حرب التحرير الجزائرية

معسكرات إعادة التجميع، أو كيف عملت فرنسا على تفكيك الأرياف الجزائرية

خلال حرب الاستقلال، قام الجيش الفرنسي بتجميع سكان عديد القرى الجزائرية في عملية يشار إليها بشكل محتشم باسم “التهدئة”، وذلك قصد منع المقاتلين الاستقلاليين من الاستفادة من دعمهم. في الحقيقة، تم حشر أكثر من مليوني جزائري في معسكرات تخضع للسلطة العسكرية، مما أدى إلى تفكيك المجتمع الريفي.

معسكر إعادة تجميع، بالجبابرة، الشلف.
© بيار بورديو، “مؤسسة بيار بورديو”.

“في ألف قرية من قرى إعادة التجميع، يتعلم مليون جزائري العيش في القرن العشرين”، تحت هذا العنوان نُشر عدد جريدة “باريس-جورنال” (باريس جريدة)، الصادر بتاريخ 11 مايو/أيار 1959. وهو عنوان صادم فعلاً، إذ يتعلق الأمر في الحقيقة بالمعسكرات التي حشر فيها الجيش الفرنسي أعدادا كبيرة من سكان الريف الجزائري، قصد مواجهة حرب العصابات التي تقودها جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني بشكل أفضل. ومع ذلك، تُبرز هذه الصيغة الرهانات الدلالية للنقاش الذي أثير بعد نشر تقرير روكارد1 الذي كشف في آذار/مارس 1959 عن وجود هذه السياسة الواسعة للتهجير القسري.

في ردّه على منتقديه الذين يتهمونه بإنشاء عدد كبير من المعسكرات على التراب الجزائري، يقول الجيش الفرنسي بأنه يعمل من خلال ذلك على ضمان “حماية” سكان الريف من “المتمردين” الجزائريين، بل وحتى على العمل على ترقيتهم اقتصاديًا واجتماعيًا من خلال تهيئة “قرى جديدة”. وقد كانت هذه الاستراتيجية الخطابية ناجحة، ففضلا عن منح شرعية جديدة للجيش -لا تخلو من المفارقات- لتكثيف “إعادة التجميع” باسم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فرض هذا الخطاب على الساحة العامة صورة “القرية” بدل “المعسكر”، ما عزّز الكبت الجماعي تجاه إحدى أضخم حالات عنف الدولة في التاريخ المعاصر.

بالفعل، عند نهاية الحرب، كان ما لا يقل عن 2,35 مليون جزائرية وجزائري يصارعون من أجل البقاء في هذه المعسكرات. وبالتالي، فإن ما يقارب ربع سكان الريف كانوا يخضعون إلى نوع خاص من الحبس، يتسم بالتسلط العسكري، وغياب الحريات الأساسية، وهشاشة اقتصادية واجتماعية مستدامة في الغالب. ممارسة تكاد تكون عادية

هذه “التجمعات” المعروفة بفضل أعمال ميشيل كورناتون هي بالتأكيد معسكرات، قام الجيش والإدارة الفرنسيين بإنشائها على الأراضي الجزائرية خلال حرب الاستقلال، ولا يقل عددها عن 2392 معسكرا. ما زلنا حتى اليوم غير قادرين على تقدير عددها بدقة، ما يؤكد سعة نطاق هذه الممارسة التي صارت شبه عادية. ممارسة وُلدت في منطقة الأوراس، في شرق البلاد، لقاء تأثيرات متعددة.

تمت عمليات الترحيل الأولى -التي وُصفت على أنها “انسحابات”- بتحريض من الإداريين المدنيين والإطارات العسكرية ابتداء من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وكان يُفترض أن يتم من خلالها تهجير الجبل لترك المجال مفتوحا للوحدات العسكرية، وإجبار الجزائريين على إظهار طاعتهم للسلطة. تم بعد ذلك الأخذ بهذه التجربة من طرف ضباط ما يسمى بمصلحة “شؤون الأهالي الأصليين بالمغرب”2، الذين تم انتدابهم في الأوراس ليحلوا مقام الإدارة أثناء الحرب. وقد وضعوا عقيدة أولية لإعادة التجميع، تتأرجح بين قطبين متكاملين، ففضلا عن كونه أداة مواتية لمحاربة المجاهدين -حيث يحرمهم من الدعم اللوجستي والمعنوي الذي يقدمه السكان لحرب العصابات التي يقودها جيش التحرير الوطني-، كان يُنتظر أن يسمح تجميع السكان بتركيز عمل الدولة وتسهيل الإصلاحات التي تهدف إلى التخفيف من التفاوتات الاجتماعية، قصد استمالة سكان الريف لصالح الحكومة الفرنسية.

