القمة الأولى بين الوفدين التركي والأرمني في موسكو، ثم جرى اجتماع دبلوماسي ثانٍ في 24 فبراير/شباط بفيينا. واستؤنفت الرحلات الجوية التجارية بين أنقرة ويريفان في 2 فبراير/شباط 2022، بعد توقّف دام 30 عامًا. وأخيرًا، اعتُبرت مشاركة وزير الخارجية الأرمني أرارات ميرزويان في المنتدى الدبلوماسي بأنطاليا في 11 مارس/آذار 2022 علامة جديدة على الاسترخاء بين البلدين. وخلال هذه الزيارة، قال الوزير الأرمني “إن غالب الشعب الأرمني يؤيد التقارب”.

يكمن الاختلاف الأكبر مع تجربة عام 2008 في حرب ناغورني قره باغ الثانية. فبالنسبة لسنان أولغن، وهو دبلوماسي سابق ومدير مركز دراسات الاقتصاد والسياسة الخارجية -وهو مركز أبحاث تركي-، كان اتفاق وقف إطلاق النار في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في ناغورني قره باغ ضروريًا لاستئناف المحادثات. من الجانب التركي، تم تحقيق شرط أنقرة لفتح حدودها، وهو إعادة المقاطعات السبع الواقعة خارج قره باغ إلى أذربيجان، بعد أن احتلها أرمينيا منذ عام 1994. ومن الجانب الأذربيجاني، لم تعد باكو تستخدم حق النقض ضد عملية السلام، بعد أن أصبح الوضع الراهن في ناغورني قره باغ لصالحها.

العامل الثاني الذي يجب مراعاته هو التحول الذي طرأ في السياسة الخارجية التركية. يعلّق سنان أولغن قائلا: “تسعى تركيا لإصلاح علاقاتها مع جيرانها، وكذلك مع الغرب، ويجب قراءة التقارب مع أرمينيا في هذا السياق. كما تسعى الحكومة التركية إلى فرض نفسها في دور الحكم في القوقاز، كما هو الحال في الحرب على أوكرانيا”. قد تتعارض هذه السياسة مع الكرملين، إذ تريد روسيا السيطرة على العملية، ما يفسّر انعقاد المحادثات الأولى في موسكو. ويضيف أولغن: “يؤيد بوتين الحوار التركي الأرمني، لكن قد يتغير موقفه إن أصبح مجال النفوذ التركي مهمًا للغاية في الجوار الروسي”.

من الجانب الأرمني، تمكّن عودة العلاقات مع تركيا من تخفيف الاعتماد على روسيا. فأرمينيا عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف عسكري تهيمن عليه روسيا ويعدّ ست جمهوريات سوفيتية سابقة، وهي أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان، وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان. وقد تجد أرمينيا نفسها مضطرة إلى تعبئة قواتها في حال تعرّض إحدى الدول الأعضاء إلى هجوم مسلّح. يشرح ميشيل ماريان، وهو أستاذ في معهد الدراسات السياسية بباريس، قائلاً: “بالنسبة للعديد من الأرمن، زادت الحرب في أوكرانيا من شعورهم بأن تحالفاً ذي أولوية قصوى مع روسيا قد يقود أرمينيا إلى الانخراط مع فلاديمير بوتين في مغامراته المتهورة. إلى جانب ذلك، فإن الانفتاح على تركيا يغري جزءاً كبيراً من الأرمن، ذلك أن الحاجة إلى الخروج من العزلة باتت أهمّ من المسائل التاريخية والجيوسياسية”.

أما في الدوائر القومية الأرمنية، فلا تلقى هذه المحادثات نفس الاستقبال الرحب. إذ ينتقد التحالف الأرمني -وهو أول قوة معارضة سياسية في البرلمان، وله نفس أيديولوجيا حزب داشناك القومي- قيادة رئيس الوزراء نيكول باشينيان لهذا الملف. بالنسبة إلى باكرات إستوكيان، وهو كاتب في صحيفة “أغوس” التركية الأرمينية اليومية، فإن الرأي العام متوجّس من هذا التقارب، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى الموقف الذي تبنته تركيا خلال حرب ناغورني قره باغ الثانية. “بعد اتفاقيات نوفمبر/تشرين الثاني 2020 التي أضفت طابعًا رسميًا على هزيمة أرمينيا، اتهم العديد من الأرمن نيكول باشينيان بأنه خان البلاد. ونسمع اليوم نفس الخطاب في سياق المحادثات مع تركيا”.

تطبيع بخطى صغير

حتى لو تضاعفت اللقاءات، تظل مسألة الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن بمعزل عن المحادثات. ووفق سنان أولغن، فإن “طلباً كهذا من الجانب الأرمني سيعيق المفاوضات”. ويرى الباحث أن التطبيع سيتم قبل كل شيء في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي. “ستكون الخطوة الأولى هي فتح سفارات لكلا الجانبين، وسيلي ذلك فتح الحدود البرية واتفاقيات تجارية. لكنني لا أعتقد أنه سيتم توقيع اتفاقية تجارة حرة”. وبالنسبة لباكرات إستوكيان الذي ينظر إلى هذا التقارب باستحسان، فإن العديد من الأرمن يخشون أن يُغرق الاقتصادُ التركي السوق الأرمنية. ويضيف: “مع فتح الحدود واستئناف التجارة، أخشى أن تصبح أرمينيا بمثابة قبرص الشمالية الثانية، أي منطقة يسيطر عليها رجال الأعمال الأتراك من خلال الكازينوهات وتجارة الأسلحة وتهريب المخدرات”.

ومع ذلك، تبقى عودة الحوار رهينة عوامل خارجية. وقد يؤدي استئناف الصراع المحتمل في منطقة ناغورني قره باغ إلى تعريض تحسّن العلاقات التركية الأرمنية للخطر. وبالنسبة للحكومة التركية، فإن محادثات السلام بين أرمينيا وأذربيجان ستكون حاسمة لمواصلة العملية. وفعلاً، في 7 أبريل/نيسان 2022، أجرى رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان محادثات مع نظيره الأذربيجاني إلهام علييف في بروكسل، بوساطة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل. وأعلن الرجلان في ختام الاجتماع إطلاق الاستعدادات لمحادثات السلام بين البلدين. ومع ذلك، لا يوجد أي ضمان. ففي 26 مارس/آذار 2022، اتهمت أرمينيا وروسيا أذربيجان بانتهاك وقف إطلاق النار في ناغورني قره باغ، وهو ادعاء نفته باكو.