لكن منذ البداية، صار هذا الجانب الإصلاحي - المتمثل في خلق “مركز إعادة تجميع نهائي”- ثانويا، ليصبح مجرد مشروع افتراضي ترفعه السلطة العسكرية لتبرير تسريع التهجير القسري للجزائريات والجزائريين. تهجير قسري يسمح أساسا بتعويض ضُعف تعداد العسكريين آنذاك، والذي لم يكن كافيا لضمان تغطية شاملة للإقليم. وقد أدى تبني “عقيدة الحرب الثورية” إلى تسريع انتشار هذه الممارسة، بدفع من الضباط المقتنعين بأن فرنسا تواجه في الجزائر نفس نوع الحرب التي تسبب في هزيمتها في الهند الصينية، والذي يتعين خوضه بأساليب جديدة.

كما ذهبت التعبئة المدنية في نفس الاتجاه. ففي قسنطينة (شرق الجزائر) مثلا، قامت الإدارة الجهوية بقيادة المحافظ موريس بابون بالدفع نحو نفس الديناميكية، باسم الضرورات العسكرية لقيادة حرب عصابات مضادة و“ثورة مضادة”، تهدف إلى هزيمة جبهة التحرير الوطني/ جيش التحرير الوطني على أرض معركتها، أي الثورة الاجتماعية والسياسية. ومن ثم تسمح إعادة التجميع بتدمير المجتمع الريفي لكي تتم إعادة بنائه بشكل أفضل لصالح قوى “التهدئة”.

على خطى الجمهورية الخامسة

أدى انقلاب مايو/أيار 1958 الذي أدى إلى استكمال عسكرة الإدارة الجهوية وإدارة المقاطعات، ثم التحضير لاستفتاء سبتمبر/أيلول 1958 -وقد تم من أجله تجميع الجزائريات والجزائريين بأعداد كبيرة- إلى تسريع هذه الحركة، على الرغم من محاولات الإدارة المركزية، التي كانت تسعى إلى ضبط هذه الممارسة المكلفة جدا ولم تكن تشجّعها.

من خلال تبني مبدأ “إعادة التجميع النهائي” مع تقييد إمكانيات التمويل، سعت الإدارة المركزية بالجزائر إلى الحد من تنمية هذه الاستراتيجية، في وقت كانت السلطات الإقليمية تتبناها كحجة لإضفاء الشرعية على تكثيف عمليات التهجير. وهي ديناميكية متناقضة استمرت بعد عام 1959، عندما تبنى الممثل الجديد للحكومة في الجزائر، بول ديلوفريي، مبدأ “المركز النهائي” بإطلاق برنامج الـ “ألف قرية”، ولم يكن العنوان الذي ذكرناه أعلاه سوى أحد أصدائه العديدة في فرنسا.

بالفعل، كانت هناك ثلاثة أهداف لهذا البرنامج: إخماد الفضيحة النسبية الناجمة عن نشر تقرير روكارد من خلال مجهود دعائي مكثف، وخلق ديناميكية تسمح باسترجاع السلطة المدنية لصلاحياتها التقليدية، وبالتالي استعادة التحكم على الإنفاق العام الذي استباح الجيش لنفسه إدارته، وإحداث تحولٍ لدى السكان والمجتمع الريفي في إطار مخطط قسنطينة، من خلال الإكثار من هذه “القرى الجديدة”، التي عُهد تقييمها إلى مفتشية عامة للتجمعات السكانية، لكنها كانت ضعيفة ولم تدم طويلا. ويبقى أن حجة تحويل هذه المراكز إلى قرى استُخدمت بشكل أساسي لإضفاء الشرعية على استمرار إعادة التجميع، حتى جعلها عملية ممنهجة في مناطق معينة. وقد بلغ هذا المنطق ذروته مع الجنرال جان كريبان.

تتميز مراكز التجميع -التي تعد نوعا معينا من المعسكرات، يختلف عن معسكرات الاعتقال والمحتشدات- بغياب شديد للتجانس يعود إلى عدة أسباب. فهناك طرق التهجير، حيث يتعلق الأمر بتهجير سكان قرى بأكملها بالقوة العسكرية، أو بتجميع لاحق لجزائريات وجزائريين فارين من المناطق المحرّمة. وكذلك بسبب طرق الإقامة في المعسكر، من خلال النقل إلى قرى تم إخلاؤها أو إلى أخرى ما تزال مأهولة، أو إنشاء معسكرات من عَدَم، قريبة إلى حد ما من أراضي المنشأ.

كما يساهم التشكل الديمغرافي في هذا التباين، مع وجود مدن صغيرة تجمع بين أسر بضع عشرات من العمال الزراعيين، ومخيمات الرحل الكبيرة لسكان جنوب وهران، الذين يقترب عددهم أحيانا من عشرات الآلاف. فضلا عن التشكل الاجتماعي، حيث إن علاقات العمر والجنس تتغير وفق كثافة المواجهة المحلية، حتى وإن كان أغلبية السكان من الأطفال والأحداث من جهة (بين 45 و55% من مجموع سكان المخيمات، مقابل 42% في المناطق الريفية خارج المخيمات)، وذكور من جهة أخرى (متوسط النسبة بين الجنسين 0,89 رجل لكل امرأة، على عكس المعدل الريفي البالغ 1,19).

مراقبة وتأطير وتنظيم

ومع ذلك، تتميز هذه المعسكرات بممارسات هيكلية مماثلة من حيث تأطير الدولة، إذ يجب مراقبة السكان المدنيين الذين هم رهان وأداة النزاع، وتأطيرهم وتنظيمهم في القتال ضد جبهة التحرير الوطني/جيش التحرير الوطني، وفق سلسلة من تقنيات الرقابة الاجتماعية، منها شبكة الأسلاك الشائكة التي تحدد مجال الممارسة. وتُعد سلطة ضباط الشؤون الجزائرية المكلفين بهذه الأقسام الإدارية المتخصصة، والذين غالبًا ما توكل إليهم إدارة المعسكرات، شكلا من أشكال النشاط الرعوي.

في هذه الأماكن الخاضعة للمراقبة العسكرية، تعتمد الحياة اليومية للسكان المهجرين بشكل أساسي على الانضباط الذي تفرضه السلطة، سواء من حيث المجال (كما يتضح ذلك من التنظيم المهيمن للإسكان على نموذج خطة رقعة الداما) أو من حيث الحياة الاجتماعية، من خلال إرساء طقوس للحياة اليومية، ورقابة صارمة على المداخل والمخارج، ومراقبة الأنشطة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، سواء كانت تندرج ضمن المجال الجماعي أو الأسري، بل حتى ربما هيكلة وتنظيم المدنيين وفقا لمبدأ “التسلسلات الهرمية الموازية” الذي يفضله أعضاء المكتب الخامس.

وكون هدف التجميع هو تشكيل “مجموعة الدفاع الذاتي” التي تسمح نظريا بتحرير القوات العسكرية المسؤولة عن مراقبته، يسعى قادة الأقسام الإدارية المتخصصة جاهدين للحصول على تأييد -إن لم يكن انخراط- الجزائريات والجزائريين. ويعتمدون في ذلك على ترسانة من التقنيات التي تتراوح بين الإكراه (من العنف الرمزي إلى العنف الجسدي) والإقناع، وذلك من خلال توزيع الأغذية، وبناء المساكن، والتشغيل في ورشات العمل، وأيضا وعلى الخصوص تعليم الأطفال الصغار وتشغيل المراهقين. كل هذه الوسائل تسعى في نفس الوقت إلى تحويل الجزائريين عن جبهة التحرير الوطني والفوز بدعمهم.

يكرّس العديد من الضباط جزءًا كبيرًا من وقتهم لهذه الاشغال التي تهدف أيضًا إلى التقليل من آثار الأزمة الاقتصادية والصحية والاجتماعية الناتجة عن الاقتلاع العنيف وغير المخطط له في كثير من الأحيان، إذ تُعدّ حالة الهشاشة، وحتى البؤس، التي وصلت إليها الأسر الريفية إنكارًا صارخا لمشروع تطوير القرى المذكور أعلاه.

خسارة وسائل الإنتاج -وهي ظاهرة واسعة الانتشار دون أن تكون ممنهجة- حرمت غالبية العائلات المهجَّرة من وسائل عيشها التقليدية، دون أن يتم تقديم وسائل جديدة لها. وإذا كانت هناك بعض الأنشطة النادرة المدفوعة الأجر (وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى إن أجر “الحركي” عامل قوي لتجنيد الأعوان، يفوق الارتباط الوطني)، فهي جد قليلة، ولا تكفي لتشغيل مئات الآلاف من الفلاحين المجبرين قسرا على البقاء بلا عمل. هذا الوضع يجعل هذه الأسر المنبتّة عرضة إلى شكل آخر من الاعتماد على الإغاثة الغذائية واللباس التي توزّعها الإدارة أو المنظمات الخيرية القليلة (مثل منظمة “سيماد” والصليب الأحمر والإغاثة الشعبية الفرنسية)، والتي سُمح لها بدخول المعسكرات بعد عام 1959. فسوء التغذية وما يترتب عليه من هشاشة فيزيولوجية، وكذلك الاكتظاظ والمساكن غير الصحية، فضلا عن ضعف الهياكل الأساسية العامة وخاصة الطبية منها، كلها عوامل تقود لأزمة صحية كامنة باستمرار. صحيح أن هذه الأزمة ليست ممنهجة، لكنها حالة عامة في هذه المعسكرات، حيث بات ارتفاع معدل الوفيات ملحوظًا. ويمكن -دون مبالغة- تقدير أن ما يقارب 200 ألف جزائري -أغلبهم من الأطفال- لقوا حتفهم هناك، وأن هذه الوفيات هي نتيجة مباشرة لتواجدهم في المعسكرات.

ميّزت عواقب اقتصادية واجتماعية أخرى هذه المعسكرات على المدى الطويل. فعلى الرغم من تنوع المسارات الفردية والعائلية، فإن معظم هذه العواقب استمر في الواقع بعد الاستقلال، مما يبرز الطبيعة “المستدامة” لهذا العنف المفروض على السكان. وهكذا شكلت ممارسة إعادة التجميع أوج أزمة الزراعة التقليدية التي نشأت قبل الحرب. ففي هذا المجتمع الذي يغلب عليه الطابع الريفي، أكمل هذا الاجتثاث -من خلال منع العمل الزراعي والتقليل من قيمته- عملية التدمير وإنهاء وجود الفلاحين التي بدأتها الإصلاحات العقارية في القرن التاسع عشر. إذا كان هذا الواقع يساهم في تفسير إحجام الفلاحين عن العودة الى أنشطتهم التقليدية، فإن استمرار هذه المعسكرات يعود أيضًا لعوامل أخرى، من بينها أولاً وقبل كل شيء تدمير البيئة الريفية (تدمير القرى، انقطاع الوتيرة الزراعية، ترك الأراضي الزراعية بورا مما يساعد على تنامي الحياة البرية، الحد من القطعان أو حتى اختفائها)، التي غالبًا ما تمنع أية عودة إلى الوضع الطبيعي. خاصة وأن هؤلاء السكان يواجهون أنماطًا جديدة من العيش التي تشكّل الثقافة الحضرية. ولكن سكان المعسكرات القدامى، الذي يتراوح مجال إمكانياتهم الاقتصادية بعد الحرب بين البطالة والعمل الزراعي المأجور أو الهجرة إلى المدن، نادراً ما يصلون إلى هذا العالم الحضري كما يطمحون.

اضطرابات بيئية واقتصادية واجتماعية كثيرة من الضروري أخذها في الاعتبار من أجل تقييم صحيح لطبيعة ومدى ونطاق عنف الدولة هذا، خاصة في سياق إحياء ذكرى استقلال الجزائر، حيث لاتزال معسكرات التجميع -التي تبدو ذاكرتها مدفونة تحت أساطير “التهدئة”- مجهولة إلى حد كبير.

1ميشال روكارد، الوزير الأول السابق، كان في تلك الفترة متفقدا للمالية، وقد حرّر هذا التقرير تحت تلك الصفة.

2“الأهالي الأصليين” تُقال بالفرنسية “أنديجان”، وهي تسمية لا تخلو من ازدراء.